د. محمود باكير
(هذا المقال مستل من كتاب “محطات في تاريخ الرياضيات” لصاحب المدونة أصدرته جامعة دمشق عن مديرية الأدب العلمي عام 2019)
كثيراً ما يطرح بعضهم سؤال :” ما هي الرياضيات؟ “, دون أن يتوقعوا أن ثمة إجابات عديدة لهذا السؤال الحيوي. ولكن قبل مقاربة تعريف الرياضيات, والولوج إلى فضاء معناها, لا بد من الإشارة أولاً إلى أنها ليست ترفاً علمياً, أو زاداً فكرياً محضاً لا طائل منه, بل أضحت حاجة وضرورة لكل دارس, ومثقف, ومفكر, مهما كانت دراسته واهتماماته. وليس من باب المبالغة القول إن أي معرفة معاصرة تنقصها الثقافة الرياضية, هي فاقدة لأحد أبعادها الأساسية. ويكفي الإشارة إلى أنه حتى الفنون الجميلة, والتطبيقية, بما في ذلك النقد الفني بمفهومه الرصين ( تطبيقات الجشطلت gestalt وغيره ), أصبحت تلوذ بالرياضيات المعاصرة. وما دور الهندسة الكسورية Fractal Geometry في بعض مناحيها إلا تأكيداً على ذلك, على الرغم من ابتعاد, إن لم نقل غياب, بعض مؤسساتنا الأكاديمية العربية عن هذه الروح العلمية الحديثة التي ما فتئت تزاوج بين الرياضيات والحقول المعرفية الأخرى(1).
كما أن ثمة أسئلة أخرى مثل: ما هي فائدتها؟ وكيف تولّدت؟ وغير ذلك من الأسئلة التي لا تنفك تُطْرَح في هذا الإطار. لكن يبقى في صدارة تلك الأسئلة, وأكثرها أهمية وحيوية: ما هي الرياضيات؟ وقلما نجد من يتحدث عنه, أو يجيب عليه, في المحاضرات الجامعية المعنية بتدريس الرياضيات, أو حتى في المناهج المدرسية في مقررات الرياضيات. لأن معظم الرياضيين يقرون أن الإجابة على مثل هذه الأسئلة ليس أمراً يسيراً للمبتدئين, ويسهل ذلك مع تقدم الدراسة في الرياضيات, على الرغم من أن هذه الأسئلة مشروعة, وثمة حاجة ماسة للإجابة عليها. فأي فرد يعرف ماهية الرياضيات, وفائدتها, بقدر حصيلته المعرفية منها؛ كما أن مساحة الحديث عنها تتناسب طرداً وحجم هذه الحصيلة. لذلك فلا غرابة إذا لم نصادف في وسائل الإعلام المختلفة مقابلة مع أحد علماء الرياضيات, أو مع المختصين بها. لهذا يتندّر الرياضيون من أن رجل الشارع يستطيع أن يتذكر عدة أسماء فنانين, أو قادة سياسيين, وربما منجمين, ومصممي أزياء, ولكن من يستطيع أن يتذكر ثلاثة أسماء من علماء الرياضيات من القرن العشرين على الرغم من أنهم كثر. أو من يستطيع أن يقرن عظماء الرياضيات أمثال كارل فريدريك غوص Carl Friedrich Gauss ( 1777-1855 ), وجورج فريدريك ريمان G.F.B.Riemann ( 1826-1866 ), وكورت غودل, بأحد المفاهيم الرياضية التي أثروا بها الحضارة الإنسانية. وهذا أدى إلى أن تعيش الرياضيات في عزلة كبيرة عن الناس العاديين, وأن ثمة فجوة معرفية كبيرة, تزداد مع الزمن, بين ما يقوم به الرياضيون وبقية العالم. مع أن هناك سوء فهم كبير, لدى قطاع واسع من الناس, عن ماهية الرياضيات, وخاصة بحلتها الحديثة. لأنه لم يزل معظم هؤلاء يعتقدون, إلى يومنا هذا, أنها