د. محمود باكير
(دراسة منشورة في مجلة المستقبل العربي – مركز دراسات الوحدة العربية(بيروت), العدد478, ديسيمبر/كانون أول 2018)
مقدمة
يقول أرخميدس: “أسمُ فوق نفسك واستوعب العالم”. وقد جذب هذا القول علماء الرياضيات من خلال وضعهم إياه على ميدالية فيلدز Fields Medal (نظير جائزة نوبل في الرياضيات). والقول يعني تجرّد من نفسك وعندها “ستدرك” كنه العالم. وهذا القول البسيط – العميق هو مفتاح الحل لما يعانيه العالم من اضطرابات, وخاصة ما تعيشه منطقة ما أصبح يطلق عليها “الشرق الأوسط”(1).فهذه المنطقة تموج أكثر من غيرها بالاضطرابات عبر تاريخها الطويل. ويعزى جزء كبير من أسباب ذلك إلى عوامل سياسية, وإيديولوجية, خاصة بالمنطقة, فضلاً عن جغرافية. ولتقديم فهم أعمق لما يجري فيها, وسبب الاستعصاء, سنلجأ إلى الرياضيات, كأداة, كونها علماً حيادياً, نتيجة لطابعها الصوري, الذي تنفرد به عن غيرها. والتفكير الرياضي, في هذا السياق, ليس سوى أداة لسبر أعماق ما يجري على المستوى الذهني عند أطرافها المتصارعة. وربما هو الوسيلة الوحيدة المتاحة للخروج من أتون هذه الصراعات بعد تشخيصها.
والسؤال: لماذا تطول هذه الصراعات؟ ومن أين تنبع استدامتها؟ وقبل الإجابة على ذلك لا بد من الوقوف قليلاً عند علاقة الرياضيات بعقل الإنسان, لأنها المدخل لفهم معضلة هذه المنطقة المولدة للصراعات. فما يتحكم في عقول جزء كبير من سكان المنطقة, وربما غيرهم, بالقياس, هو حالة خاصة من تلك العلاقة. فالرياضيات, ليست, كما يظن بعضهم, أعداداً, وعمليات حسابية عليها, بل إنها, وفق الرياضي والفيلسوف هنري بوانكاريه: “لغة مبنية جيدا”, نستخدمها للتعبير عمّا تعجز عنه اللغات الأخرى. أو هي طريقة لفهم الواقع على نحو موضوعي, لا تأخذ في الحسبان الضعف الإنساني.
ولا يمكن النهوض بالأمة العربية إلاّ بدراسة العقل وأسباب قصوره, لأنه محرك كل شيء, وذلك تمهيداً لتبني “العقلانية”, وإعلاءً لشأنها. فبدون العقل لا يمكن بناء مؤسسات علمية, ولا حكومة دستورية, ولا دولة مؤسسات. لذلك يعد الفلاسفة أن: “الدولة تجسيد للعقل”(2). و”العقلانية” كاتجاه شخصي, وفق تعريف فيلسوف العلم كارل بوبر, هي: “في صورتها الذهنية البالغة التطور إلى أعلى حد نجدها الاستعداد لأن يناقش المرء معتقداته مناقشة نقدية, وأن يصوبها في ضوء المناقشات النقدية مع الآخرين”(3). أي أن “العقلانية”, ببساطة, هي القدرة على التصحيح الدائم “للحالات العقلية” التي يثبت عدم صحتها, أو عدم دقتها. والسؤال: متى يمكن تحقيق ذلك؟ أي متى يستطيع الإنسان أن يبدي استعداده لأن يناقش معتقداته بصورة نقدية؟ ولماذا يفتقد كثير من الناس إمكانية التفاهم مع الآخرين, والتواصل معهم؟ ما كلمة السر في ذلك؟ وما هو سبيل العلاج؟
فكما بيّنت الدراسات الحديثة أن العادات الإدراكية عند الناس ليست نفسها في جميع مناطق العالم(سيرد الحديث عنها لاحقاً) على المستوى الجمعي, كذلك الحال فإن الإنسان, كفرد (أو حتى كمجموعة), يمكن أن يطوّر “منظومة ذهنية” خاصة به, أو خاصة بتلك المجموعة. أي كما أن العادات الاجتماعية قامت بتطوير عادات إدراكية عند الإنسان, فمن المتوقع أن تقوم الظروف الخاصة التي يعيشها الإنسان بتولّيد “منظومة ذهنية” (سيشرح مفهومها لاحقاً) خاصة به. وبالنسبة إلى بقية الناس ليس من الضروري أن يكونوا محكومين “بمنظومة ذهنية” معينة تطبع تفكيرهم. ومن هؤلاء يأتي التغيير والإبداع الحقيقي.
وإذا انتقلنا إلى جزئية أكثر تخصصاً بغرض التوضيح, نجد أن أحد الأهداف المتوخاة من تأليف جون ماكليش كتابه هو: “شرح كيفية نشوء أنظمة عددية مختلفة في مجتمعات مختلفة, والكيفية التي ساعد بها كل نظام على تشكيل المجتمع الذي ابتكر هذا النظام”. ثم يضيف أن المعرفة الرياضية, مهما كان نوعها: “ليست شيئاً مستقلاً وقائماً بذاته, بل هي جزء من مجموع التفاعلات البشرية”(4). وإذا سلّمنا بما يقوله برتراند رسل(5) من أن العنصر الصوفي الذي كان مسيطراً في الشرق قديماً بلا منازع, أعاق تطور الملاحظات العملية إلى نظريات في الرياضيات؛ وفي هذا اختلف الشرق القديم عن الإغريق. ويقول: “ولكن ما أنقذ اليونانيين من الوقوع في براثن هذا العنصر (يقصد العنصر الصوفي) وحده, هو ظهور المدارس العلمية في أيونيه”(6). ثم يضيف رسل: “إن الحضارة اليونانية حضارة متأخرة بالقياس إلى حضارات العالم الأخرى, إذ سبقتها حضارتا مصر وبلاد ما بين النهرين بعدة ألوف من السنين…ولقد توصلت مصر القديمة وبابل إلى بعض المعارف التي اقتبسها الإغريق فيما بعد, ولكن لم تتمكن أي منهما من الوصول إلى علم أو فلسفة”(7). لأنه من المعروف أن المصريين القدماء ألموا بكثير من خصائص الأشكال الهندسية, بسبب معاناتهم من فيضان نهر النيل سنوياً. ويقول أول مؤرخ إغريقي هيرودوت Herodotus (485 – 425 ق.م): “ويبدو لي أن هذا هو السبب في أن مصر سبقت غيرها إلى معرفة الهندسة, وعنها أخذها الإغريق”(8). بيد أن هذه الخبرة العملية, على الرغم من أهميتها العلمية, لم تتطور إلى علم نظري. لذلك لم ينتبهوا إلى أهمية البرهان الرياضي. ويقول أحمد سليم سعيدان: “ويظهر أن عدتهم (يعني المصريين) الأساسية كانت حبالاً, كأشرطة المساحة, يشدونها”(9). ويشير رسل إلى بعض الأسباب التي حالت دون نضوج تلك الخبرة إلى علم, ومنها: “وإنما الذي يهمنا هو أن وظيفة الدين لم تكن تساعد على ممارسة المغامرة العقلية”(10). ويبرر ذلك بقوله: “ففي مصر كان الدين معنياً إلى حد بعيد بالحياة بعد الموت. فالأهرامات كانت صروحاً جنائزية”(11). ثم يتابع قوله عن الناحية الدينية في بلاد ما بين النهرين: “كان الاهتمام الرئيسي منصباً على السعادة في هذا العالم, وكان تسجيل حركات النجوم وما صاحبه من ممارسات للسحر والتنجيم موجهاً من أجل هذه الغاية”(12). لأنه, على الرغم من أن جذور الرياضيات مستمدة من الواقع الفيزيائي, بيد أن تحوّل الخبرة العملية إلى نظريات رياضية تتطلب وثبة عقلية من نوع خاص قوامها التجريد. وهذا لا يتحقق عند أولئك الواقعين تحت سيطرة “منظومتهم الذهنية”, مهما كان نوعها. لأنهم واقعين تحت تأثير جاذبيتها, ولا يمكن الخروج من نطاقها إلاّ “بسلطان” ( وفق التعبير القرآني ). أي أن ثمة نوعاً من “المنظومات الذهنية”, كانت تعيق ولادة التفكير العلمي الصرف في هذه المنطقة, بغض النظر عن الأسباب. والحال ذاته وقعت أوربا فيه بعد عدة قرون, ولكنها استطاعت التخلص منه. فقد كان تراث فيثاغورث عقبة كأداء في تطور الرياضيات في أوربا, ولكن لأسباب مختلفة, لأن فيثاغورث كان صاحب مدرسة في الفلسفة تعتقد بأن الأعداد تتضمن حقيقة طبيعة الأشياء, وتعزى إليها بعض الصفات الباطنية. لذلك اهتم أتباعه بالمغزى الباطني لبعض الأعداد, وليس بخواصها الرياضية. واستمرت هذه النزعة في الغرب عدة قرون. أي أن هذه المدرسة حاولت استخلاص “منظومة ذهنية” خاصة بها, تحوّلت فيما بعد إلى ما يشبه العقيدة.
