د. محمود باكير
يقول ألبرت آنشتاين :” إن هناك أمرين غير منتهيين, هما الكون, وحماقة الإنسان. وأنا غير متأكد من لانهائية الكون “. أي أن الشيء الوحيد الذي تأكد منه آنشتاين هو لانهائية حماقة الإنسان. ومن ثم فليس لهذه الحماقة حدود تنتهي عندها.أي أن الحماقة, في هذا الجانب, تشبه مجموعة الأعداد من حيث أن عددها غير منته. فلا يوجد عدد إلاّ و ثمة عدد آخر أكبر منه. كذلك لا يوجد حماقة إلاّ وهناك حماقة أخرى أكبر منها, ظهرت, أو ستظهر. أي أن توغل الأعداد تشترك صورياً ( شكلياً ) مع توغل الحماقات.
و يُعتقد على نطاق واسع أن طاقة العقل ليس لها حدود, ويمكن أن تطال كل شيء, في حين أن العلم الحديث, وفي مقدمته الرياضيات, يقولان خلاف ذلك. فقد بينّ الرياضي الأمريكي بول كوهين Paul Cohen (1934-2007) عام 1963 أن هناك قضايا رياضية ليست صحيحة, وليست خاطئة, بل هي غير قابلة للبت ( للتقرير ) undecidable . وعمله هذا كان ثمرة للبرهان الذي قدمه لما يُطلق عليه في أدبيات الرياضيات فرضية المستمر ( المتصل ) The continuum hypothesis . وقد كان بحثه هذا امتداداً لعمل الرياضي والمنطقي الأمريكي ( نمساوي الأصل ) كورت غودل Kurt Godel(1906-1978) الذي بيّن فيه أن هناك قضايا رياضية لا يمكن الإجابة عليها, مهما أبحرنا في عمق الرياضيات, أو طورنا تقنيات البراهين الرياضية. وبمعنى آخر فإنه, من وجهة نظر الرياضيات, كل بيان مبرهن ( مثبت ) يتّسم بالصحة, بيد أنه ليس كل بيان ” صحيح ” يمكن برهانه. ومن ثم فإن هناك مسائل رياضية غير قابلة للحل. ويجب أن لا يُفهم من هذا الكلام أن تفكير الإنسان له حدود, بل إن طاقة العقل, وقدرته, لها حدود ينتهي عندها. وهذا لا يعني أن الإبداع له حدود, ولكن هناك قضايا يقف العقل عاجزاً تماماً أمامها. في حين أن حماقة الإنسان ليس لها نهاية ( حدود )؛ بمعنى أنه لا يوجد حماقة إلاّ و هناك حماقة ” أكبر “منها, ومن ثم ” مختلفة ” عنها. ومع ذلك قلما نجد من تحدّث عن ” لانهائية الحمق “.
إن وجود الحمق أحد أسرار هذه الحياة؛ أي بمعنى آخر, ربما هو أحد الأسباب الرئيسة المحركة لها. و لو كان للحماقة حدود لاستطعنا أن نحل معظم مشاكل الحياة, أو أكثر دقة, لاختزلت كثير من مشاكلها. أما معضلة الحياة الحقيقية, التي تستعصي على الحل, تكمن في أن التصرفات الحمقاء غير قابلة للحصر, أو حتى للتنبؤ. وهي في ذلك على خلاف التصرفات العاقلة القابلة للتوقع في معظم حالاتها. ويكفي الإشارة في هذا السياق إلى أن نظرية الصراع ( المبارزة ) Game Theory في الرياضيات ( وهي طريقة لدراسة صناعة القرار في حالات الصراع ) تشترط أن تكون الأطراف عاقلة أثناء دراسة السلوك الأفضل لكل طرف ضمن عدة أطراف متصارعة, معتمداً على قدرته في توقع ما سيقوم به الطرف الآخر.
وإذا قاربنا الفكرة ( ثنائية العقل والحمق ) هندسياً نجد أن ثمة خطاً مستقيماً واحداً يصل بين نقطتين, في حين أن هناك عدداً لانهائياً من الخطوط المنحنية الواصلة بين هاتين النقطتين. فإذا كان العقل نظير المستقيم, وهو وحيد, فإن الحماقة نظير الخط المنحني, الذي عدده وشكله لانهائيان.
و قد أضحى المفهوم العلمي المعاصر للعقل هو ” لعب حسب قواعد “, وفق ما يقول فيلسوف العلم الفرنسي جان ألمو Jean Ullmo (1906-1980)(انظر “تكوين العقل العربي”,محمد عابد الجابري )؛ والقواعد مهما كثرت هي منتهية في النهاية, لأن وضعها ليس سهلاً. لذلك يقول فلاسفة العقل, ومنهم جون ر. سيرل في كتابه ” العقل ” بأن :” المخ هو كمبيوتر والعقل هو برنامج أو مجموعة برامج “. في حين أن أهم ما يميز الحمق هو أن ليس له قواعد؛ بل إنه عين العمل دون قواعد, لذلك هو غير منته.