تنطوي على مجموعة من الإجراءات, والخوارزميات, بهدف القيام ببعض الحسابات. وهذا ربما كان حالها سابقا, إلى ما قبل القرن التاسع عشر الميلادي. أما الآن, وبعد التطور الهائل الذي طرأ عليها في القرنين الأخيرين, فقد أضحت, دون مبالغة, تتناول تقريبا كل شيء! في حين أن بعضهم لم يزل يعتقد, أنها ليست أكثر من مادة علمية, كغيرها من المواد الدراسية, كالفيزياء, أو الكيمياء, أو البيولوجيا ( علم الحياة ). وهي معنية بدراسة مجموعات الأعداد بمختلف أنواعها, والعمليات الرياضية عليها, فضلا عن دراسة بعض الأشكال الهندسية, والقليل من المبرهنات التي تتعلق بها, مع بعض مبادئ الجبر. وإذا بالغ هؤلاء في الإسهاب أضافوا إليها طرق التفاضل, والتكامل, وبعض المعادلات التفاضلية. وهذا ما كان حالها قبل قرنين من الزمن, أو أكثر. أما الآن فقد أضحت منهجا للتفكير, والرئة التي تتنفس بها جُلّ العلوم الحديثة. بل والأكثر من ذلك, فقد آلت إلى أداة خاصة للتواصل بين العلماء.
وللإجابة عن السؤال المطروح في بداية هذه الفقرة: ما هي الرياضيات؟ نشير إلى أن ثمة تقسيمات عديدة للعلوم, ولكن الأكثر انتشاراً هي أن العلوم تقسم إلى نوعين أساسيين: العلوم الصورية Formal Science, وتشمل الرياضيات, والمنطق, وبعضهم يضيف أحيانا إليها ما كان قريباً من تلك العلوم, مثل علوم الحاسوب النظرية Theoretical Computer Science, ونظرية المباراة ( المبارزةGame Theory ( , ونظرية القرار Decision Theory, وجزء من علم اللسانيات ( اللغويات ). والنوع الثاني يشمل ما يسمى العلوم الإخباريةInformative Science , وتتضمن بقية العلوم الأخرى ( العلوم الطبية, والإنسانية, والاجتماعية, والهندسات, وغيرها ). وهذا التقسيم له أهميته الخاصة لأنه يُبرز طبيعة الرياضيات الصورية, التي ترشحها لأن تقوم بدور مميز في حياة الإنسان العقلية, والعملية.
وللوقوف على طبيعة الرياضيات لابد من استعراض بعض تعاريفها, خاصة وأن لها تعاريف عديدة؛ ويعزى سبب ذلك إلى أن هناك أكثر من مقاربة لمفهومها. وهي يمكن أن تعني أشياء ” مختلفة ” لأناس مختلفين.
وجذر كلمة الرياضيات Mathematics في اللغة الإنكليزية يعود إلى الكلمة الإغريقية mathema, التي تعني: المعرفة, والتأمل, والإدراك, ونفاذ البصيرة. ونلاحظ أن هذه المعاني تغطي, في الأساس, عديد من الأنشطة العقلية, ليست ” الحسابات ” من ضمنها. أي أن الطبيعة الحسابية للرياضيات لم تكن في ذهن واضعيها الأوائل من الإغريق, بل إن هذه السمة أتت بعد ذلك. ومن هذه الروح يمتح الفيلسوف الإنكليزي فرانسيس بيكون Francis Bacon ( 1561- 1626 ) قوله المعروف في مقالة نشرها عام 1625 من أنه: ” إذا كان عقل إنسان في حالة تيه, فليدرس علم الرياضيات “. وربما قد لاحظ هؤلاء, فيما بعد, العلاقة غير المباشرة بين هذه الأنشطة العقلية, والعمليات على الأعداد, وبذلك تضمّن هذا المفهوم القيام بتلك العمليات.
