لماذا لا يستطيع الرجل فهم المرأة؟

د. محمود باكير

يقول الشاعر نزار قباني:

“قرأت كتاب الأنوثة حرفاً حرفا…ولازلت أجهل ماذا يدور برأس النساء”.

 وينطوي هذا القول على مغزى إنساني عميق, لأنه يعبّر عن أحد أهم حقائق الحياة, وهي عجز الرجل تماماً عن الوصول إلى فهم المرأة, مهما كابد, وبذل من جهد. فإذا كان نزار قباني, الذي كانت المرأة محور اهتماماته الشعرية, قد أعلن عجزه, صراحة, عن معرفة بماذا تفكر النساء, فكيف حال الرجال الآخرين الذين تكون المرأة إحدى مشاغلهم؟ وعلى الرغم من أن كل ما قدمه هذا القول, هو عجز صاحبه, ليس أكثر, بيد أنه يوقظنا على هذه المشكلة الكبيرة, ويضعنا أمام تحد عقلي من نوع خاص, علينا فهم أسبابه, ثم فك شيفرته, إن استطعنا هذا. فعملية فهم المرأة باعث كبير للرجل (إن كان زوجاً, أو أباً, أو ابناً, أو غير ذلك), وكثيراً ما تقض مضاجعه, لأن فهمها ليس بالأمر المتاح. وكثيراً ما يفضي هذا إلى أن عثورنا على زواج ناجح في هذه الحياة هو استثناء, وليس القاعدة, إن لم نقل إنه نوع من الصدفة.

     لقد خُلق كل من الرجل والمرأة بطريقة خاصة مختلفة, على نحو يصعب على أحدهما أن يفهم الآخر. وهذه تستبطن, كما يبدو, حكمة إلهية عميقة تقتضيها سيرورة الكون. فالحياة حافلة بالثنائيات المتضادة, كالخير والشر, والفضيلة والرذيلة, والليل و النهار, وغيرها كثير. بيد أن ثنائية الخَلق (الرجل والمرأة) لا تنطبق عليها سمة التضاد التي تنطق بها تلك الثنائيات. وأكبر خديعة للنفس يقترفها الإنسان عندما يستسهل وينظر إلى المرأة على أنها “نقيض” الرجل, أو خلافه. بيد أن هذا لا يفضي بالضرورة إلى أنهما متماثلان. فلا هذا, ولا ذاك! والتفكير من خلال الثنائيات (كما حال الأبيض والأسود, أو الصح والخطأ) لا ينطبق على هذا السياق. بل صيغت العلاقة بينهما على نحو يصعب أن يوجد مفردة واحدة في اللغة, أو جملة لغوية جامعة, تعبّر عن هذه العلاقة, أو توحي بها. لذلك ستبقى هذه العلاقة مفتوحة, وخاضعة للتجاذبات التأويلية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولذلك أسبابه؟

    ومقاربة هذه العلاقة ضرورة إنسانية تقتضيها طبيعة الحياة, وليست ترفاً اجتماعياً لا طائل منه. لأن جناحي الحياة الرجل والمرأة, ولا تستقيم بأحدهما دون الآخر, ولا تُزهر بغياب أحدهما.

     إن عدم قدرة الرجل على معرفة ماذا يدور برأس المرأة تمليها طبيعة ذهنية المرأة, أكثر من أنها قصور عقلي عند الرجل. أي هي تعبير عن الطريقة التي تفكر فيها, وعن  “آلية” صنع قراراتها. لهذا يجب التمييز بين أمرين مختلفين. الأول هو فهم المرأة, وما تتصف به من سجايا, وصفات. وهذه قد تكون صعبة ومكلفة, ولكن قد يستطيع بعضنا الوصول إليها. والأمر الثاني, والأكثر وعورة, وغموضاً, هو ماذا قررت المرأة عند مواجهتها بقضية ما. ويعزى سبب تلك المعضلة إلى أن “قرار” المرأة – إن جاز التعبير – يكون عادة آنياً (لحظياً), وقابلاً للتغيير في أية لحظة. و سبب ذلك هو أن آلية صنع قرارها, وقواعده, هي  نفسها متغيرة. أي أن المشكلة الحقيقية, في المحصلة, ليست في تغيير قرارها, بل في تغيير قواعد, ومبادئ اتخاذه, الكامنة وراء ذلك. وبعض الرجال يسمّون ذلك, تسرعاً منهم, مزاجية المرأة. فهذا العَرَض, وليس السبب. والحقيقة أن ثمة قواعد لاتخاذ القرار عندها لا نعرفها, وقد تكون المرأة نفسها لا تعرفها. وخطأ الرجل في ذلك – إذا استخدمنا لغة الرياضيات– أنه يستخدم نظامه الموضوعاتي (نسبة إلى موضوعة = مسلمة axiom) في فهم نظام موضوعاتي آخر (نظام المرأة) مختلف عنه. وفي هذا مغالطة منطقية كبيرة يقع فيها دون حتى أن يشعر. أي أن  “قواعد” تفكير  المرأة خاصة بها, لا يشاركها الرجل بها, وقابلة للتغيير. وقد تكون الحكمة من ذلك هو أن المرأة, غالباً, ما تحركها مصالحها, أو أكثر دقة, مفهومها الخاص للمصلحة. وهذا ربما ما يمليه عليها جنسها, أي “منطقها” البيولوجي الخاص بها. وكي تحقق هي ذلك, وتنتصر, لابد منها إعادة النظر دوماً “بقواعد” اتخاذ القرار. وهذه القرارات ليست بالضرورة تعبّر, دوماً, وبدقة, عن شخصيتها.

