د. محمود باكير
(نشر هذا المقال في المجلة العلمية العربية للفتيان, الألكسو-تونس, العدد31, 2019)
يقول الرياضي الألماني ليوبولد كرونيكر Leopold Kronecker (1823-1891): “إن الله خلق الأعداد الصحيحة, وفيما عدا ذلك هو من صنع الإنسان”. أي أن الأعداد هبة إلهية, وهبها الله للإنسان كي يسوس حياته على الوجه الأفضل. والسؤال: ما هي الحكمة من ذلك؟ أي ما هو مبرر وجودها في حياتنا؟ فمن المؤكد أن أهمية العدد لحياة الإنسان ليست بأهمية الماء والهواء, مثلاً, ولكن مع ذلك فله أهمية من نوع آخر, وخاصة في حياتنا المعاصرة. من ذلك ما تنطوي عليه الأعداد من اقتصاد في الجهد, وترشيد للوقت. ويكفي الإشارة إلى أن الإنسان البدائي كان يعتمد المقايضة في حياته اليومية بدلاً من الأعداد. يقول الرياضي البريطاني المعاصر جون ماكليش John McLeish في كتابه “العدد “: إنه “حتى عام 1950, وفي بقاع نائية من العالم, كان هناك مجموعات من البشر لم يتجاوز فهمهم للعدد مرحلة: واحد..اثنان..كثير”. وهذا أقصى ما يستطيعون عدّه. ثم يضيف ماكليش: “وقد ذكر سير فرانسيس كالتون في أواخر الثمانينيات من القرن التاسع عشر, أن أحد أفراد قبيلة “دامارا”Damara في أفريقية بادل قطيعه من الغنم بلفائف التبغ, بأن أخذ لفافتين مقابل الرأس الأول من غنمه, ثم لفافتين مقابل الرأس الثاني, ثم لفافتين مقابل الرأس الثالث, وهكذا. ولم يكن بالإمكان تسريع عملية المبادلة هذه دون وقوعه في فوضى مطبقة”, وذلك لعدم معرفتهم بعملية العد”.
وقد خُلق العدد من أجل خدمة الإنسان, ولم يُخلق الإنسان من أجل خدمة العدد فقط. وما تقوم به الرياضيات هو توضيح “الوظيفة” المنوطة بالعدد, وتفعيلها, في جميع المجالات, من خلال انكبابها عليه, ودراسته, على نحو معمق. أي أن للعدد دوره الإنساني, والثقافي, وهو ليس بالقليل, وهذا ما نحاول بلورته.
يورد ألبير.ف. بايز في كتاب “التجديد في تدريس العلوم” من أن الفيزيائي هنري مارجينو يؤكد: “ليس بكاف أن نخشى العلم أو نُعجب به, فالقضية الكبرى في عصرنا هي أن نؤنسنه, أي أن نسرع التطور الذي يجعل العلم في صلة عضوية مع الفلسفة والثقافة والحياة”. وهذا ما ننشده من خلال ربط أحد مكونات الرياضيات الأساسية, وهو العدد, مع الحياة الإنسانية.
والعدد ليس غريباً عن الفطرة الإنسانية, لأنها تحتاجه في كثير من المجالات. بل والأكثر من ذلك فإن للحيوانات إحساس فطري به. يقول ماكليش بأنه: “للحيوانات إحساس فطري بالعدد, وهذا يعني أنهم يعرفون من الخبرة, دون تحليل وعلى نحو مباشر, الفرق بين عدد من الأشياء وعدد أصغر منه…وقد بيّن البحث بعد ذلك أن الحيوانات – الدجاج, مثلاً – يمكن أن تُدَرّب للتمييز بين ما نسميه أعداداً فردية وأعداداً زوجية من قطع الطعام”.
ما هو العدد؟
من المعروف أن مفهوم العدد يُعد من اللّامعرّفات undefined terms في الرياضيات؛ أي بمعنى أنه من الكلمات الأولية التي تستعصي على التعريـف؛ لذلك نقبل به دون أي تعريف. ومع ذلك يمكن مقاربــة مفهومــه من خلال الممارســة العمليـــة. وهو – ببساطة – ما تشترك به المجموعات التي يوجد تابع (دالة) تقابل (واحد إلى واحد) bijection) one –to- one correspondence ) بين عناصرها. فمثلاً، العدد “ثلاثة” هو ما تشترك به المجموعات المؤلفة من ثلاث زهرات، أو ثلاثة كتب، أو ثلاثة طيور…أي أن هذا “المشترك”, بين هذه المجموعات, قاد إلى تشكيل مفهوم “الثلاثية”. أو بصيغة أخرى, إذا أخذنا المجموعات الآنفة الذكر (الزهرات، الكتب، الطيور،…) وسألنا: ما هي طبيعة علاقة هذه المجموعات مع بعضها؟ نجد أن هناك تقابلاً (واحداً إلى واحد) بين أي مجموعتين من تلك المجموعات. وهذا “التقابل” تولّد عن الشيء المشترك بين تلك المجموعات. نسمي هذا “المشترك” في هذه الحالة العدد ثلاثة. أي أننا لم نعطِ أي أهمية لطبيعة عناصر المجموعة، بل انصب اهتمامنا على “العلاقة” بين تلك الأشياء. كذلك الحال في العدد أربعة, أو خمسة, أو غير ذلك من الأعداد. وبقليل من التجريد, وبإهمال طبيعة العناصر والتركيز على العلاقة بينها, نلاحظ أنه استطعنا أن نصل إلى هذا المفهوم, على الرغم من عدم امتلاكه أي تعريف.