ويقول أفلاطون: ” إن الرياضيات هي النموذج المتقدم في سلّم الحضارة “. ويقول آخر عنها: ” إنها أجمل ما تزهر به الروح الإنسانية, وهي كاتدرائية أبدية من المعرفة بنيت لبنة لبنة عبر العصور, ولكنها بعدد صغير من المصلين, ومجهولة لمعظم البشرية “. وهذا النوع من التعاريف يعروه نوع من ” الغطرسة ” الفكرية المغلّفة بمسحة من الشاعرية, فضلا عن أنها لا تقدم زاداً معرفياً عن طبيعة الرياضيات.
في حين نجد أن الفيلسوف والرياضي الفرنسي هنري بوانكاريه Henri Poincare ( 1854- 1912 ) يقول: ” إن الرياضيات لغة مبنية جيدا “. وهذا التعريف يُبرز ملمحاً أساسيا من ملامح الرياضيات الحديثة. أما الفيزيائي ويلارد جيبس Willard Gibbs ( 1839- 1903 ) لم يلق إلا خطابا واحدا في حياته. فقد وقف يوماً في ندوة جامعية كانت مكرّسة لتدريس اللغات, حيث قال: ” إن الرياضيات عبارة عن لغة “, ثم جلس في مكانه. بيد أن طبيعة هذه اللغة تنفرد بها عن غيرها من اللغات التي يتواصل بها الناس. وهذا ما كان يقصده مايكل عطية بقوله آنف الذكر: ” إذا كانت اللغة هي الصفة المميزة للجنس البشري, فالرياضيات هي الصفة المميزة لجنس العلماء “.
هذا وقد أعطى هنري بوانكاريه تعريفاً آخر للرياضيات, وهو أنها: ” فن إعطاء الاسم نفسه لعدة أشياء مختلفة “. وهو بذلك أبرز ملمحاً أساسياً آخر من ملامحها. ويعد هذا التعريف من أكثر التعاريف تعبيراً عن طبيعة الرياضيات الحديثة.
وبعضهم, في معرض حديثه عن الرياضيات, لا يعطيها تعريفا محدداً, بل يذكر الطريق العملي الواجب إتباعه لمعرفة جواب هذا السؤال. ومن هؤلاء الرياضي الأمريكي ( الألماني الأصل ) ريتشارد كورانت Richard Courant ( 1888- 1972 ), حيث يورد في مقدمة كتابه ذائع الصيت الموسوم ” ما هي الرياضيات؟ ” What is Mathematics? : ” من أجل العالِم والرجل العادي على حد سواء, ليست الفلسفة, بل التجربة الفاعلة لوحدها في الرياضيات نفسها يمكن أن تجيب عن السؤال: ما هي الرياضيات؟ “(2). أي أنه في هذا يبرز أهمية الجهد الشخصي, ومعاناته, في التعرّف على طبيعة الرياضيات. وهو محق تماماً في ذلك, لأنه بدون تلك المعاناة يستحيل على الإنسان مقاربة مفهومها. ومن أوائل من أشار إلى ذلك إقليدس في قوله الذي أشرنا إليه سابقاً: ” لا يوجد طريق ملكي إلى الرياضيات “(3).