    وفي الضفة الأخرى هناك قسم من الرجال ينزعون نحو “تنهيج” تفكيرهم, مع أن معظم الرجال ليس لديهم منهج واضح في التفكير. ولكن القدرة على اصطناع هذا المنهج عند الرجال, عموماً, موجودة, إذا رغبوا في ذلك, على الرغم من أن تحقيق هذا يتطلب أناة, وتركيزاً عقلياً كبيرا. في حين أن هذه الإمكانية لا ترغب بها المرأة, أو ربما,غير متاحة لها فطرياً. لذلك نجد أن المرأة, عموماً, لا تحب القانون, وبعيدة عن روحه, لأنه يقيّدها أثناء اتخاذ قراراتها. بل تعد هذا رتابة, وروتيناً لا مبرر له؛ لذلك تمقت كل ما يحمل هذه السمة.  حتى وإن راق ذلك أحياناً لبعضهن, فهو من أجل تطبيقه على غيرهن من النساء. أي أنها في هذا اختارت قواعد (قيوداً) لغيرها, وليس لنفسها. وهي ليست ضد هذه الانتقائية. لهذا قلما نجد عالمات في الرياضيات, أو فلاسفة من النساء, لأن مناهج البحث في هذين الحقلين المعرفيين لا تتسق كثيراً مع ما تتوق إليه المرأة. في حين أنها تتفوق في مجالات أخرى مهمة, وخاصة في اللغات؛ لأن اللغة, أصلاً, ليس لها قواعد مطلقة, وشواذها أحياناً أكثر من قواعدها. وقد تشاطر المرأة اللغات هذه الجزئية.

    والمهم أن المرأة, عموماً, “ناجحة” بحياتها, على الرغم من عيوب مسألة صنع قراراتها. ونعني بذلك أنها تستطيع أن تحقق كثيراً من أهدافها بأقل ما يمكن من الخسائر. في حين أن الرجل قد يحقق كثيراً من أهدافه, ولكن مع وجود خسائر شخصية جسيمة. لأن التزام الرجل بالقواعد المرعية, وبمنهج معين, واعتزازه بهذا الالتزام, قد يعيق تحقيق بعض أهدافه, أو على الأقل قد يتطلب منه مكابدة وطاقة أكثر.

    وأحد التباينات الأساسية بين الرجل والمرأة, هو أنها تعدّ نفسها دوماً امرأة؛ أي أنها أولاً, وقبل كل شيء, أنثى. بل ويصعب عليها أن تغادر ذلك الإطار. أي أن انتسابها إلى جنسها هو شيء أساسي في حياتها, وهذا من مقتضيات منطقها البيولوجي. في حين أن الأولوية عند الرجل لذاته, قبل جنسه. أي أنه يعد نفسه فلاناً من الناس, أكثر من أنه رجل. لذلك نلاحظ أن الطالبة (خاصة في المراحل التعليمية المتقدمة) تتعامل مع مدرّستها, على أنها أنثى أولاً, ومدرّسة ثانياً. لذلك ثمة نوع من الصراع الخفي يعتري العملية التعليمية في هذه الحالة. بل والأكثر من ذلك, فإنه حتى الخادمة قد تتعامل مع سيدها (وأحياناً مع سيدتها) على أنها أنثى أولاً, وخادمة ثانياً, إن لم يكن ثالثاً. في حين أن الخادم ليس كذلك, فهو خادم أولاً, وثانياً, وأخيراً. لذلك نجد أن المرأة التي تتبوأ منصباً إدارياً, يكون صدامها الأساسي مع النساء, وليس مع الرجال, وأكثر ما تنجح فيه هو قيادة الرجال.

    وقد تكون هذه “الروح” هي العقبة الكأداء في تفوق المرأة في مجال الرياضيات. لأن دراستها تتطلب قدرة خاصة على التجريد (التفكير الصوري), وخاصة في مراحلها المتقدمة, والمرأة تجد نفسها في “نعيم” أنوثتها, وليس في نعيم التجريد, الذي يتطلب تحصيله مكابدة كبيرة.