“الحالات العقلية”
تعد فلسفة العقل أهم موضوع في الفلسفة المعاصرة, لعدة أسباب, لا مجال لشرحها, لأن هذا ليس هدفنا من هذه الدراسة(13). فما يهمنا دراسة بعض “الحالات العقلية” عند بعض الأفراد, أو بعض الجماعات. ويعرّف جون سيرل “الحالة العقلية”: “بأنها حالات حسابية في المخ. المخ هو كومبيوتر والعقل هو برنامج أو مجموعة من البرامج. والمبدأ الذي شكل أساس العديد من الكتب المدرسية كان: العقل بالنسبة إلى المخ يماثل البرنامج بالنسبة إلى الخردوات (hardware)”(14). ويعرّف سيرل “الحالة الحسابية”, أو “الحسابات” (algorithms) بقوله: “الحساب هو أسلوب لحل مشكلة بدراسة سلسلة دقيقة من الخطوات. ويجب أن تكون الخطوات محددة العدد, وإن تمت الدراسة بصورة صحيحة فسوف تؤمّن جواباً للمشكلة”(15). ويجدر الإشارة إلى أن الترجمة الأكثر استخداماً لهذه الكلمة (algorithms) هي “الخوارزميات”, وليست “الحسابات” كما وردت في ترجمة الكتاب. أي أن “الحالات العقلية” عند الإنسان هي “خوارزميات” يصطنعها صاحبها. وسنتناول هذه “الحالات العقلية” من وجهة نظر رياضية, ومدى تأثير بعضها السلبي على صاحبها أولاً, وعلى غيره ثانياً. وقبل ذلك سنحاول تبيان: ما هو العقل؟ أو ما هي “الحالة العقلية” التي يمتلكها بعضنا, ويتصرف في ضوئها؟ وكيف تنشأ؟ ولماذا تتحول إلى ما تشبه “منظومة ذهنية”.
نعلم أن هناك دماغاً إنسانياً واحداً, بيد أن العقل أمر مختلف تماماً. لهذا نريد أن نبين, بغض النظر عن اختلاف المقاربات لطبيعة العقل, أنه نتيجة لظروف معينة, فإن الإنسان (أو جماعة من البشر) يمكن أن يطوّر “آلية” للتفكير خاصة به, ينفرد بها عن غيره, يمكن تسميتها اصطلاحاً “منظومة ذهنية”. وغالباً ما تطبع هذه “المنظومة” مخرجات تفكيره بطابعها. كما أنها غالباً ما تعمل على تشويه تفكيره, وتؤثر على “نقائه” الذهني, الذي يُعَدّ ضرورياً كي يُحسن الإنسان استخدام عقله على الوجه الصحيح. كما تحرمه من نعمة “التفكير الصوري”, أو على الأقل, تحد من القدرة على اكتسابه. لأنه على الرغم من أن العقل, وفق رأي أغلب الفلاسفة, ملكة إنسانية مشتركة, وهبة إلهية لكل البشر, بيد أن توظيفه يختلف من فرد إلى آخر, أو من جماعة إلى أخرى. يقول رينيه ديكارت: “بأن القسمة الوحيدة العادلة بين البشر هي توزيع العقل بينهم”. أي أن المسألة تتعلق بمالك هذا العقل, وليس بواهبه. ووفقا لهذا المالك (المستخدم), إما أن تتطور هذه “الهبة” الإلهية وتورق, أو تضمر, وتضمحل.
وما يشير إلى عدالة قسمة العقل هو أنه من القواعد الأصولية الفقهية أن الله: “إذا أخذ ما وهب أسقط ما أوجب”. لذلك يقول الشاطبي: “إن مورد التكليف العقل, وبفقدانه يرفع التكليف”. أي أن التكليف بأوامر الشرع ونواهيه مشروط بالعقل. فكيف يمكن تطبيق هذه القاعدة الفقهية على جميع البشر إذا لم يكن هناك افتراض مسبق بأن الإنسان أمام وضعين مختلفين تماماً: إما أن يكون لديه عقل, ويكلّف شرعاً, أو ليس لديه عقل, ومن ثم غير مكلّف شرعاً, ولا حالة وسط (ثالثة) بينهما؟ لأنه في خلاف ذلك, كيف يمكنه تطبيق الشريعة إذا كان من الممكن أن يحصل هذا الإنسان على نصف العقل, أو على ثلاثة أخماسه؟ أو غير ذلك من الأجزاء, لأنه سيطالب, عندها, بنصف الشريعة, أو بثلاثة أخماسها. ثم ما هي الأجزاء من الشريعة التي سيطالب بها دون غيرها؟ وهذا لا يمكن العمل به, أو حتى التفكير فيه. أي بصيغة أخرى, إذا وجدت حالة افتراضية ثالثة بينهما فسيكون هناك عدد لا نهائي من الحالات. وهذا يتطلب عدداً لانهائياً من الأحكام الفقهية!
وتأكيداً على كلام ديكارت فإن معظم أقوال العلماء, ونخص منهم كبار علماء الرياضيات (لأن الرياضيات تتطلب جهداً عقلياً كبيراً), يؤكدون على أهمية الجهد الفردي في التحصيل العلمي, وليس على المقدرة العقلية, أو الموهبة, باستثناء من يعانون من مرض خاص. لذلك يقول جون ماكليش, على سبيل الذكر لا الحصر: “ليس صحيحاً أنك إما أن تكون موهوباً في علم الرياضيات, وإما ألا تكون كذلك. والتفريق الحقيقي الوحيد الذي يجب هنا إدخاله في الحسبان هو التمييز بين أولئك الذين عُلّمُوا الأعداد تعليماً سيئاً وأولئك الذين وعى معلموهم أن المقدرة الرياضياتية لا تتعلق بهبة سماوية, وإنما هي تنمو (أو لا تنمو) نتيجة للعملية التعليمية”(16).
وما يؤكد على الجهد العقلي قول الرياضي كارل غوص (وهو من أهم العقول التي عرفها تاريخ العلم) من أنه: “لو أن الآخرين تأملوا بالحقائق الرياضية, بالعمق والاستمرار الذي قام به, لكانوا حصلوا على مكتشفاته نفسها”. وثمة أقوال أخرى لنيوتن وآنشتاين وغيرهما من العباقرة تحمل المعنى نفسه, لا حاجة لتكرارها. لهذا يقول ماكليش: “أما العلماء فإنهم يشغلون دورا أساسياً في العمل على تنسيق فروع المعرفة وتطبيقاتها. أما الإبداع, مثله مثل الأخلاق, فشيء آخر”(17). ويبدو أن مصطلح “الذكاء” يعني فعلياً “نسبة” تفعيل الإنسان لعقله.
ومن المعروف أن أفضل تعبير عن النشاط العقلي هو الرياضيات لأنها علم عقلي بحت. لذلك تعد أفضل العلوم التي يمكن أن تتناول هذه المسألة, للعلاقة العضوية بينهما, وخاصة بعد اعتماد فلاسفة العقل تعريف الرياضيات لبرتراند رسل تعريفاً للعقل.
وقول ديكارت لم يكن وحيداً, بل شاركه عديد من الفلاسفة الكبار في ذلك, منهم إيمانويل كانت حينما يقول إنه: “نتيجة كون الحقيقة المطلقة واحدة, لذلك يجب أن يكون العقل المحض واحداً عند البشر”. أي أنه لا يمكن أن تكون هناك “حقيقة” تناسب كل عقل على حدة.