والمدرسة الصوريةFormalist School ( وهي إحدى مدارس فلسفة الرياضيات ), التي كان من أبرز روادها الرياضي الألماني ديفيد هيلبرت David Hilbert ( 1862-1943 ), تقول: ” إن الرياضيات ليست أكثر من لعبة دون معنى, تُلعب بإشارات عديمة المعنى, وفقا لقواعد صورية معينة متفق عليها مسبقا “. وهذا التعريف يبُرز الملمح الأساسي في الفكر الرياضي الحديث, وهو أن ” طبيعة ” الكائنات المدروسة لا أهمية لها في الرياضيات, وأن ” العلاقات ” الموجودة بين هذه الكائنات هي وحدها المهمة. أي أن الفكر الرياضي الحديث استبدل بالأبحاث الدائرة حول طبيعة الفكرة, أبحاثاً حول ” وظيفة “, أو ” دور “, هذه الفكرة. وقد كانت هذه نقطة انعطاف في التفكير الرياضي الحديث, لأنها أطلقت العنان لهذا التفكير بأن يتحرّر من طبيعة الأشياء إلى التركيز على ” الوظيفة “, أو ” الدور “, ومن ثم الانتهاء ” بالعلاقات ” بين هذه الأشياء. لذلك يقول فيلسوف العلم الفرنسي رولان أومنيس Roland Omnes في كتابه ” فلسفة الكوانتم “: ” أصبحت الرياضيات مستقلة استقلالاً ذاتياً كاملاً, مباراة خالصة للعلاقات, حيث لم تعد الصور صوراً لشيء ما عيني, بل يمكنها أن تلائم أي شيء “(4). ثم يتابع أومنيس حديثه عن طبيعة الرياضيات الصورية بقوله: ” الفكرة الأولى تتعلق بصميم طبيعة الرياضيات, وليس الغرض منها دراسة الأعداد أو الأشكال الهندسية تخصيصاً أو أي مجال آخر متعين. هذه المجالات مجرد تطبيقات للرياضيات وليست أبداً ماهية الرياضيات. هذه الماهية هي دراسة العلاقات التي توجد بين المفاهيم, بغض النظر عن طبيعتها المعنية “.
في حين تقول المدرسية المنطقية Logicalist School ( المدرسة الثانية من مدارس فلسفة الرياضيات ) التي رائداها الفيلسوف والمنطقي الإنكليزي برتراند رسل ( Bertrand Russell ) ( 1872 – 1970 ), والمنطقي الإنكليزي ألفرد نورث وايتهيد Alfred North Whitehead ( 1861- 1947 ) من أن: ” الرياضيات رجولة المنطق, وأن المنطق شباب الرياضيات “. وهذا التعريف يأتي تعبيراً عن وجهة نظرهم التي تنص على أنه: ” يجب صياغة كل المفاهيم الرياضية, والتعبير عنها, باستخدام المفاهيم المنطقية “.
في حين نجد أن المدرسة الثالثة في فلسفة الرياضيات, وهي المدرسية الحدسية School Intuitionist, مؤسسها الرياضي والفيلسوف الهولندي بروور L.E.J.Brouwer ( 1881- 1966 ), تعد الرياضيات على أنها نتيجة خالصة للنشاط الذهني البنّاء للإنسانية, وليست اكتشافاً لمبادئ أساسية يُزعم أنها موجودة في الحقيقة الموضوعية. وأن نبع الرياضيات يكمن في الحدس الذي يعمل على توضيح المفاهيم الرياضية؛ وأنه لا يمكن ترميز الرياضيات على نحو كامل, وأن التفكير الرياضي مستقل عن اللغة الخاصة التي تُستعمل للتعبير عنه.