بعض فوائده
إن فوائد العدد أكثر من أن تحصى في جميع مجالات الحياة. فمنها ما يصعب الاستغناء عنه, وقد لا يوجد له بديل. وفي مقدمة ذلك أنه يمنحنا القدرة على التفكير المجرّد. وهذه القدرة مؤشر على ارتقاء العقل الإنساني, لأنه كلما ارتقى العقل كان قادراً على التفكير بالمجرّدات. وعلى خلاف ذلك فإن الارتباط بالواقع الحسي دليل على بدائية العقل. لذلك فلا عجب إذا عرفنا أن بعض علماء النفس يعرّفون الذكاء على أنه القدرة على التفكير المجرّد. وصحيح أنه في اللغة قدر من التجريد, ولكن لا يمكن مقارنته بالتجريد الذي تنطوي عليه الرياضيات,على الرغم من أن اللغة تعلمنا المجردات منذ الطفولة. وحتى إن فعلت ذلك, فإن تأثيرها يكون بطيئاً جداً, لأن هذه ليست من مهامها, مع الإقرار بأن اللغة العربية حافلة جداً بالمجردات. في حين نجد أن الرياضيات كلها عبارة عن مفاهيم مجردة. بل إن التجريد هو رئتها التي تتنفس بها, وتبعث فيها الحياة. لذلك تعد الرياضيات أكثر حقل معرفي يعزّز هذه القدرة عند دارسيها. واكتساب القدرة على التجريد مسألة مضنية, ولا نشعر بآلية اكتسابها, لأنها تتم بالتدريج, وعبر فترة زمنية طويلة. ويكفي الإشارة إلى أن تعلم القواعد المتعلقة بالعد, وفق ما يقوله عديد من المختصين: “بحاجة إلى قرابة عشر سنين من التعليم المدرسي المكثف قبل أن نتمكن من متابعة هذا الوصف المجرد لهذه العملية”.
فكما أن اللغة ملكة طبيعية, كما يرجح بعض علماء اللسانيات (اللغويات), وفي غاية الأهمية, في عملية التواصل الإنساني, بما تنطوي عليه من مدلولات, كذلك حال العدد, لأنه ينطوي على لغة الكم, وخاصة في حياتنا المعاصرة التي تسارعت فيها عملية “التكميم” (التعبير عن الشيء كمياً) في كثير من المجالات لأهميته. فمعظم العلوم أضحت تعتمد على التكميم في عرض قضاياها, الذي أصبحمؤشراً على مدى تقدم هذا العلم أو ذاك, ومن ذلك علم الاقتصاد الحديث الذي أصبح يبتعد عن لغة التوصيف التي لا تغني شيئاً, ويقترب أكثر من التكميم.
والأعداد ليست فقط حاجة وضرورة حياتية للإنسان, بل حتى أنها مصدر ثرّ للتسلية لا ينضب. وربما كانت المربعات السحرية Magic Squares أقدم الألغاز التي لها صلة كبيرة في الأعداد. وهي مجهولة المنشأ, بيد أن أقدم لوح وجد عليه مربع سحري اكتشف في الصين. وهذه اللعبة لم تزل موضع اهتمام شريحة واسعة من الناس في عديد من الدول إلى يومنا هذا. ومن وحيها طوّرت أشكال كثيرة من الألغاز, وأضحى لها أشكال هندسية مختلفة, ولم تعد مقتصرة على المربعات كما كانت في السابق. والمربعات السحرية, بشكلها التقليدي, تتكون من مجموعة من الأعداد الموزعة على خانات صغيرة تؤلف المربع, بحيث يكون مجموع الأعداد في أي سطر, أو عمود, أو قطر, هو نفسه. ويعتقد بأن النظرية الرياضية لإنشاء هذه المربعات قد تبلورت في فرنسا في القرن السابع عشر الميلادي.