وما يؤيد وجهة نظر ديكارت, أنه لم ترد في القرآن الكريم كلمة “عقل” ذاتها, بل تردّدت في مواضع مختلفة, كلمة “يعقلون”, أو “لا يعقلون”, كما في قوله تعالى “بل أكثرهم لا يعقلون” (العنكبوت: 63). فقد وردت لفظة “العقل” بصيغة الفعل في القرآن الكريم في تسعة وأربعين موضعاً, ولم ترد بشكل مصدر مطلقاً. أي أن الخطاب الإلهي استخدم تصريفات فعل “عَقَلَ” التي تحمل طابع الممارسة من العقل, ولم يستخدم كلمة “العقل” ذاتها ككائن قائم بذاته. وهذا يوحي بأن العقل شيء يمكن تفعيله, ومن ثم استثماره. فالتركيز في القرآن الكريم كان على إعمال العقل, وليس على العقل ذاته كمعطى.
وهذا الاستخدام يظهر, على نحو جلي, بطريقة التفكير, وبمخرجاته, وهذا ربما لا خلاف عليه. ولكن ما سنبينه أن بعضاً من هذا “التوظيف”, وليس بالضرورة كله, يولّد نوعاً من “المنظومات الذهنية” التي تزاحم العقل في وظيفته السامية, وكثيراً ما تكون بديلاً عنه, دون أن نشعر بذلك. وفي هذا تكمن خطورة هذا النوع من “المنظومات” على صاحبها, أو على غيره. وطبيعة المشكلة في هذا النوع من “المنظومات”, يعبّر عنها نعوم تشومسكي, ولو في سياق آخر, من أن: “هوية شيء ما تعتمد على طريقة نشوئه”(18). أي أن مشكلتها تكمن في طريقة نشوئها, التي أتت نتيجة لظروف خاصة جداً, وربما غير سوية, لتصبح فيما بعد مظلةً دائمة للتفكير. أو ربما قد تؤول, بعد تبلورها, إلى منهج يُستخدم في عديد من المواقف, والحالات, البعيدة تماماً عن ظروف ولادتها, ولتلوّن نتائج تلك الظروف كل ما سيأتي بعدها بلونها الخاص. وأغلب هذه “المنظومات” يصعب عليها أن تتسم بالاتساق, بسبب طريقة نشوئها. فقد وُلدت من رحم ظروف اجتماعية أو سياسية معينة, أو نتيجة تأثير إيديولوجيا خاصة, لتخدم مرحلة, أو ظرف تاريخي معين, ثم تحوّلت, في اللاشعور, إلى منهج دائم للتفكير, لذلك يصعب عليها أن تكون متسقة, لأن ولادتها ليست منطقية في أغلب الحالات, ولا تنشد المنطق أصلاً.
ومن المعروف أن منطقة الشرق الأوسط متخمة, بالتراث والمعتقدات. وربما يعزى سبب ذلك إلى أنها كانت مهبطاً للديانات السماوية الثلاث, هذا عدا عن أنها كانت مركزاً لحضارات عديدة منذ القدم. لذلك نرى أن الصراعات الإيديولوجية, على اختلاف أنواعها, على أشدها في هذه المنطقة, على الرغم من المفارقة الكبيرة من أن اهتمام سكان المنطقة بالإيديولوجيا (دراسة, وتحليلاً) ليس كبيراً؛ بمعنى أنه لا يتناسب إطلاقاً مع حجم هذه الصراعات. وقد يكون سبب ذلك هو استنفاد الجزء الأكبر من طاقتهم في تلك الصراعات. وأهمية الإيديولوجيا في حياة الناس لا خلاف عليها, لأنها, برأي كثيرين, هي التي تعطي الحياة نكهتها. وقد عبّر عن أهميتها هذه بوبر بقوله: “إن الإنسان لا يبدو حيواناً عاقلاً أكثر منه حيواناً إيديولوجياً”(19).
وما ننشده ليس تشريح إيديولوجيات المنطقة لتسويق إحداها. بل جُلّ ما نصبو إليه هو دراسة أثرها, بغض النظر عن طبيعتها, على مآل الطريقة التي يفكر بها هؤلاء, وما يصيب كنه هذه الطريقة من عطب وظيفي. أي دراسة كيف تتولّد منها “منظومات ذهنية” عند أتباعها, وأثرها على التواصل بين الناس.
وهذه الدراسة قد لا تخص أبناء هذه المنطقة دون غيرهم, بل تنطبق على أي إنسان, أو جماعة بغض النظر عن مكان وجودها الجغرافي. بيد أنها في الشرق الأوسط أكثر وضوحاً, وأشد حدّة, بسبب التراكمات التاريخية, التي يتم الصراعات حتى على تفسيرها, وعلى طرق توظيفها في خدمة أغراض الصراعات المعاصرة, وفي تغذيتها.
واستخدامنا “للصورنة” في هذا السياق يوضح طبيعة “المنظومات الذهنية” التي يمتلكها بعضهم, وأنه يمكن تغييرها, كونها مكتسبة, وليست فطرية متأصلة. فكما اكتسبت يمكن التخلي عنها, ولو تدريجياً.
وتجدر الإشارة إلى أن الصراع العربي-الإسرائيلي ليس له علاقة مباشرة بهذه الدراسة. أي أنها لا تعبّر تماماً عن طبيعته, مع أنه يتقاطع في بعض جوانبه “الذهنية” (خاصة عند الطرف الصهيوني) مع صراعات المنطقة.
ما هي هذه “المنظومة”؟
ولشرح ما تعنيه “المنظومات الذهنية” نلجأ إلى حالة خاصة جداً منها, وهي ما يقوله عالم النفس إريك فروم: “والحقيقة أن الوعي ليس له أية قيمة خاصة, ومعظم ما يحمله البشر في عقولهم الواعية ليس سوى تخييل وضلال؛ لا لأنهم عاجزون عن رؤية الحقيقة بل بسبب الوظيفة والأثر اللذين يخلفهما المجتمع. فالتاريخ البشري بمعظمه (باستثناء بعض المجتمعات البدائية) يتميز بحقيقة أن أقلية صغيرة قد حكمت الأكثرية من أبناء جلدتها, وعملت على استغلالها. ولكي يتم لها ذلك, فإن هذه الأقلية لجأت إلى القوة, إلاّ أن القوة ليست كافية. فعلى المدى البعيد, كان ثمة ضرورة لأن تقبل الأكثرية استغلالها طواعية, الأمر الذي لا يكون ممكناً إلاّ إذا امتلأت عقولها بكل أنواع الأكاذيب والاختلاقات التي تبرر قبولها لحكم الأقلية وتسوغّه”. ويتابع فروم قوله: “وهذا التناقض بين الغاية المجتمعية والغاية الكونية يفضي أيضاً إلى اختلاق ضروب شتّى من التخيلات والأوهام (على مستوى المجتمع كله) تقوم وظيفتها على إنكار الانفصام بين الغايات الإنسانية وغايات مجتمع معين”(20). وإذا تبنينا وجهة النظر هذه فإن ما نعنيه بالتخييل, والأوهام, هو أن هذا الإنسان أوجد نظاماً (منظومة) موضوعاتياً (نسبة إلى موضوعة=مسلمة axiom) خاصاً به, لا يمت للواقع, أو للحقيقة بصلة. ونعني بالنظام الموضوعاتي, ببساطة, بناء قضايا علم من العلوم, أو غير ذلك من شؤون الحياة, على نحو تُجعل فيه بعض القضايا موضوعات (مسلمات, أو مصادرات), وسائر القضايا نتائج مستمدة, بعمليات “ذهنية” ملزمة, من المقدمات. بل وكثيراً ما نجد أن كل فرد في هذا المجتمع أوجد “منظومة” خاصة به, ليس من الضروري أن تتقاطع مع غيرها من “المنظومات”.
ويجب عدم الخلط بين وجود هذا النوع من المنظومات الذهنية ومدى نضوج الوعي, أي أنها لا تنتج من عدم وجود الوعي عند الإنسان. ودليل ذلك أن الوعي ليس له أي قيمة خاصة, كما أشار فروم. أي أن التخييل, والأوهام, يتشكلان بغض النظر عن وجود الوعي, أو عدمه.
وما سنحاول القيام به هو نوع من “تعميم” قول فروم في عديد من الظروف الإنسانية, أو الاجتماعية الضاغطة الأخرى. أي أننا سنتناول المشكلة من منظور صوري (مجرد), وليس في سياق معين كما عند فروم. وعلى الرغم من أن الظاهرة التي درسها فروم, وردت في سياق مختلف, بيد أن نتيجة ما يحصل, وفق توصيفه, هو نوع من “المنظومات الذهنية”. أي أن الإنسان, نتيجة ظروف ضاغطة عليه, يخضع لها وقتاً طويلاً, يبدأ بالبحث عن طريقة يتكيّف معها, بعد أن تفشل كل طرق الخلاص. لأن ديدن الإنسان البحث عن السعادة, أو اللذة, وتفادي الألم قدر الإمكان, وبهذا يخلق طريقاً للخلاص, يحفر أخدوداً في أعماق نفسه, وسرعان ما يؤول هذا إلى مسارات عقلية, أي طريقة في التفكير.
