د. محمود باكير
خلق الله الموت تعظيماً للحياة وفق ما يقوله بعض الفلاسفة. فعلى الرغم من التناقض الصارخ بين طبيعتي الحياة والموت, فإن الحياة تستمد أهميتها ووهجها من حتمية الموت. هذا بغض النظر عن أن الموت حق. وما يعطي رحيل المتفردين معنى هو أن أثرهم في الأمة باق بعد رحيلهم. وفي هذا يكمن نبع صبرنا وعزائنا في رحيل أستاذنا وصديقنا وقدوة جيلنا الأستاذ الدكتور موفق دعبول رحمه الله, وأسكنه واسع جنانه. رحل الإنسان المعطاء الذي أمضى عمره في خدمة التعليم العالي العام والخاص, وخدمة طلابه, ووطنه, واختصاصه, وأهله,… واختصر ذلك أحدهم بقوله: بأنه أمة في رجل واحد. وبقي لنا ما لا يُعدّ: إرثه الأخلاقي, والقيمي, وسجاياه, وخصاله الحميدة, وغير ذلك كثير. حتى حياته كانت معالم طريق تنير درب أجيالنا القادمة نحو غد أفضل.
فقد عرفته, رحمه الله, عن بعد وأنا على مقاعد الدراسة في قسم الرياضيات بجامعة دمشق, معلماً, ومربياً متميزاً, في مطلع السبعينيات من القرن المنصرم. نرمقه من بعيد بإعجاب ومحبة, وقد كان في حينه مدرساً متمكناً, ولامعاً مع صغر سنه. فقد كان أصغر من حمل شهادة الدكتوراه في سورية, وربما في الوطن العربي. فقد كان عمره خمسة وعشرين سنة عندما عاد من الإيفاد. وبقي طيلة حياته العلمية والعملية دؤوباً في عمله, ديدنه اتقان كل ما يقوم به. ثم كان لي الشرف أن عرفته عن قرب زميلاً في القسم, وكان لنا جميعاً قدوة في شعوره العالي بالمسؤولية. وبعد ذلك منّ الله عليّ بأنه أضحى صديقاً ألتقيه باستمرار في مكتبه. وكم كنت أتطلع إلى زيارته, التي كانت في معظمها برفقة الصديق الدكتور بشير قابيل. وكان آخر اتصال معه قبيل دخوله المشفى, حيث أجابني أحد أحفاده, ثم أخذ الهاتف من حفيده وطمأنني عن صحته في بضعة كلمات ستبقى محفورة في الذاكرة.
ولحسن حظي فقد جمعتني معه محطات عديدة قربتني منه, وسمحت لي أن أعرفه عن كثب, كما أنها زادتني علماً وخبرة في هذه الحياة. ومن المحطات البارزة معه, وما أكثرها, أنه عندما طرحنا فكرة إنشاء جامعة خاصة في ديرعطية في تموز 2001 وذلك قبل صدور المرسوم 36 الذي بموجبه يتم ترخيص الجامعات الخاصة والصادر في أب من ذلك العام , اقترحت على الأخ الدكتور سليم دعبول أن نزور الدكتور موفق في مكتبه برئاسة جامعة دمشق ومناقشته في الفكرة, وكان عندها نائباً لرئيس الجامعة للشؤون العلمية. وهو أول شخص نستشيره في المشروع, وخاصة أنه ذو باع طويل في شؤون التعليم العالي. وقد اتصلت به وذهبنا في الموعد المحدد وطرحنا الفكرة عليه. وقد رحب جداً بالفكرة, وكان أحد المشجعين عليها. وهذا الموقف يحسب له, لأنه في يومها لم يكن أحد يتشجع لإحداث جامعة في الريف السوري, حيث اعتاد الناس لدينا أن تكون الجامعات في المدن الكبرى فقط. وقد سألته يومها: هل المسافة تعد مشكلة في تسويق الجامعة؟ فأجابني: المهم تميز الجامعة, وليس بعدها. وأحدنا يرسل ابنه للدراسة في جامعة تبعد آلاف الكيلومترات عن بلدنا. كل ذلك بسبب تميز تلك الجامعات. وقد أضحت هذه العبارة مفتاح النجاح للجامعات الخاصة. واقترح علينا أن نلتقي مع الدكتور محمد مراياتي الخبير في استراتيجيات التعليم العالي الذي كان يعمل في حينها في الأسكوا (التابعة للأمم المتحدة) في بيروت. وهذا تواضع من الدكتور موفق, عندما يشير إلى شخص آخر خبير كبير في استراتيجيات التعليم العالي. وحقيقة قد أحالنا إلى أحد أعلام سورية في هذا المجال, مع أنه يعمل خارج سورية, ويضع خبرته في تصرف جهات أخرى ليست سورية. وقد اتصلت يومها بالدكتور مراياتي في بيروت, وأخبرته بأن اتصالنا بناء على اقتراح من الدكتور موفق. وحددنا موعداً في دمشق للاجتماع معه أنا والدكتور سليم. فقد التقيناه بعيد ذلك بفترة بسيطة أثناء قيامه بزيارة عمل الى دمشق, في الساعة الثالثة من يوم حار في آب. وقد كان هذا الوقت الوحيد المتاح له بين اجتماعين. وتبع ذلك, بعد عدة أيام, غداء عمل في مطعم الشلال بالمزرعة بحضور الدكتور موفق, وخبير عراقي في المعلوماتية كان يصطحبه الدكتور مراياتي في مهمة في دمشق. ومن ضمن ما طرح وقتها ما أورده هذا الخبير عن تجربة العراق في مجال الجامعات الخاصة, وبعض السلبيات التي رافقت تلك التجربة. وقد كانت هذه اللقاءات في حينها تحت ضغط توقنا لأي معلومة عن إنشاء جامعة خاصة. فقد كانت هذه الفكرة غريبة على مسامع الجميع في سورية…تعليم عالي وخاص! ومن بعدها أصبحت جامعة القلمون أنموذجاً استنسخته الجامعات الخاصة الأخرى. وهذه اللقاءات على بساطتها , في حينه, مع الدكتور موفق والدكتور مراياتي ,كانت البذرة التي انطلق منها أول مشروع جامعة خاصة في سورية. وبعد تشكيل أول مجلس أمناء للجامعة أصبح كلاهما عضوين فيه, والذي عقد أول اجتماع له في 13 آذار 2002 في فندق الشام. والفرق بينهما أن الدكتور موفق تابع معنا المشروع وأصبح أول رئيس لجامعة القلمون, أما الدكتور مراياتي فقد استمر في عضوية المجلس إلى حين.
والحديث عن سجايا الدكتور موفق يطول جداً, فهو مدرسة لتربية الأجيال بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى. فقد كان مدرسة في الأخلاق, والقيم, والوطنية, والإخلاص, والعطاء, والإنسانية,….وقد لا نجد قيمة إيجابية, إلا ولها نصيب في شخصيته. وقد كان منفتحاً حتى على الذين لا يشاركونه مشاربه, ومستعداً أن يبني جسوراً مع الجميع. وكانت وجهة نظره أن ثمة جانباً خيّراً في كل إنسان يجب استثماره.
وسيبقى أستاذنا الراحل نبراس عصره…فلم يُحَدّد مكان الصلاة عليه بسبب الظروف الصحية الراهنة, ومع ذلك فقد امتلأ صحن جامع الدقاق في الميدان بالمصلين, مع أنه كان هناك تعتيم على المكان, ولم يعلم به إلاّ المقربون. وقد أبكى معظمهم نجله الدكتور بشر عندما أمّ المصلين في صلاة الجنازة, ولم يتمالك نفسه في لحظة الوداع الأخير.
وهذا غيض من فيض أستاذنا الراحل…وندعو الله أن يكون مثواه الجنة…والصبر والسلوان لعائلته وأحبته.
إنا لله وإنا إليه راجعون.