وإذا عدنا إلى قول بوانكاريه السابق من أن ” الرياضيات لغة مبنية جيدا “, الذي أصبح عمره الآن قرن ونيف من الزمن, نجد أنه لم يزل صحيحاً, ويحتفظ بحيويته المعرفية, وبجاذبيته, إلى يومنا هذا, وربما استمر بذلك مستقبلا. وخلال تلك الفترة ( في القرن العشرين ) تطورت الرياضيات تطوراً هائلاً, وولدت اختصاصات رياضية جديدة كان لها دور كبير في بلورة الفكر الرياضي الحديث, وخاصة مع أعمال نيكولا بورباكي Nicholas Bourbaki ( هو الاسم المستعار لجماعة, حمله حول عام 1933 مجموعة من الرياضيين الشباب معظمهم فرنسيين ), حيث نضجت نظرية المجموعات Set Theory, والتبولوجيا, والجبر المجرد, والتحليل الدالي ( التابعي ) Functional Analysis, وغيرها كثير. أي أن الرياضيات, بعد ما آلت إليه, لم تعد مجرد ” لغة مبنية جيداً ” فحسب, بل أضحت, إضافة إلى ذلك, ” منظومة ” مبلورة, وناضجة من العلاقات الصورية, وذلك إذا أخذنا في الحسبان مسلماتها ( موضوعاتها ), ومبرهناتها ( نظرياتها ), وطرق الإثبات فيها. لذلك أصبحت تمنح دارسها ( وليس أي دارس ) الذي يتابعها على نحو صحيح, منهجاً خاصاً للتفكير, من خلال محاكاته لها, ليس له نظير في العلوم الأخرى التي تتسم بالطبيعة الإخبارية. وخاصة إذا سلّمنا بما يقوله بعضهم, من أن معظم ما يقوم به الإنسان في الحياة هو” نوع ” من المحاكاة. بمعنى أنه ينزع نحو روح التقليد, ولا نعني بذلك التقليد الأعمى. فالغناء يُعد محاكاة للطيور, والرقص محاكاة للحيوان, والفن محاكاة للطبيعة, وكثير من النظريات الفيزيائية محاكاة للطبيعة, والذكاء الصنعي Artificial Intelligence محاكاة لتفكير الإنسان, والفلسفات محاكاة للشرائع السماوية, والفيلسوف يحاكي الأنبياء. بل إن بعضهم يذهب إلى أن ” الفلسفة هي التشبه بالله قدر الطاقة الإنسانية “, وفق ما يقوله أفلاطون.
وما قدمه برتراند رسل من تعريف للرياضيات على أنها: ” دراسة القضايا p التي تقتضي القضايا q “, أو بصياغة أخرى أكثر دقة: ” إذا كانت p فإن q If p, then q ) ” ), ينطبق على جُلّ الرياضيات البحتة بحلتها الحديثة. وهذا التعريف أصبح الآن يعتمده كثير من الفلاسفة, وعلماء النفس, تعريفاً للعقل. حيث أضحى مفهوم العقل في التصور العلمي المعاصر هو: ” ” القدرة على القيام بإجراءات حسب مبادئ “, بل إنه أساساً, نشاط منظم, ولنقل ” لعب حسب قواعد ” “( 5). وهذا المعنى للعقل أصبح تعريفاً له في معظم الحقول المعرفية المعاصرة المعنية بدراسته, ونخص منها فلسفة العقل. وقد لا نذهب بعيداً إذا قلنا إن ” البرمجة ” في علوم الحواسيب, إذا ركّزنا على جانبها الصوري, تعد محاكاة لهذا التعريف. أي أن تأثير الرياضيات على الطريقة التي يفكر بها الإنسان, وما صنعته من منهج خاص للتفكير, أصبح على قدر كبير من الأهمية. وخاصة الأثر الذي أرخى بظلاله على فلسفة العقل.
وهناك تعريف آخر طريف للرياضيات لبرتراند رسل إذا أخذناه بالمعنى الحرفي, وليس بمعناه المجازي. يقول رسل: ” إن الرياضيات علم لا يُعْرَف فيه عمّا نتكلم, وفيما إذا كان ما يقال صحيحاً “. وهذا التعريف هو تعبير عن الطبيعة الافتراضية – الاستنتاجية للرياضيات؛ أي أنه إعادة صياغة لتعريفه السابق الوارد آنفاً من أنها: ” دراسة القضايا p التي تقتضي القضايا q “. وهذه الطبيعة للرياضيات كثيراً ما تكون مضلّلة لغير دارسيها, لذلك يصعب على هؤلاء القبض على ماهيتها. لهذا كان تشارلز داروين Charles Darwin ( 1809-1882 ) يقول: ” إن الرياضي هو إنسان أعمى في غرفة مظلمة يبحث عن قطة سوداء, وهي ليست هناك “!
