د. محمود باكير
(نشر هذا المقال في مجلة المعرفة-وزارة الثقافة السورية, العدد 663, كانون أول 2018)
عندما سأل الأب ابنه الشاب اللّماح الناضج عقلياً قبل أوانه بكثير: لماذا تختلط بجارنا التاجر الفاشل, وهناك فارق عمري كبير بينكما؟ فالشاب في أول العشرينيات من عمره, والآخر في آخر الأربعينيات, وهو لا يقدّم نموذجاً ناجحاً في هذه الحياة. فأجاب الشاب فوراً دون تردد, وباختصار: ” كي أعرف ماذا يجب ألاّ أكون “.
أي أن فائدة هذا الشخص ” الفاشل “, أو أمثاله, في هذه الحياة, تكمن في أنه يجسد النموذج الذي يجب ألاّ نحذو خطاه. وهذه العبارة تعبّر عن يقظة عقلية من نوع خاص, لما تكتنزه من عمق فكري كبير, فضلاً عن فائدتها في عديد من المجالات العملية. لأن تفكيرنا النمطي يتجه, عادة, نحو التركيز على النماذج الناجحة في أي مجال, وإهمال خلاف ذلك. مع أن أهمية ” النماذج الفاشلة ” لا تقل, عملياً, عن النماذج الناجحة, لأن الشيء بضده يُعرف. وقد يتعلم الإنسان منها, أكثر من النماذج الناجحة. وعن هذه الروح يعبّر المخترع الأمريكي توماس أديسون Thomas Edison (1847 – 1931 ) أثناء محاولته اختراع المصباح الكهربائي بأنه تعلّم أكثر من مئة طريقة لم تجد نفعاً. لذلك كان يقول: ” أنا لم أفشل، بل وجدت مئة طريقة ( حلاً ) لا يمكن للمصباح العمل بها” . وهذا النوع من التفكير لا يزيد من الاعتقادات الحقيقية عند الإنسان, بل يقلص من اعتقاداته الزائفة. وهذه مسألة حيوية للحياة السوية. ودوافع هؤلاء هو الفضول المعرفي, لأن أرسطو يقول بأن: ” كل البشر يرغبون بطبيعتهم أن يعرفوا”.
وعين هذه الفكرة ( البذرة ) هي ما ينطوي عليه بحث الخبير الإستراتيجي الأمريكي ( لدى المؤسسات العسكرية والأمنية الأمريكية ) إدوارد لوتواك Edward Luttwak الذي أحدث صدى كبيراً عند صانعي القرار في الولايات المتحدة الأمريكية, المعنون :” ” Give War a Chance المنشور في مجلة Foreign Affairs في نهاية التسعينيات من القرن المنصرم. حيث يقترح, وإن كان في سياق آخر, من أنه: ” يجب أن نعطي للحرب فرصة “. وأضحى هذا البحث معروفاً في دوائر المخططين السياسيين الاستراتجيين في الغرب, ومَعْلماً من معالم تفكيرهم لطرح حلول مشاكل العالم. ومن هؤلاء, على سبيل الذكر لا الحصر, الأكاديمي الكندي ويل كيمليكا Will Kymlicka في كتابه المعروف ” أوديسا التعددية الثقافية..سبر السياسات الدولية الجديدة في التنوع ” Multicultural Odysseys. وغاية لوتواك من ” إعطاء الحرب فرصة ” – وفق ما يقول – هي: ” إن الصراع العرقي العنيف أمر سيء, لكن من المهم بالنسبة إلى كل من الطرفين أن يتعلم بالطريقة الصعبة أنه لا يستطيع هزيمة الآخر, من ثم الحاجة إلى الجلوس إلى المفاوضات للوصول إلى حل وسط “. أي أن الحرب هنا تُعد ” النموذج الفاشل ” الذي يجب أن تتذوقه بعض الشعوب كي تُدرك, عملياً, أن هذا ليس خيارها الصحيح. بيد أن الفرق بين عبارة هذا الشاب اللماح, واقتراح لوتواك, هو أن عبارته استباقية, ووقائية, وقد لا يكون منها ضرر, لأن دوافعها معرفية بحتة. في حين أن الحرب, التي يقترحها لوتواك, يجب خوض غمارها, للوقوف على ما فيها من تخريب ودمار, كي يقتنع بعض الناس, أخيراً, بأنها غير مجدية. أي لا بد بالنسبة لهؤلاء من تقديم ” نموذج فاشل “, عملياً, كي يحسنوا خياراتهم.