كذلك من مصادر التسلية الخاصة بالعدد قديماً ما يسمى بالأعداد المُضْمَرَة. وهي أن تضمر عدداً ما, ويُطلب منك إجراء بعض العمليات الجبرية البسيطة عليه, ثم يحزر السائل العدد المُضمر. ومن أوائل من اهتم بهذا النوع من المسائل من علماء العرب القدامى الفيلسوف والرياضي يعقوب بن إسحاق الكندي (ولد حوالي عام 185 هجري). فقد كتب عدة رسائل في هذا المجال حول استخراج الأعداد المُضمرة.
وحتى أن شعراء الجاهلية لم ينسوا نصيبهم من هذا النوع من المسائل. ومن هؤلاء النابغة الذبياني حيث يقول:
واحكُم كحُكمِ فتـاة الحيّ إذْ نَظَـرتْ إلى حَمــامٍ سِـــــــراعٍ وارد الثَّمَدِ
قالت: ألا ليتمـا هذا الحمامُ لنـــــــا إلى حمامتِنـا مع نِصْفِــــــــه فَقَدِ
فَحسّبــوهُ فألْفَوْهُ كمـا ذكَــــــــــرت تِسعاً وتسعين لم تنقُص ولم تَزِد
فكمّلت مائـــةً فيهـا حمامتُهـــــــــا وأسرَعَت حِسْبةً في ذلك العـــدد
فقد استخدم الشاعر مفهوم المعادلة ذات المجهول الواحد، من الدرجة الأولى، من غير أن يسميها، أو ربما من غير حتى أن يعي ذلك. ولحل المسألة بالطرق الحديثة المعروفة نفرض، أنّ الحمام الوارد الثمّد (الماء) هو x، فيكون نصفه 2/x، وقد تمنّت لو يصبح لها هذا الحمام مع نصفه؛ ثم إذا أضافت إليه حمامتها سيصبح المجموع مائة حمامة. لذلك تكون المعادلة على النحو:
x+ 2/x + 1 = 100 ، وبالحل نجد أن الجواب x =66.
هذا ويبدو أن الأعداد مصدر إشباع ذهني لبعض الناس, يختبر الإنسان بها قدراته العقلية. وكثيراً ما تذكر كتب التراث العربي الإسلامي بعض المسائل, والقصص, التي تشير إلى قدرة بعض الأئمة, أو الخلفاء السابقين, على حل بعض المسائل العددية المعقدة. وغالباً ما تستخدم هذه القصص تعظيماً لهم. وهذا يذكّرنا بالقصة المعروفة الواردة في الأثر المتعلقة بتقسيم التركة المؤلفة من 17 جملاً بين ثلاثة رجال. فقد أوصى المُوَرّث أن تكون حصة الأول نصفهم, والثاني ثلثهم, والثالث تسعهم, دون تقسيم أي من الجمال. وتنسب القصة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. وهي تثير معضلة يستحيل حلها دون حل إبداعي. لذلك تقول الروايات إن أمير المؤمنين أضاف جملاً من عنده, فأصبح المجموع 18 جملاً, وهذا العدد يقبل القسمة على 2و 3و 9, على خلاف العدد17. أي قابلاً للقسمة وفق الحصص المطلوبة (النصف, والثلث, والتسع), ويبقى جمل بعد التقسيم. لذلك أخذ أمير المؤمنين جمله في النهاية. أي أنه, عملياً, لم يعط الورثة الجمل الإضافي, بل كان شيئاً افتراضياً كي يحل هذه المعضلة. كذلك ما يروى عن الخليفة العباسي المأمون (يذكر ابن كثير في كتابه “البداية والنهاية” أن هذه القصة تُروى أيضاً عن علي بن أبي طالب) أن امرأة دخلت على مجلسه “فذكرت أن أخاها توفي وترك ستمائة دينار, فلم يحصل لها سوى دينار واحد”. فقال لها المأمون في الحال: قد وصل إليك حقك, كان أخوك قد ترك بنتين وأمّاً وزوجة واثني عشر أخاً وأختاً واحدة وهي أنت. فقالت: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: للبنتين الثلثان أربعة مائة دينار. وللأم السدس مائة دينار. وللزوجة الثمن خمسة وسبعون ديناراً. وبقي خمسة وعشرون ديناراً..لكل أخ ديناران, ولك دينار واحد.
حتى أن علم الجَمال (دراسة طبيعة الشعور بالجَمال والعناصر المكونة له), الذي يبدو ليس له علاقة بالعدد, يعتمد في بعض جوانبه على الأعداد, وخاصة فيما يعرف بالنسبة الذهبية Golden ratio التي تعد هامة جداً في دراسة الفنون والعمارة. والنسبة الذهبية هي قيمة جذر المعادلة من الدرجة الثانية التالية: x² – x – 1=0, وتساوي تقريباً1.618….. وقد استخدمها الفنان الإيطالي المعروف ليوناردو دافنشي (1452- 1519) على نطاق واسع في أعماله الفنية قبل دراستها بعدة قرون.