و هناك بالتأكيد درجات متفاوتة لاستثمار طاقة العقل بين شخص وآخر, مع وجود حد أعلى لذلك. وعلى الرغم من وجود درجات للحمق بيد أنها دون نهاية, أي ليس لها حد.
و ثمة مخاطر كثيرة في الحياة نتيجة غياب العقل, أو على الأقل, في انحساره, وطغيان الحمق عليه. ومن أهم ضرورات وجوده في الحياة الحديثة هو دوره في بلورة مفهوم ” الدولة ” المعاصر. لأن فلاسفة العقل يعدّون أن الدولة تجسيد للعقل. أي أن الدولة والعقل متحايثان, فأي منهما حاضر حيث يكون الآخر.
وإذا قسنا الأمور على ما يسمى نظرية ” المهملات أو النفايات ” Rubbish Theory التي قال بها مايكل طومبسون Michael Thompson عام 1979 في مجلة Encounter :” من أنه لكي تفهم شيئاً ما فهماً عميقاً فيجب أن نعرف ضد ذلك الشيء “. لذلك كي نفهم العقل, وفائدته, على نحو مجد, لابد من فهم الحمق وأضراره؛ و خلاف ذلك صحيح أيضاً. لهذا يُفضّل أن تكون هناك ” فلسفة “, من نوع ما, للحمق, أو نظرية له, كما هو الحال في أن هناك فلسفة للعقل, التي هي أهم موضوع للفلسفة المعاصرة. وقد خاض فلاسفة العقل للعمق في طبيعة العقل, وهذا ما أدى إلى ابتكار حقل علمي جديد هو علوم المعرفة cognitive science. أما الحمق فبقي- كما يبدو- ” يتيماً ” لم يتصدى أحد لدراسته, على الرغم من خطورته. ومن غير المتوقع أن يكون له نظرية تحاكي ” نظرية المهملات “. لأنه في هذه النظرية نحدد ما ليس له قيمة ( المُهمل ), ثم تكون متمماته ذات قيمة. في حين نجد أنفسنا في إطار الحمق لا نستطيع, أصلاً, أن نحدد كل ما هو أحمق كي ننتقل إلى متمماته, أي إلى المعقولات, لأن الحمق غير منته. بيد أن خلاف ذلك يمكن أن يكون صحيحاً, أي يمكن أن نحدد المعقولات أولاً, ثم الانتقال إلى المتممات ( الحمق ).
وليس من الضروري أن يكون هناك دوماً نقاء خالص في التصرفات العاقلة, أو الحمقاء, عند الإنسان؛ لأن هناك تصرفات يطغى العقل عليها, ويشوبها بعض الحمق, وأخرى يطغى الحمق عليها, ويشوبها بعض العقل.
ومن نعم الله على الإنسان أن الرزق لم يرتبط مع العقل, وإلاّ كانت الطامة الكبرى, وكان شكل الحياة مختلفاً تماماً. لأن المال سيجتمع عند ذوي العقول دون غيرهم, ولهذا يقول الشاعر:
ولو أن العقول تسوق رزقاً لكان المال عند ذوي العقول
و ختاماً لا بد أن نشير إلى أنه إذا كان فيلسوف العلم الفرنسي رولان أومنس Roland Omnes يقول في كتابه ” فلسفة الكوانتم ” : ” إن الوظيفة الوحيدة لعقلنا هي استثمار الواقع “, فإننا نقول إن الهدف الوحيد للحماقة هو تدمير الواقع, أو ما بناه العقل. لأنه إذا كانت ماهية العقل هي الوعي, فإن ماهية الحمق هي تغييب ذلك الوعي. لذلك, إذا كان المنطق, ” نحواً عقلياً “, كما يقول عنه أبو سليمان المنطقي السجستاني ( المتوفي 380هجري ), يعصمه من الخطأ, فإنه لا يوجد نحوٌ للحمق يضبط إيقاعه. بل و الأكثر من ذلك, فإن الحمق يقود الإنسان, عادة, إلى التورط في ” حرب أهلية ” مع نفسه. لذلك عرف الناس, منذ القدم, خطورة الحمق, وحاولوا معالجته, بيد أنهم فشلوا في ذلك. والإنسان العاقل يستطيع ” تذوق ” كل ما هو عقلاني, في حين لا يمكن ” تذوق ” التصرفات الحمقاء, بل و يمجها صاحب المنطق السليم. لهذا نجد في كل ما هو عقلاني نوعاً من ” الأناقة الفكرية ” يرتاح إليها العقلاء, وينتجعون بها.
“لهذا نجد في كل ما هو عقلاني نوعاً من ” الأناقة الفكرية ” يرتاح إليها العقلاء, وينتجعون بها.”
صحيح وهذا ما يلمسه كل الرياضيين.
دمت بخير دكتور🌸
مقال ممتع ورائع انصح الجميع باطلاعه واطلاع الناس عليه