وينتشر هذا النوع الخاص من “المنظومات” على نحو واضح في المجتمعات التي يسود فيها القهر, والظلم, بغض النظر عن أنواعهما, لأن الإنسان مضطر عندها للتكيف. وخاصة إذا دامت هذه الظروف فترة طويلة زمنياً, حيث يكون “المصرف” الوحيد أمام عملية التكيف تلك هو “برمجة” العقل على شكل “منظومة” خاصة تخدمه مؤقتاً في ظرف معين, ثم تصبح بعد ذلك ملازمة له. أي أن هذا الشخص بذلك يحدّد مسارات معينة لتفكيره, وتصبح هذه “المنظومة” منصة للانطلاق في التفكير في أي اتجاه. وهذه المسارات العقلية لا تتفق بالضرورة مع طرق التفكير القويم, وفي هذا تكمن مشكلتها المزمنة, التي ليس لها حل. لذلك فإن ما تفضي إليه هذه “المنظومات” هو نوع من “التشوهات” في التفكير, لا نلمسه, عادة, إلاّ من خلال آراء صاحبها, أو من النتائج التي يتوصل إليها.
وإذا عدنا واستخدمنا تشبيهات حاسوبية, للتبسيط, فإن الحاسوب يمتلك “برمجية” خاصة من أجل القيام بمهام معينة, في حين أن “المنظومة الذهنية” التي يصطنعها هذا الإنسان تكون جاهزة لمقاربة كل “المهام”. وإذا استعرنا عبارة الكاتب المصري موسى صبري في قصته الطريفة “ذهاب وإياب”, التي يتحدث فيها عن “عيادة كل الناس”, وطبيبها الذي يصف “دواء جميع الأمراض”, فإن هذه “المنظومة” تحمل الوظيفة ذاتها, وهي “برمجية كل المهام”.
وسبب ظهور هذا النوع من “المنظومات” هو أن الإنسان, كما يبدو, مخلوق “مكتفٍ ذاتياً”. أي أن حلول مشاكله الفيزيولوجية, والنفسية, غالباً ما تكون داخلية قادمة من ذاته. لذلك عندما يتعرض الإنسان لبعض الظروف الضاغطة جداً عليه, التي تشكّل له نوعاً من الألم, يجد نفسه في موقع لا سبيل أمامه إلاّ بتبرير ذلك, كي يستطيع الاستمرار بالعيش. وهذا التبرير, مع الأيام, يدفعه لأن ينسج “منظومة ذهنية” تصوغ كل ذلك, وتصبح نافذته العقلية على العالم. أي أن الغاية الأساسية لصاحب تلك المنظومة هي استرداد الراحة المفقودة التي فقدها نتيجة لتلك الظروف, بغض النظر عن منطقية التبرير الذي يلجأ له. وسرعان ما يؤول ذلك إلى “برمجية” عامة للتفكير عند هؤلاء. فإذا كانت “الوظيفة تخلق العضو” (على مستوى ” العتاد ” hardware) في البيولوجيا, فإن هذا الكلام ينطبق أيضاً على حالتنا (“البرمجية” software). أي أن “الوظيفة العقلية” تخلق المنظومة (البرمجية), تحت وطأة ظروف معينة. ونتيجة لذلك فقد تبدلت وظيفة العقل من البحث عن الحقيقة, أو حل المشاكل التي تصادفه, إلى المساعدة في خلق هذه “المنظومات”, وتعزيزها, بهدف البحث عن الراحة الشخصية المفقودة, بغض النظر عن الثمن الواجب دفعه.
وبعبارة أخرى فإن هذا “التكيّف” (وهو ضرورة إنسانية صحية) يتحوّل من حالة عرضية مؤقتة, ومرنة (كون الإنسان في حالة دفاعية) إلى حالة استيطانية دائمة. أي أن الإنسان يمتلك هذه “الخاصة” البيولوجية, والنفسية, والفيزيولوجية, للدفاع عن نفسه, أو لنشدان الراحة من كل ذلك. ويبدو أن حلول الإنسان غالباً ما تكون فردية, ويسعى لأن يكون خَلاصه كذلك.
وليس من الضروري أن تعمل هذه المنظومات وفق مقتضيات “العقلانية” بمفهومها العلمي(21), بل على الأغلب تتناقض معها. لأن روح “العقلانية” واحدة, في حين أن ثمة عدداً لا نهائياً من تلك المنظومات المفارقة لتلك الروح, والمناقضة لها. لذلك يصبح تفكير هذا الإنسان, بعد تحكم “منظومته الذهنية” به, غير سوي, وتكون مخرجات تفكيره غير متسقة. ويبدو أن هذا هو السبب الذي يجعلنا نلاحظ أن معظم الأطفال (الإنسان الخام) أذكياء قبل دخولهم المدارس(22), لأن تفكيرهم يكون حراً, ونقياً, ولم يزل بعيداً عن تلك المؤثرات (المنظومات) التي خضع لها بعضهم.
ولن نناقش طبيعة تلك المنظومات, أو محتواها, فهي أكثر من أن تحصى؛ بل سينصب اهتمامنا على وظيفتها. لأنه قد ينطوي بعضها على نواة صحيحة, بيد أن المشكلة في أن هذه النواة قد تطورت إلى “آلية” قطعية تقوم بوظيفة جديدة لم تنشأ من أجلها, وتحكم على غيرها بطريقة لا نقد فيها, ولا تقبل أي مناقشة. وحدّت بذلك من وظيفة العقل, وفاعليته.
وهذا الطرح لا يهدف إلى أن يصبح للجميع “منظومة ذهنية” واحدة, وأن تتحول إلى نظام شمولي, بل غايتنا أن يصبح الجميع على وعي بما هم عليه, وما يملكه غيرهم من منظومات ذهنية أخرى مختلفة, وذلك لتسهيل عملية التواصل بين الناس.
لهذا يشير بعضهم إلى أن منبع الخلل في طرق التفكير ليس بالضرورة أن يكون ناشئاً عن خلل في تطبيق قواعد المنطق, بل قد يكون نفسياً (سيكولوجياً), أو اجتماعياً (سوسيولوجياً). وما يؤيد ذلك قول بوبر أثناء حديثه عن العلم بهذا المغزى, وتعارضه مع العلم في مرحلة الأزمة أو الثورة, حيث يقول: “إنها المراحل التي يبدأ فيها الإطار النظري في التصدع, وفي النهاية ينهار. حينئذ يحل محله إطار نظري آخر. إن الانتقال من إطار قديم إلى إطار جديد لا يعد عملية يجب دراستها من منظور منطقي (لأنها, في جوهرها, ليست عملية عقلية بصورة كلية, ولا حتى بصورة أساسية) بل تدرس من منظور سيكولوجي وسوسيولوجي”(23). وهذه هي عين المشكلة الكامنة وراء ولادة تلك المنظومات الذهنية بالأساس. وبعد رسوخها عند صاحبها تصبح أداة أساسية في “قراءة” كل شيء تقريباً, وقناة للتواصل مع الآخرين. أي أنها أضحت أداة للفهم, والوسيلة المستخدمة للنظر إلى كل الأمور الخارجة عنها, لتبحث لها (لتلك الأمور) عن كيفية دمجها ضمن تلك المنظومة, وليس لتقييمها. وحال هؤلاء ينطبق عليهم قول بوبر أثناء حديثه عن بعض الجماعات التي تعيش ضمن إطار مغلق, من أمثال الماركسيين, والفرويديين, والآدلريين: “وكل حجة مضادة لإطارهم كانوا يؤولونها بحيث تتلاءم داخله”(24). أي أن معظم ما يأتي من أفكار أخرى, بعد تشكيل هذه “المنظومة”, يُبحث لها عن مكان لدمجها ضمن المنظومة, وليس لتقييمها.