وهذا النوع من التفكير اللانمطي, عند هذا الشاب, أو عند لوتواك, يذكّرنا بما تسمى ” نظرية المهملات أو النفايات ” The Rubbish Theory التي قال بها ميكائيل طومبسون Michael Thompson عام 1979 في مجلة Encounter , وإن كان في سياق آخر, التي يقول فيها: ” إنه كي تفهم شيئاً معيناً فهماً عميقاً فلا بد أن تعرف ضد ذلك الشيء “. فلكي نفهم شيئاً له ” قيمة ” لابد من دراسة ” انعدام القيمة ” عند ضد ذلك الشيء؛ لأن هذين الأمرين على طرفي نقيض. وكانت دوافع طومبسون في دراسته هذه, التي أتت ضمن إطار مختلف, هو أننا كثيراً ما ندرس الأشياء ذات القيمة في المجتمعات, كالعلم, والغنى, والسلم, وغير ذلك, وتهمل أضداد هذه الأشياء التي تكون معدومة القيمة كالجهل, والفقر, والحرب, إن لم نقل مدمرة. وما يهمنا من هذه النظرية أنها تلفت انتباهنا إلى أهمية الفكرة التي نحن بصددها. وذلك لأننا, عادة, ندرس ما له قيمة ( ما يشكل مصدراً للقوة ), ونهمل ما يمكن أن يكون من المهملات, أو النفايات ( لا يشكل مصدراً للقوة ). ووجهة النظر هذه تستبطن فكرة أنه يجب استحضار نموذج يُبرز السلبيات, وليس التركيز فقط على النموذج الذي يُقدّم الإيجابيات دون غيرها.
وإذا جرّدنا كل تلك الأمثلة من سياقها العام الواردة فيه, وركّزنا على ” فكرة ” كل منها, نجد أنها جميعاً تشترك ” بالبنية الصورية ” نفسها. أي أن ” العلاقة ” التي تحكم كل تلك السياقات هي ذاتها. وهي, ببساطة, تنطوي على أن: المهم أن تخوض, أو تطلع على, السلبي كي تعرف الإيجابي, دون الأخذ في الحسبان نسبة المخاطرة في كل منها. فحالة الشاب هي ” الاطلاع ” على نموذج فاشل كي يتعلم منه, ويتفاداه؛ في حين أن ما يطرحه لوتواك هو أن ” تخوض ” الحرب ذاتها كي تقتنع بالحل الآخر. وشتان ما بين الأمرين. فتحصيل الأول يتوسط المعرفة, في حين أن تحصيل الثاني يتوسط الدمار. والمسألة برمتها تتعلق, بالعمق, بعملية الإدراك العقلي عند الإنسان. لأن طريقة الإدراك عند الناس مختلفة, ومتفاوتة في درجاتها. وفي هذا تكمن مشكلة إنسانية كبيرة. والأمثلة السابقة, في الحقيقة, تتضمن بعض إشكالات الإدراك, واختلاف طرقه, بغية الوصول إلى ما يجب اختياره على نحو صحيح. والوجود العملي لجملة المقارنة السلبية يسهّل عملية الاختيار, بغض النظر عن حجم المخاطرة في بعضها. لهذا تُعدّ مسألة الإدراك مشكلة إنسانية معقدة, وهي في بؤرة اهتمام علم النفس. ومصدر أهميتها ينبع من القول المعروف: ” بأن كل الأشياء توجد حالما تُدرك “. ويُبنى على ضعف الإدراك الإنساني كثيراً من الأشياء. منها, على سبيل الذكر لا الحصر, ما يسمى ” تأثير التمويه ” Decoy Effect, حيث يهدف هذا التأثير إلى استغلال ذلك في مجال التسويق, بتشتيت انتباه الناس من خلال تقديم نموذج غير مرغوب فيه يكون دوره في تمويه الخيارات, ودفع المتلقي إلى خيار معين. أي أنه يستغل ضعف الإدراك عند الإنسان, أو كسله الذهني. وهذا التأثير أضحى جزءاً من دراسات اتخاذ القرار .decision making وقد استخدمته البريطانية المختصة في الرياضيات هناه فراي Hannah Fry في كتابها ” رياضيات الحب ” Mathematics of Love. فالمؤلفة تطرح ذلك كمثال على الطريقة التي يختار بها الناس, وتستخدمه في مجال العلاقات الإنسانية, وتحديداً في مجال الحب, والزواج. حتى أنه أصبح ثمة دراسات حول كيف يمكن استخدام هذا التأثير على نحو معاكس, أي لمصلحة المُستخدم, وليس لمصلحة المُروّج.