وثمة تعاريف ( مقاربات ) عديدة أخرى للرياضيات, تبدو أنها مختلفة. فمنهم من قال إنها ” مفاهيم مجردة “, أو إنها ” هندسة النماذج “, وغير ذلك كثير. فكل تعريف لها يركّز على جانب معين منها, أو أكثر تحديداً, يحاول إبراز إحدى صفاتها, دون التركيز على الصفات الأخرى. حتى أن بعضهم بدأ يشير إلى أنها أضحت “برمجيات” Software العلوم الأخرى. أو كما يقول عطية : “إن الرياضيات تمثل التقانة الذهنية للعلوم, وتقدم الأدوات الذهنية للعلماء”. وهذا أفضى إلى انفجار معرفي كبير في استخدام الرياضيات في العقود الأخيرة ,في معظم العلوم, ولم يعد ثمة علم يستطيع أن ينأى بنفسه عن تأثير الرياضيات.
وأخيراً نشير إلى أن تاريخ الرياضيات يحفل بأسماء كثيرة من الرياضيين الهواة الذين قدموا لها أشياء كثيرة. من هؤلاء, على سبيل الذكر لا الحصر, المحامي الفرنسي بيير دي فيرما Pierre de Fermat ( 1601 – 1665 ) صاحب المبرهنة الشهيرة Last Theorem Ferma`s , التي أثبتت أخيراً في نظرية الأعداد؛ كذلك الراهب الفرنسي مارين مرسين Marin Mersenne ( 1588- 1648 ). وفي العصر الحديث الرياضي البولوني ستيفان باناخ Steven Banach ( 1892- 1945 ) الذي لم يلتحق بالتعليم النظامي(6). ويبدو أن كل هؤلاء كانوا يستمتعون بما تتميز به الرياضيات من جاذبية ذهنية, و” جمال ” داخلي خلاّب. وهذا يؤكد مرة أخرى على طبيعة الرياضيات التي تحدثنا عنها سابقاً. بل الأكثر من ذلك, نجد أن بعض الناس العاديين, في عديد من الدول المتقدمة, وبسبب عدم قدرتهم على متابعة المواضيع الرياضية التي أضحت تتطلب التخصص, يستعيضون عن ذلك بحل الألغاز الرياضية العادية, التي تعمل على تنشيط الحالة الذهنية للإنسان, وبناء لياقته العقلية.
الهوامش:
- لمزيد من المعلومات انظر للكاتب: ” الرياضيات مفتاح النهوض في التعليم العالي العربي “, مجلة المستقبل العربي ( مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت ), العدد 454, كانون الأول ( ديسيمبر ) 2016.
- ” What Is Mathematics? “, Richard Courant and Herbert Robbins, Oxford University Press, 1978.
- ” حكمة الغرب..عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي “, برتراند رسل, ترجمة: فؤاد زكريا, عالم المعرفة ( الكويت ), الجزء الأول, الطبعة الثانية, 2009, الصفحة 176.
- ” فلسفة الكوانتم “, رولان أومنيس, ترجمة: أحمد فؤاد باشا و يمنى طريف الخولي, عالم المعرفة ( الكويت ) ,2008, الصفحة121.
- انظر: ” تكوين العقل العربي “, محمد عابد الجابري, مركز دراسات الوحدة العربية ( بيروت ), الطبعة التاسعة -2006, الصفحة 24. حيث يشير الجابري في الحواشي إلى أنه يستلهم ذلك من كتاب جان ألمو Jean Ullmo , ” الفكر العلمي الحديث ” المنشور باللغة الفرنسية.
- تعلم لوحده, وهو من أكبر رياضيي القرن العشرين, ويعدّه كثيرون مؤسس التحليل الدالي ( التابعي ), وهو التحليل الرياضي الحديث.
رائع
Love it