ونحن هنا لا نتحدث عن “منظومة” مرتبطة بإيديولوجيا معينة, فهذا مستحيل أصلاً, لأن كل حالة تطوّر منظومة خاصة بها. وقد لا تشاطر هذه المنظومات بعضها بشيء, إلاّ بالدور, أي بالوظيفة التي تضطلع بها, وبثمرة هذه الوظيفة, أي التعصب بأبشع صوره؛ فهذا أهم ما يميزها. والكل يريد البحث عن “الحقيقة”, أو هكذا يبدو. بيد أن المشكلة تكمن في أن بعضهم اقتنع, منذ وقت مبكر, أنه قد أصاب كبدها, ولذلك طوّر “منظومة ذهنية” في كنف تلك “الحقيقة” ترشده في مسالك الحياة. وهذه خديعة للعقل, لأنها تعد “تقاعداً” ذهنياً مبكراً. لذلك نلاحظ أن ثمة أشخاصاً, أو جماعات, تسجن نفسها ضمن إطار فكري مغلق ونهائي, لا يتطور أبداً. لأن الحقيقة يصعب الوصول إليها, أو كما يقول بعضهم: “بأنه كلما سعينا إليها كلما بدت أبعد”, مع أن فضولنا المعرفي يقتضي البحث الدؤوب عنها.
وهذا لا يعني أن نحطم كل “المنظومات الذهنية”, على اختلاف أنواعها كونها “سجوناً”, بل على العكس من ذلك, لأن وجودها يعد ضرورياً في بعض الحالات, لكن يجب الانتباه إلى أننا قد نكون أسرى معظم هذه “المنظومات“.
عود على بدء
وهذا النوع من “المنظومات الذهنية” يشبه إنشاء “منظومات منطقية” في الرياضيات. وأوضح مثال على ذلك هو الهندسات الأقليدية, واللاأقليدية. ووفقاً لمصادرة التوازي (مصادرة أقليدس الخامسة, التي تنص على أنه: من نقطة خارج مستقيم يمكن رسم مستقيم واحد فقط مواز له) فقد تطورت “منظومة منطقية” متكاملة بناء عليها. وكذلك الحال في “منظوماتنا الذهنية”, بيد أن الفرق الأساسي بينهما هو أن المنظومات الهندسية لها تطبيقاتها الخاصة, وتأثيراتها الفكرية, ولكن على نطاق ضيق, في حين أن منظوماتنا الذهنية, التي ينسجها بعضنا, تؤول إلى منهج عام للتفكير, نعيش به. أي أنها, عملياً, تزيح العقل لتحل محله. فهي تصبح “عقل” صاحبها يفكر من خلالها في كل شيء, وتقوم بوظيفته.
إن الجانب السلبي في “نهائية” تكوين كثير من المنظومات الذهنية, التي يمتلكها بعضنا, يكمن في أنها غير قابلة للتطور. مع أن منطق العلم يشير إلى أنه ربما لا يوجد شيء يخالطه الفكر بطريقة ما, ويكون نهائياً؛ بل ثمة نسخة أخرى متطورة عنه لا نعرفها. فالنظريات التي تفسر الكون ليست نهائية, وهناك دوماً اقتراب أفضل نحو الحقيقة التي لا نستطيع الوصول إليها, وكل ما نقوم به هو السعي نحوها.
بعض الشواهد على وجود هذا النوع من “المنظومات”:
هناك شواهد عديدة على وجود هذه “المنظومات الذهنية”, سنستعرض بعضاً منها:
1- “التفكير من خارج الصندوق”:
ثمة تعبير حديث, تتداوله أدبيات علم النفس, يشير إلى نوع معين التفكير, يسمى من باب التبسيط “التفكير من خارج الصندوق”. وهو يعني, ببساطة, أن تفكر بطريقة مختلفة, غير تقليدية, بهدف الوصول إلى نوع من التفكير الإبداعي. أي أن تفكر من خارج “المنظومة المألوفة”. لأن التفكير من ضمنها, غالباً, لا يثمر شيئاً جديداً. بل كثيراُ ما يعيد إنتاج القديم بلباس جديد, في أحسن الأحوال. وهذا الكلام صحيح أيضاً في الإطار العلمي, لأنه تبيّن أن الفتوحات العلمية لا تأتي إلاّ من أحد شخصين, إما صغير السن, أو حديث العهد في الاختصاص المعني. لذلك يقول فيلسوف العلم توماس كون: “إن الناس الذين حققوا تلك الابتكارات الأساسية الخاصة بنموذج إرشادي جديد, كانوا دائماً على وجه التقريب, إما شباباً حديثي السن, أو جدداً تماماً على المجال الذي غيروا نموذجه الإرشادي”(25). ويقصد كون بالنموذج الإرشادي Paradigm: “الإنجازات العلمية المعترف بها عالمياً, والتي تمثل في عصر بذاته نماذج للمشكلات والحلول بالنسبة لجماعة من الباحثين العلميين”(26). والسبب أن معارف هؤلاء الشباب, أو الجدد على الاختصاص العلمي, في هذا النموذج القائم تكون بسيطة, ولم تترسخ بعد, أو تتحكم بتفكيرهم. وهذا يشير, من الناحية المبدئية, إلى استعداد الإنسان كي يتبنى مثل هذه “المنظومات”, ومدى سيطرتها على جانب معين من تفكيره. بيد أن حالة “المنظومة الذهنية” أعم بكثير مما يتحدث عنه كون, كونها أضحت ذات طابع إيديولوجي. و”النموذج الإرشادي” حالة خاصة جداً من “المنظومة الذهنية”, لأنه يتطرق فقط إلى الجانب العلمي. وتأثير هذا النموذج على صاحبه, في مجاله, لا يختلف كثيراً عن تأثير “المنظومة الذهنية”. وعلى الرغم من أن طبيعتيهما مختلفتان لكن كلاً منهما يعيق ذهنياً تحصيل أي شيء جديد. أي أنهما يتشابهان في تأثير دور كل منهما, على الرغم من اختلاف السياقين.
ولهذا السبب يعد “التفكير من خارج الصندوق” على قدر كبير من الأهمية في تطور البشرية, وعلى نحو خاص في الإطار العلمي؛ لأن الإنسان عندها لا يبقى سجيناً “لمنظومته الشخصية”, أو “للنموذج الإرشادي” الذي يتحكم بكل تفكيره. بل ينطلق إلى فضاء عقلي أرحب من ذلك. ووجود هذا النوع من التفكير, ومفارقته للتفكير المألوف, يؤيد وجهة النظر التي تشير إلى إمكانية وجود تلك “المنظومات”, وما يمكن أن تحمله من صعوبات وعقبات.
2- “الأنظمة العددية” وتشكيل المجتمعات:
ومن الشواهد على وجود “المنظومات” ما أشرنا إليه آنفاً من أن ماكليش يقول عن الهدف من تأليف كتابه: “إن أحد الأهداف المتوخاة من هذا الكتاب يتمثل في شرح كيفية نشوء أنظمة عددية مختلفة, والكيفية التي ساعد بها كل نظام على تشكيل المجتمع الذي ابتكر هذا النظام”(27). حيث يبين أن المعارف الرياضية, على اختلاف أنواعها, ليست شيئاً مستقلاً وقائماً بذاته, بل هي جزء من التفاعلات البشرية. وهذا اعتراف صريح بتأثير حتى هذه “المنظومات الرياضية” الخاصة على تشكيل المجتمع؛ فكيف سيكون تأثير المنظومات الذهنية الأخرى؟
3- تعدد “الذائقة المنطقية”:
ومن الشواهد ما يشير إليه ريتشارد نيسبت في كتابه “جغرافية الفكر”(28) من أن الفكرة السائدة على نطاق واسع, التي مفادها أن موقف المتلقي من الرياضيات, أو من قوانين الفكر الثلاث المعروفة, هو ذاته في جميع أرجاء المعمورة, وعند كل الشعوب قاطبة, بغض النظر عن طبيعة ذهنية هذه الشعوب, أو لغاتها الأم, غير صحيحة. حيث كان يُعتقد على نطاق كبير أن أنماط الفكر الإنساني هي واحدة, بمعنى أن الجميع يفكرون, ويستنتجون, ويستقرئون, وفق طرائق منطقية واحدة, وأن “ذائقتهم المنطقية” ذاتها. وهذا ما أثبت علم نفس الثقافة بطلانه. حيث أضحى من المعروف أن الممارسات الاجتماعية يمكن أن تؤثر في طرق التفكير عند الإنسان. بمعنى آخر, فإن هذه الممارسات تشكل, في المحصلة, نوعاً من “المنظومات الذهنية” يقوم من خلالها الإنسان بمجمل “عملياته العقلية”.