وربما يسأل بعضهم: لماذا لا يذهب معظمنا إلى الجانب الخيّر مباشرة في كل الأمور؟ وعلى الرغم من منطقية السؤال الظاهرية, بيد أنه يجانب ذهنية الإنسان العادي, والطريقة التي يفكر بها كثير من الناس. وإلاّ لماذا يكون هناك دوماً حروب طاحنة في العالم؟ فضلاً عن ذلك فإن وجود ” الضد “( وإن كان فيه النذر اليسير من الشر ) ضروري جداً, أحياناً, لاستبقاء حيوية الخير, وجذوته. وهذه ” الذهنية ” هي الكامنة وراء ما تطالب به بعض الدراسات السياسية في الغرب من أن وجود اليسار, في مجتمعاتها, ضروري من أجل بقاء حيوية الليبرالية. يقول راسل جاكوبي Russell Jacoby في كتابه ” نهاية اليوتوبيا ” The End of Utopia: ” إن حيوية الليبرالية تستند إلى جناحها اليساري, الذي يقوم لها بدوري المهماز والناقد. وحين يتخلى اليسار عن رؤية ما, تفقد الليبرالية مغزاها, ومن ثم تتحول إلى شيء رخو مترهل يفقد اليقين “. ثم يضيف: ” وفي الوقت ذاته يعاني الليبراليون, المجردون من جناح يساري, سقم الخيال وضعف الإرادة “. وقياساً على هذه الروح تبدو البطالة في المجتمعات الغربية ضرورة إنسانية, واقتصادية, لا غنى عنها, لأن وجودها, بحد ذاته, يعد تهديداً, غير مباشر, لأي فرد لا يقوم بواجبه على أكمل وجه, كي يتحول إلى جزء منها. لهذا يمكن أن ينطبق عليها – مجازاً – قول لوتواك: ” أعط البطالة فرصة “.
وقد نجني من هذه الفكرة بعض الفوائد على المستوى الشخصي, أو المجتمعي, إن أُحسن تطبيقها. أي ليست سيئة دوماً, كما تبدو, ولكن الطبيعة الإنسانية قد تقتضيها. بيد أنها يجب أن لا تتضمن ” خياراتها ” حلولاً صعبة, أو مدمرة.