    وهذه معالم أساسية في رحلة قصيرة في عالم المرأة لمساعدة الرجل على فهمها. وخاصة أن المرأة لا ترغب, عادة, أن تُفصح عن كنهها. حتى وإذا رغبت بعضهن في ذلك, فإنه ليس سهلاً عليهن القيام بهذه المهمة, لأن ما يجري في داخلهن هو جزء منهن, وليس من السهل على الإنسان التعبير عن الأشياء الفطرية المتأصلة فيه. وإذا أراد القيام بذلك فنبراسه يجب أن يكون قول أرخميدس (و إن ورد في سياق آخر) في أن الإنسان كي يستطيع أن يفهم العالم عليه أن “يسمو فوق نفسه”, أي أن يتجرّد منها. وهذه العملية المضنية تتطلب قدراً كبيراً من التجريد, والمرأة ليست بارعة في هذا الجانب, ولا تميل إليه, مع أن القدرة على التجريد نوع من الاكتساب. وقد يكون تعويضاً عن ذلك أن مُنحت المرأة القدرة على “الحدس” الذي قلما  يخطئ عندها. وهو المعرفة المباشرة, غير الخاضعة لقواعد عقلية واضحة. لذلك يتميز الحدس عن المحاكمة المنطقية, وعن الاستدلال, الذي اعتاد عليه كثير من الرجال. لهذا نجد أن المرأة تصل إلى عديد من النتائج مباشرة, دون المرور بالسيرورة المنطقية التي تطبع تفكير شريحة كبيرة من الرجال. وهذا ليس عيباً في تفكير المرأة, حتى أن العلماء العظام يسترشدون أحياناً بحدسهم. وفي هذا المعنى يقول فيلسوف العلم البريطاني كارل بوبر Karl R. Popper (1902 – 1994) إن: “العلماء العظام, شأنهم شأن الشعراء, كثيراً ما يستلهمون حدوساً غير عقلانية”.

    هذا وما قاله نزار قباني صحيح من حيث النتيجة, ولا خلاف عليه, من أننا ما زلنا نجهل ماذا يدور في رأس المرأة؛ بيد أنه قد نستطيع “استشعار” شيئاً من ذلك, دون يقين بمدى صحة هذا الاستشعار. وقد أشرنا إلى أن تلك المعرفة صعبة, لأنها ليست وليدة منهج نعرفه. لذلك لابد لنا من “ومضة” عقلية تساعدنا على الاستشعار بها. أي أن توجّه نزار قباني, أساساً, كما يبدو, ليس صحيحاً, لأنه يحاول “معرفة” ذلك, والمعرفة لها طرق لتحصيلها. بل يجب أن يكون توجهنا نحو “استبصار” ذلك. فالمرأة نفسها, ربما, لا تعرف, أو لا تريد أن تعرف, ماذا يدور في رأسها.

    و كثيراً ما نجد أن بعض المهتمين يشيرون إلى أن ثمة هوة بين الرجل والمرأة يجب ردمها. وتتصدى بعض الكتب لهذه المهمة المستحيلة, منها الكتاب المعروف “الرجال من المريخ, والنساء من الزهرة” Men are from Mars, Women are from Venus   

لمؤلفه جون غراي John Gray, وذلك بهدف تقريب وجهات النظر. بيد أن واقع الحال ليس كذلك تماما. أي أن المسألة ليست هوة يجب ردمها, أو القيام بتجسيرها. بل إن ثمة عوالم مختلفة لكل من الرجل والمرأة, تحول دون بلوغ التفاهم بينهما, لافتقادهما للغة المشتركة. لأنه من المعروف أن “اللغة المشتركة تتطلب عوالم مشتركة”. لهذا فإن المطلوب, إذا أردنا أن نحل هذه المشكلة المزمنة, هو أن يكون هناك “مترجماً” من نوع خاص للانتقال ما بين هذين العالمين, وليس للتوفيق بينهما لاستحالة ذلك. أي لا بد من اصطناع “معجم”  خاص, ثنائي اللغة (بالمعنى المجازي) يعبّر عن عوالم كل منهما. وأي محاولة أخرى بعيداً عن هذا ستولد ميتة.

     ومن المفيد الإشارة إلى أن وجهة النظر هذه تستمد نسغها من عصارة الفكر الرياضي الذي يطبعها بروحه. لذلك كان الفكر الرياضي الحاضر- الغائب فيها.     وفي الختام, تبسيطاً للموضوع, إذا أردت أن تعرف ماذا يدور في رأس المرأة عليك الانتظار طويلاً, كي تلتقط كلمة من هنا, وأخرى من هناك انفلتت من عقالها؛ وقد تستطيع نسج تصور عام من تلك الحفنة القليلة من الكلمات, ولكن لا تعرف إلى أي مدى سيطول هذا الانتظار الذي قد يكون كانتظار “غودو” (في مسرحية صموئيل بيكيت) الذي لن يأتي. لذلك ورد في التنزيل الإلهي: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) (الروم : 21), وقد ورد في الأثر أن سكن إليه غير سكن عنده, وغير سكن فيه. وسكن إليه أي ارتاح إليه, وهذه هي كلمة السر في كل ذلك, وليس المطلوب فهم المرأة.  

1 thought on “لماذا لا يستطيع الرجل فهم المرأة؟

  1. haipa

    مقال رائع جدا وهو مدخل مهم لفهم المراة .نتمنى ان يستفيد منه الجميع خاصة الرجال حديثي الزواج.

Comments are closed.