4- “العقل المستقيل” كمنظومة ذهنية:
ومن الدلائل كذلك ما يورده محمد عابد الجابري (في رباعيته عن العقل العربي) عما أسماه “العقل المستقيل”. وبالتدقيق بطرحه يتبين أن الأمر, حقيقة, ليس له علاقة باستقالة العقل, أو بعدم استقالته. فالعقل يبقى نفسه عند هذه المجموعة من البشر, ولم يطرأ عليه أي تغيير, إلاّ إذا كان الجابري يستخدم هذه الكلمة بالمعنى المجازي, والسياق لا يدل على ذلك. أي أن طرح الجابري, وعلى الرغم من أهمية مشروعه الفكري وتميّزه, يخالطه نوع من التناقض؛ حيث عرّف العقل (نقلاً عن جان ألمو) على أنه: “القدرة على القيام بإجراءات حسب مبادئ, إنه أساساً, نشاط منظم, ولنقل “لعب حسب مبادئ””(29). وهذا يدل, من وجهة نظر الجابري, على أنه نوع خاص من المنهج في التفكير. حيث ننطلق من مجموعة من المسلمات للوصول إلى النتائج, وفق أصول الاستنتاج وقواعده. ثم يتحدث بعد ذلك عن استقالة هذا العقل. إلاّ إذا كان الجابري يستخدم هذه الكلمة بمعنيين: العقل بمعناه التقليدي المتداول, ثم بمعناه وفق جان ألمو. ويبدو أن مبعث هذا التناقض هو أنه قد غابت عنه فكرة أن هؤلاء الذين يتطرق إلى دراستهم (أصحاب العقل المستقيل) قد قاموا, في الحقيقة, بتطوير “منظومة ذهنية” خاصة بهم للتفكير, حيث تبدو مخرجاتها بالنسبة للآخرين (ما نسميهم أصحاب المنطق السليم) غير صائبة, وليست, كما تظهر, تغييباً للعقل. أي أن المسألة برمتها تتعلق “بمنهج” التفكير عند هؤلاء, لأن هذه “المنظومة” بعد تجذّرها تؤول إلى منهج للتفكير. أي كما يبدو, فإن ثمة حلقة مفقودة في تحليل الجابري (وهذا لا ينتقص من قيمته كمفكر عربي كبير قد لا يضاهيه أحد من معاصريه), وهي قيام هؤلاء باصطناع “منظومة ذهنية” خاصة بكل جماعة منهم. ومن نتائج هذه المنظومة, أنه يبدو للآخرين, كأن هناك “استقالة للعقل”, إذا عدنا واستخدمنا العقل بمفهومه التقليدي قبل تعريف برتراند رسل للرياضيات, ومن ثم تبنيه من قبل جان ألمو وغيره تعريفاً للعقل. لذلك يطلق عليهم الجابري أصحاب “العقل المستقيل”. لأن هؤلاء خضعوا لنفس الظروف التي يخضع لها الآخرون الذين ولّدوا مثل تلك المنظومات. وإذا سلّمنا بعبارة الجابري فإنه يمكن أن نتحدث عن “العقل المستقيل” كمنظومة ذهنية بحد ذاتها, أي أن أهم ما يميز هذه المنظومة هو تعطيل للعقل بمفهومه التقليدي الذي يعرفه الجميع.
وبعض المفكرين العرب استشعروا فكرة “المنظومة الذهنية” ضمناً, على نحو غير مباشر, ولكن دون أن يقوم أحد منهم ببلورتها, أو الإشارة إليها, ككائن مستقل عن السياق الذي وردت فيه. أي لم يقم أحد بتجريدها من سياقها, ودراستها كمفهوم مستقل قائم بذاته. ومن هؤلاء الجابري نفسه عندما أشار إلى أن محمد بن إدريس الشافعي (150 – 204 هجري) هو المشرّع الأكبر للعقل العربي(30), لأنه واضع “علم أصول الفقه”(31). وهذا العلم: “بالنسبة للفقه كالمنطق بالنسبة للفلسفة”(32). ثم يستنتج بعيد ذلك أنه: “إذا كانت مهمة الفقه هي التشريع للمجتمع فإن مهمة أصول الفقه هي التشريع للعقل”(33). وما يشير إليه الجابري, عملياً, هو ثمرة هذا النوع من “المنظومات”, وإن لم يسمها كذلك. أي أن “أصول الفقه” أوجد “منظومة ذهنية” خاصة عند الإنسان العربي الذي مارس نشاطه داخل الثقافة العربية. ويؤكد على ذلك قول الجابري: “أن طريقة عمل العقل العربي, سواء في الفقه أو النحو أو الكلام…هي طريقة واحدة تقوم على نفس الآليات أو الميكانيزمات التي تقوم عليها طريقة الفقهاء”(34). وقد استفاض الجابري في شرح القواعد التي وضعها الشافعي, وتحكّمها في العقل العربي لمدى قرون طويلة ومازالت آثاره العميقة قائمة إلى يومنا هذا(35).
وما نقوم به في هذه الدراسة هو, فعلياً, نوع من تعميم وتجريد ما قام به الجابري, فضلاً عما قام به إريك فروم وصولاً إلى مفهومنا المجرد “المنظومة الذهنية”.
5- إن مفهوم “الدولة العميقة” Deep State, المنتشر على نحو كامن في بعض بلدان العالم, هو شكل من أشكال هذه “المنظومات الذهنية الجمعية” التي تظهر على مستوى الدولة, وأحياناً عند جماعات معينة, وليس على مستوى الأفراد. أي أن مجموع الأفراد مجتمعين يشكلون “المنظومة” (الدولة العميقة). وتعمل هذه “المنظومة” على عدم المساس بالوضع الراهن بكل أنواعه, وضد أي تطور يطالها مهما كان طفيفاً. لذلك فإن أي تغيير في هذا النوع من البلدان يتطلب “تفكيك” تلك المنظومة, على الرغم من صعوبة ذلك, وقد يستغرق هذا عقوداً. والدولة العميقة تشبه “المنظومة” التي نتحدث عنها من حيث الوظيفة والدور, وليس من حيث الطبيعة. وتشير كل المصادر إلى أن هذا المفهوم ولد في تركيا في تسعينيات القرن العشرين للتعبير عن شبكات من المجموعات وضباط القوات المسلحة الذين أخذوا على عاتقهم حماية علمانية الدولة التركية بعد قيامها على يد كمال أتاتورك, ومحاربة أي حركة أو فكر أو حزب أو حكومة تهدد مبادئ الدولة التركية العلمانية، وكان ذلك أول تعريف وظهور لمصطلح “الدولة العميقة”. وهو ينطوي على “ذهنية” جمعية معينة تتحكم في جميع مفاصل الدولة. ومن تركيا انتشر هذا المفهوم في بعض الدول, ومنها أمريكا(36).
6 – “الحتمية اللغوية”:
تقول “فرضية الحتمية اللغوية” Linguistic Determinism, التي أشار إليها الفيلسوف ولهالم همبولدت W.von Humboldt في القرن التاسع عشر الميلادي, وأعيد طرحها من جديد في النصف الأول من القرن العشرين, من قبل اللغوي إدوار سابيرE. Sapir :”إن الناس تُبع في تفكيرهم وإحساسهم ومشاعرهم ونظرتهم إلى الكون, للعادات التي اكتسبوها من خلال ممارستهم للغة قومهم”(37). وعلى الرغم من معارضة بعض اللغويين لهذه الفرضية, بيد أن ثمة إقراراً عاماً عند هؤلاء يفيد بأن اللغة تلعب, أحياناً, دوراً في صوغ الفكر. ولا غرابة في قول بعضهم: “إن اللغة تصنعنا أكثر مما نصنعها”. لهذا يكون, أحياناً, تفكير بعضنا ضحية لذلك. وهذا, كما يبدو, مصدر سوء التفاهم الذي يشيع بين الناس دون أن يشعروا به. ونتيجة لذلك فإنها تصنع “منظومة ذهنية” عند ضحاياها, ومن ثم تصبح سجناً لأصحابها. يقول ديفيد روبي: “وأن اللغة هي السجن الذي يعزلنا عن الواقع”(38). ومن سلبيات هذا “السجن” أن كثيراً من الدراسات اللسانية بدأت تشير إلى مدى تأثير اللغة في الطريقة التي نفكر بها. يقول روبي: “حيث تعتبر أشكال الحياة الاجتماعية والثقافية كلها خاضعة لمنظومات من العلاقات اللغوية, أو الموازية للغة”(39). بمعنى آخر, فإن اللغة تشكل “منظومة ذهنية” ينسج الإنسان حياته الاجتماعية, والثقافية, على ذلك المنوال. وربما هذه المنظومة هي أولى المنظومات التي يقع الإنسان ضحيتها. وهذا المحتوى عبّر عنه روبرت شولز على نحو غير مباشر عندما يقول: “إن المرء يوافق أخيراً أن الكائنات البشرية تنظم كل تجاربها حسب خطوط لغوية”(40).