ومن الأقوال التي تتحدث عن ” القوة “, وتنطوي على مغزى عميق, مع أنها تخالف ما اعتدنا عليه, وتشكل صدمة معرفية لبعضنا, قول أحد الكتّاب من أمريكا اللاتينية: ” إن قوة الخنزير تكمن في قذارته “. وربما الجديد في هذا القول أن قائله يبين لنا, على نحو غير مباشر, أنه ليس من الضروري أن تعبر ” القوة ” دوماً عن قيم إيجابية. بل من الممكن أن تمثل, أحياناً, قيماً سلبية للآخرين. فقد وجد القائل في قذارة الخنزير, وهي أهم سماته, مصدراً لقوته. ومعضلة الإنسان الأبدية أنه لا ينفك عن محاولة إدراك القضايا من منظوره الشخصي البحت, دون أن يحاول التجرّد من نفسه ليكون منظاره أكثر موضوعية. لهذا ننظر إلى ” القذارة ” بازدراء, ونكتفي بذلك, وليس إلى أنها ” قوة ” من نوع خاص يمتلكها آخرون, ويمكن استعمالها ضدنا. وسحر الأقوال المأثورة, والحكم, يكون, عادة, في مدلولها العام, وليس باقتصارها على معناها الحرفي الضيق, لما تتميز به من فكر مكثف, واختصار لتجارب الماضي. وإذا جرّدنا هذا القول من سياقه ( الخنزير ), ونظرنا إليه خارج ذلك, أي في مجال الإنسان تحديداً, وذلك بتركيزنا على الجانب الصوري ( المجرد ) منه, كون ” القذارة ” ( التي تعبّر عن القدرة على الشر عند الإنسان ) تنضح نوعاً من القوة عند هؤلاء ( أي ثمة أناس مصدر قوتهم شرهم ), فإن القول ينبّهنا إلى شيء لم يكن يخطر في بال معظمنا. وذلك لأنه أعطى ” القوة ” مفهوماً موسعاً, لم نألفه من قبل, لأنه لم يعد يقتصر على القيم الإيجابية. لذلك فإن المسألة في بعض جوانبها تتعلق بفهم طبيعة المعرفة. لهذا يقول دنكان بريتشارد Duncan Pritchard ( الأستاذ في جامعة أدنبرة ) مؤلف كتاب ” ما المعرفة؟ ” What is This Thing Called Knowledge?: ” من المثير للاستغراب حقاً أن تبدو قيمة المعرفة بعيدة عن أن تكون شيئاً واضحاً للعيان “.
ومن الناحية المبدئية قد لا يكون هناك ضير من طرح المسألة على ذلك النحو. لأن ثمة أشياء كثيرة لا تُعرف قيمتها إلاّ بضدها. فدور هذا الضد يبرز في توضيح ايجابيات هذه الأشياء. ومن أوضح الأمثلة على ذلك علاقة العلم بالجهل. فهذه علاقة جدلية, وكلما ازداد الإنسان علماً ازداد شعوره بجهله. أي لا نعرف حجم جهلنا إلاّ بقدر حجم علمنا ومعرفتنا. لذلك يقول فيلسوف العلم البريطاني ( النمساوي المولد ) كارل ر. بوبر Karl R. Popper ( 1902-1994 ) في كتابه ” أسطورة الإطار “: ” وكلما تقدمنا أكثر في المعرفة, تبينا بوضوح أكثر ضخامة ما نجهله “.
ومن بعض الأمثلة العملية المموّهة على ممارسة هذا النوع من التفكير, على نحو غير مباشر, هو محاولة وسائل إعلام بعض الدول العربية ( التي بقيت بعيدة عمّا أُطلق عليه اسم ” الربيع العربي ” ) الترويج لشعوبها مدى الدمار الذي أصاب تلك البلدان, دون أن تربط ذلك, صراحة, بالخيارات المتاحة. أي أنها أظهرت ذلك الخراب ( النفايات ) على نحو ” بريء “, وتركت للمتلقي أن يُدرك ماذا يجب ألّا يكون. كذلك فإن نجاح دونالد ترامب في الإنتخابات الأميركية الأخيرة, وأثر ذلك على تسريع صعود اليمين المتطرف في أوربا, وانتشار السياسات الشعبوية فيها, ونتيجة التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي, قد ينطبق على كل ذلك ” أعطهم فرصة “, كي يتبينوا خطأ تلك الخيارات. وإن غداً لناظره قريب.
Thanks for your blog, nice to read. Do not stop.