د. محمود باكير
(نشر هذا المقال في مجلة العربي – الكويت، العدد 691، يونيو 2016 )
هناك سؤال قديم – جديد يُطرح دائماً على مستوى النخب العربية , وهو: لماذا تقدم الغرب , ولماذا تأخرنا؟. وثمة أجوبة عدة عليه من وجهات نظر مختلفة,سياسية, أو فلسفية, أو دينية, أو غير ذلك كثير. وتتفاوت صحة وجهات النظر تلك وفق طبيعة منطلقاتها, وخاصة مدى التصاقها “بالنموذج الإرشادي” Paradigm ( بالمعنى الاصطلاحي للكلمة)(1) للحقل المعرفي الذي تنطلق منه . وكثيراً ما تكون هذه المنطلقات غطاء لدوافع سياسية كامنة؛ لهذا تفتقر هذه الدراسات للموضوعية العلمية. والمقاربة المطروحة حالياً ,للإجابة على هذا السؤال, تتسم بقدر كبير من التجريد, كونها تمتح من الفكر الرياضي, أكثر العلوم موضوعية. لأن الرياضيات, من وجهة نظر عديد من فلاسفة الرياضيات, تُكتشف ولا تُخترع, أي أنها ” هِبَة إلهية”, وفق ما يقوله أفلاطون (427-347 ق.م). وهذا سيمنح هذه المقاربة درجة كبيرة من الوثوقية, التي قد تفتقدها غيرها من وجهات النظر. إضافة إلى أنها تعتمد على أدوات عقلية بحتة, إلاّ أنها ليست ” وضعية ” , إذا سلّمنا بما يقوله أفلاطون. لهذا يصعب أن يشوبها بعض ما يشوب غيرها؛ و هذا يساعدها في أن تحافظ على ” طهارتها ” العقلية, إن جاز التعبير. ولذلك ستكون أداتنا الرئيسة في هذه المهمة أهم أدوات التفكير الرياضي, وهو ” التفكير المفاهيمي” المتحرر من طبيعة أي سياق. لأن التفكير ضمن السياق غالباً ما يكون ملاصقاً له , و متأثراً به . كما يمكن أن يطغى على ” العلاقات ” القائمة فيه , و يدثرها , مع أن هذه ” العلاقات ” هي المفتاح لفهم ما يجري , و ليس السياق , لأن ” العلاقات ” هي الصورة, والسياق هو المادة التي تظهر به هذه الصورة. ومن أجل ذلك لن نستخدم سوى المعايير العقلية في إجلاء هذه الصورة , و بلورة ما نصبو إليه ,متكئين في مسعانا على الفكر الرياضي . فضلاً عن ذلك فإن الرياضيات هي ” اللغة الكونية ” – إن جاز التعبير – التي وهبنا إياها الخالق كي نعبّر بها عما تعجز عنه اللغات الأخرى .