7- “التحصيل الإيديولوجي”:
يصنف محمد عابد الجابري العلوم وضروب المعرفة في الثقافة العربية الإسلامية إلى ثلاث مجموعات: علوم البيان, وعلوم العرفان, وعلوم البرهان. حيث تتضمن علوم البيان النحو والفقه والبلاغة… ويؤسسها نظام معرفي واحد يعتمد قياس الغائب على الشاهد كمنهاج في إنتاج المعرفة. و”العرفان” نظام معرفي ومنهج في اكتساب المعرفة, ورؤية العالم, عن طريق الإلهام والكشف, وأيضاً موقف منه(41). وعلوم البرهان تتضمن المنطق, والرياضيات, والطبيعيات,…ويؤسسها نظام معرفي واحد يقوم على الملاحظة التجريبية والاستنتاج العقلي كمنهج, وقد دعاها الجابري “المعقول العقلي”, ويعني بذلك المعرفة العقلية المؤسسة على مقدمات عقلية(42). ووفق رؤية الجابري فإن: “العقل العربي تكوَّن من خلال تشييده لعلوم البيان التي أبدع فيها إبداعاً قلّ مثيله في تاريخ الفكر البشري…وبأن هذه العلوم البيانية قد بلغت قمتها مع بداية تاريخها, وأن العقل العربي الذي شيدها لم يضف, وما كان يستطيع أن يضيف, جديداً إلى ما أبدعه فيها خلال عصر التدوين”(43). أي أن طريقة تحصيل المعرفة عند الإنسان تؤثر في الطريقة التي يفكر بها, حيث تخلق مع الأيام منهجاً خاصاً للتفكير. وباختصار فكما أن طريقة التحصيل المعرفي تؤثر في البناء الذهني للإنسان, كذلك فإن التحصيل الإيديولوجي يقوم بالشيء نفسه, وربما أخطر.
8- “التفكير الرّغائبي”:
ومن الأمثلة على هذا النوع من “المنظومات” ما يسمى في علم النفس “التفكير الرّغائبي” (الرّغبوي) wishful thinking. وهو تكوين الاعتقادات, واتخاذ القرارات, المبنية على رغبات الفرد الشخصية, بدلاً من اعتماده على ملكاته العقلية, ومعطيات الواقع. وهذا النوع من التفكير يمكن أن يظهر عند الأفراد, وفي السياسات. أي أن صاحب هذا التفكير يطوّر “منظومة ذهنية” خاصة به تعبّر عن رغباته ومكنوناتها. أي أنه ينسج منظومة, أو آليات للتفكير, ليس لها علاقة بمعطيات الواقع, بل إنه يعيش ضمن رغباته, التي تتحول إلى مجموعة من المسلمات الخاصة به, ينسج حولها منظومته الذهنية. لذلك تكون هذه المنظومة غير فاعلة إلاّ صدفة.
9- تدريس “نظرية المجموعات”:
ومن الشواهد على ذلك هو أنه عندما بُدء بتعليم الرياضيات الحديثة, أو أكثر تحديداً بعض مبادئ “نظرية المجموعات” Set Theory, كونها قوام هذه الرياضيات, في المدارس الإعدادية والثانوية في فرنسا في أوائل الستينيات من القرن المنصرم, تبيّن, بناء على تجارب أجريت هناك, أن الطالب يستوعب المناهج الجديدة كلما كان صغيراً في السن. أي إذا كانت معلوماته أقل في الرياضيات التقليدية. فقد تم تعليم المنهاج الدراسي نفسه لطلاب المرحلتين الإعدادية (المتوسطة), والثانوية في آن واحد. وبعد إجراء الاختبارات تبين أن أداء طلاب المرحلة الإعدادية أفضل من أداء طلاب المرحلة الثانوية. أي أن دور الرياضيات التقليدية في هذا السياق كان يشبه دور “المنظومة الذهنية” التي ينسجها الإنسان, التي تعيق, في النتيجة, تحصيل أي معارف رياضية جديدة لا تتسق مع الرياضيات التقليدية. أي أن الرياضيات التقليدية كانت تشكل “نموذجاً إرشادياً” خاصاً لهؤلاء الطلاب.
ويبدو أن هذا هو السبب القابع وراء تأخر اكتشاف الهندسات اللاأقليدية عدة قرون. فالبداية الفعلية لظهور إرهاصات التحوّل الكبير في الفكر الرياضي كانت في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي على يد الرياضيين بولياي J. Bolyai (1802-1860م), ولاباشيفسكيN. Lobachevski (1793-1856م) في عمليهما المتميزين الذي أصبح يطلق عليه لاحقاً اسم “الطريقة الموضوعاتية” axiomatic method في البناء الرياضي. فكل واحد منهما أوجد على حدة هندسته اللاأقليدية. وكان ذلك إيذاناً بالتحرر من السيطرة الأقليدية التي هيمنت على الفكر الهندسي ردحاً من الزمن دام نحو ألفي سنة.
10- تعدد الاهتمامات:
ومن الشواهد كذلك ما بدأت تبيّنه الدراسات الحديثة, حول اهتمامات المبدعين في المجالين العلمي أو التكنولوجي, حيث تبين أن الفتوحات العلمية الكبيرة تأتي من الأشخاص متعددي الاهتمامات. والسبب في ذلك هو أن هؤلاء لا يسجنون أنفسهم في اختصاصهم. يقول الرياضي والفيلسوف الأمريكي موريس كلاين Morris Kline: “إن ثمن التخصص هو العقم. وربما تتطلب التخصص براعة فائقة, ولكن قلما يكون ذا معنى”. لأن التنوع في الاهتمامات يخفف من تأثير “المنظومة الذهنية” التي يولدها الاختصاص عند صاحبها, أي من سيطرتها على تفكيره, لأن ثمة تغذية دائمة من خارج الاختصاص تمنع ترسخها, فضلاً عن فوائد أخرى.
11- اللغات الأجنبية والمسنون:
ومن الملاحظات العملية هي أنه قد يكون هذا هو السبب في أن تعلّم اللغات الأجنبية لدى كبار السن يؤخر شيخوخة عقلهم. فقد بينت أبحاث أجريت في جامعة إدنبرة في إسكتلندا أن تعلم اللغات الأجنبية تزيد القدرات المعرفية عند الإنسان, كما بينت أنها توثر إيجاباً في دماغ المسنين. لأن الإنسان عندها, كما يبدو, يكون مضطراً لأن “يحطّم” منظومته اللغوية, كي يخرج من سجنها. لأن تعلم لغة أجنبية جديدة يتطلب من الدارس, عادة, التحرّر من منظومة لغة الأم. ولهذا فإن تعلم اللغات الأجنبية أسهل لصغار السن, لأن منظومتهم اللغوية لم تتبلور بعد, ومن السهل تجاوزها.
الحل المقترح
وللبحث عن “حل” مقبول للحد من أثر تلك “المنظومات”, وليس الإيديولوجيات التي ولّدتها, لا بد من الاعتراف بأن بلوغ ذلك ليس بالأمر اليسير, ويتطلب مكابدة عقلية كبيرة. بيد أن الأمر يستأهل ذلك, لأنه يتعلق بأهم ما يملكه الإنسان, وهو العقل. والحياة القويمة تستدعي أن ينعم الإنسان بالصحة العقلية. ويعزى سبب تلك المكابدة إلى وعورة تناوله, كونه ذو طبيعة مجردة, يصعب القبض عليه. يقول بوبر: “فما الذي سيميز بين العقلانية, واللاعقلانية؟ بين الصحة العقلية, والمرض العقلي؟”(44), ثم يتابع قوله باقتراح: “أن التمييز الأساسي هو أن معتقدات الشخص ذي الصحة العقلية تكون قابلة للتصويب؛ الشخص ذو الصحة العقلية يبدي استعداداً معيناً لتصويب معتقداته. قد لا يفعل هذا إلاّ على مضض, لكنه مع ذلك مستعد لتصويب رؤاه تحت وطأة الأحداث”(45). ثم يتابع قوله: “إن عقلية الإنسان ذي وجهات النظر القاطعة الرسوخ (الإنسان المتعصب), مماثلة لعقلية الإنسان المجنون”(46). وباختصار, إذا أردنا أن نبلور طريقاً للخلاص من تأثير هذه “المنظومات”, يجب أولاً الوعي بوجودها والاعتراف بذلك, فهذا, ربما, الشرط اللازم لتحقيق الخلاص, لكنه غير كاف. والشرط الكافي هو معرفة آليات عمل هذا النوع من “المنظومات”, والتفكير بها وبحلولها “من خارج الصندوق”. لأن الإنسان عندما يصطنع, “منظومة” للتفكير يصعب عليه أن يقبل رأياً لا يدخل ضمن منظومته تلك. لذلك يبدو للآخرين متعصباً, إن لم يكن متعصباً فعلاً. أي أن التعصب, في حقيقته, تعبير عن امتلاك نوع من هذه “المنظومات”, والاستمتاع في الدفاع عنها.
و”درجة” هذا النوع من المنظومات مختلفة عند الأشخاص. أي أن درجة عمقها, ومدى تأثيرها في بنية تفكير صاحبها, ليس واحداً, لعدة أسباب, منها, أن الفردية, من وجهة نظر علم النفس, جوهرية في الإنسان. وتكون هذه المنظومات على أشدها عند الأشخاص الذين يتسمون بما يسميه إريك فروم “التملك”. حيث يميز بعض علماء النفس بين أسلوبين أساسيين للوجود الإنساني: أسلوب “التملك” To have, وأسلوب “الكينونة” To be. والفارق بينهما هو الفارق بين أسلوب في الحياة محوره الأساسي الأشياء, وآخر محوره الأساسي الناس. ومتعة الإنسان “التملكي” تكون في المزيد من الاقتناء؛ في حين أن متعة الإنسان “الكينوني” هو في المشاركة الإنسانية الحقيقية, وفي العطاء. والنوع “التملكي”, هو أكثر شيوعاً بين الناس, وخاصة في المجتمعات الفقيرة التي لم يحقق فيها الفرد بعد نوعاً من “السعادة” الاستهلاكية. لذلك يعد التخلي عن هذا النوع من “المنظومات” نوعاً من الخسارة المادية بالنسبة لهؤلاء(47). لهذا يصعب عليهم التخلي عن شيء ما بعد الاستحواذ عليه, لأنه يصبح جزءاً منهم. وحالة امتلاك “منظومة ذهنية” لا تختلف كثيراً عن غيرها من الأشياء, إن لم تكن أكثرها أهمية لما توفره من راحة شخصية لصاحبها. لذلك يُعدّ الوعي بهذين الأسلوبين جزءاً من الحل. وإذا سلّمنا بما يقوله بعضهم من أن: “التعصب في العادة محاولة لإخماد صوت أي تساؤل يراود المرء”, فإن الدوافع وراء ذلك هي شعور هذا الإنسان بأن “منظومته الذهنية” مهددة بالزوال, ولا يريد أن يزاحمها شيء آخر.
إذا ختمنا هذه الدراسة بشيء طريف وملموس من الحياة اليومية نجد أن تذوّق الطعام واستساغته, إلى حد كبير, يدخل ضمن ذلك التوصيف. أي أنه يشترك بالفكرة ذاتها مع المنظومات الذهنية, من حيث “الوظيفة”, مع اختلاف طبيعة كل منهما. وذلك لأن الإنسان يطور “منظومة” للتذوق – بالمعنى المجازي – من خلال تربيته في بيئة معينة. وتصبح هذه “المنظومة” فيما بعد أداته الأساسية في استساغة أنواع الطعام, وفي الحكم عليه. لهذا نستطيع أن نقول: إن أصحاب “المنظومات الذهنية” تشكلت لديهم “ذائقة” ذهنية يتذوقون من خلالها أفكار الآخرين. وفي هذا تكمن المشكلة.
الحواشي:
1) بغض النظر عن موقف بعضهم من تسميتها على هذا النحو, والدوافع الخفية وراء ذلك.
2) “مفهوم الدولة”, عبد الله العروي, المركز الثقافي العربي (لبنان), الطبعة الخامسة 1993, الصفحة 33.
3) “أسطورة الإطار..في دفاع عن العلم والعقلانية”, كارل بوبر, ترجمة: يمنى طريف الخولي, عالم المعرفة-الكويت, 2003, الصفحة 214.
4) “العدد من الحضارات القديمة حتى عصر الكومبيوتر”, جون ماكليش, عالم المعرفة-الكويت, الصفحة10.
5) “حكمة الغرب”, برتراند رسل, ترجمة: فؤاد زكريا, عالم المعرفة-الكويت, الطبعة الثانية 2009, الجزء الأول, الصفحة33.
6) المرجع السابق, الصفحة 28 و33.
7) المرجع السابق, الصفحة28.
8) “هندسة أقليدس في أيد عربية”, تحقيق: أحمد سليم سعيدان, دار البشير (الأردن), الطبعة الأولى, 1991, الصفحة5.
9) المرجع السابق, الصفحة5.
10) “حكمة الغرب”, الصفحة28.
11) المرجع السابق, الصفحة28.
12) المرجع السابق, الصفحة 29.
13) لمزيد من المعلومات انظر, مثلاً,: “العقل..مدخل موجز”, جون سيرل, عالم المعرفة-الكويت.
14) المرجع السابق, الصفحة58.
15) المرجع السابق, الصفحة 59.
16) “العدد”, الصفحة9.
17) “العدد”, الصفحة 26.
18) “قوى وآفاق”, نعوم تشومسكي, ترجمة: ياسين الحاج صالح, دار الحصاد للنشر والتوزيع (دمشق), 1998, الصفحة246.
19) “أسطورة الإطار”, الصفحة109.
20) مجلة المعرفة–وزارة الثقافة (سورية), العدد 430, تموز (يوليو) 1999, الصفحة 114, ثم الصفحة 115.
21) لمزيد من المعلومات حول مفهوم العقلانية انظر, مثلاً,: “أسطورة الإطار”.
22) إذا سلّمنا بما ألمح إليه هشام شرابي في كتابه “مقدمات لدراسة المجتمع العربي”, الأهلية للنشر والتوزيع (بيروت), 1977, الصفحة 65.
23) “أسطورة الإطار”, الصفحة 83 و84.
24) “أسطورة الإطار”, الصفحة81.
25) “بنية الثورات العلمية”, توماس كون, ترجمة: شوقي جلال, عالم المعرفة-الكويت, الصفحة140.
26) المرجع السابق, الصفحة23.
27) “العدد”, الصفحة10.
28) “جغرافية الفكر”, ريتشارد نيسبت, ترجمة:شوقي جلال, عالم المعرفة-الكويت.
29) انظر “تكوين العقل العربي”, محمد عابد الجابري, مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت), الطبعة التاسعة 2006, الصفحة 24. حيث يشير في الحواشي (الصفحة 36) إلى أنه يستلهم ذلك من كتاب جان أولمو Jean Ullmo : الفكر العلمي الحديث (بالفرنسية).
30) “تكوين العقل العربي”, الصفحة106.
31) المرجع السابق, الصفحة 99 و100.
32) المرجع السابق, الصفحة100.
33) المرجع السابق, الصفحة100.
34) المرجع السابق, الصفحة 100.
35) المرجع السابق, الصفحة 105.
36) لمزيد من المعلومات انظر, مثلاً,: Huffington post, Anatomy of the deep state, by Michael S. Lofgren.
37) مجلة “عالم الفكر”, مج28, العدد الثالث- يناير/مارس2000, الصفحات9-28.
38) “النظرية الأدبية الحديثة”, آن جفرسون وديفيد روبي, وزارة الثقافة- سورية, 1992, الصفحة 144.
39) “أسطورة الإطار”, الصفحة80.
40) “البنيوية في الأدب”, روبرت شولز, ترجمة: حنا عبود, اتحاد الكتاب العرب-دمشق, 1984, الصفحة170.
41) “تكوين العقل العربي”, الصفحة333 و 334.
42) “بنية العقل العربي”, محمد عابد الجابري, مركز دراسات الوحدة العربية’ الطبعة 7, 2004, الصفحة 252 و 253.
43) “تكوين العقل العربي”, الصفحة 339.
44) “أسطورة الإطار”, الصفحة213.
45) المرجع السابق, الصفحة ذاتها.
46) المرجع السابق, الصفحة ذاتها. 47) لمزيد من المعلومات حول مفهومي التملك والكينونة انظر: “الإنسان بين الجوهر والمظهر”, إريك فروم, ترجمة:سعد زهران, عالم المعرفة-الكويت, 1989.