ونشير إلى أن عالم الأعداد غني بالأسرار, والألغاز, ولم يُكشف النقاب إلاّ عن الجزء اليسير منه. وقد زادت أهميته في العقود الأخيرة بسبب تطبيقات نظرية الأعداد في مجال التشفير في الحواسيب (الكومبيوتر). فقد شرع حديثاً (في الثمانينيات من القرن العشرين) في استخدام الأعداد الأولية(العدد الأولي هو الذي لا يقبل القسمة دون باق إلاّ على واحد وعلى نفسه, مثل…2,3,5,7) لإنشاء نظام خاص بالتشفير محكم وعلى درجة عالية جداً من السرية. وتكمن قوة هذا النظام في أن الرياضيات عاجزة, حتى اليوم, عن إيجاد طريقة عملية لتحليل الأعداد الكبيرة إلى عواملها الأولية.
والمفارقة الطريفة هنا أن إحصاء فوائد العدد, أو تعدادها, نحتاج أيضاً إلى العدد ذاته!
هل العدد يطال كل شيء؟
وهذا يجب أن لا يعني أن كل ما في الحياة يُعَبّر عنه عددياً, أو نستطيع تكميمه. فمثلاُ, كل ما هو إنساني يصعب التعبير عنه عددياً. ويكفي الإشارة إلى أنه من الصعب التعبير عن تذوق الحق, والخير, والجمال, عددياً. فالأعداد كائنات رياضية تستخدم للتعبير عن الظواهر غير الإنسانية، أو للاستخدامات الحياتية المختلفة, بغض النظر عن مدى اتساع تلك الاستخدامات.
فضلاً عن ذلك فقد بدأت الرياضيات منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي تقريباً تأخذ منحى مختلفاً من ذي قبل حينما بدأ يطرأ تطور على طبيعتها, وإن كان بطيئاً في بادئ الأمر. حيث شرعت تأخذ منحى التفكير المفاهيمي (نسبة إلى المفاهيم) أكثر من ذي قبل, وبدء انحسار طبيعتها “الحسابية” التي قوامها الأعداد, وكانت طاغية عليها طيلة قرون خلت. لذلك أصبحت تنعم بالجانب الفكري على حساب الطبيعة الحسابية. ونمو التفكير المفاهيمي واتساعه في الرياضيات لم يأت بديلاً عن طبيعتها الحسابية بل مكملاً له, وليأخذ كل منهما دوره الطبيعي في تشكيلها. فكل منهما يعبّر عن ملمح مختلف من ملامح الرياضيات المتعددة, حيث تكون بداياتها ذات طبيعة حسابية, ثم تبدأ في مراحلها المتوسطة, ثم المتقدمة, تتضح أكثر طبيعة الجانب الفكري منها.
وهنا يجب التمييز بين التفكير الرياضي والتفكير العددي. حيث أن التفكير العددي حالة خاصة من التفكير الرياضي, وأنه “الحالة الجنينية” التي تطورت عبر القرون إلى ما وصل إليه التفكير الرياضي. وقد بدأ أول تطور على التفكير العددي عندما بدأ التفكير الهندسي يأخذ حيزاً في حياة الإنسان. ثم تابع التفكير الرياضي تطوره, وخاصة مع بدء تجبير الفكر (التعبير عنه جبرياً) مع الرياضي البريطاني جورج بول George Boole (1815-1864), وبعد ذلك مع المنطقي الأمريكي (النمساوي الأصل) كورت غودل Kurt Godel (1906- 1978), وغيرهم كثر الذين لم يمنحوا الرياضيات نكهة جديدة فقط, بل عملوا على تغيير طبيعتها التي أدت في المحصلة إلى اختراع الحاسوب.
ولا بد من الإشارة إلى أنّ جذور المفاهيم الرياضية مستمدة من الطبيعة، مهما بدت هذه المفاهيم على درجة كبيرة من التجريد, أو التعميم. أي أنّ الكائنات الرياضية هي محاكاة لأشياء في الطبيعة، مع الاعتراف بأنّ طبيعة المحاكاة الرياضية تختلف عن غيرها من المجالات، إذ تخضع للتجريد، نظراً إلى أنّ الرياضيات مفاهيم مجردة. لذلك من هذا المنظور نستطيع فهم قول الرياضي البريطاني غودفري هاردي G.H.Hardy (1877- 1947): “أعتقد أنّ الحقيقة الرياضية قائمة خارج أنفسنا، ووظيفتنا أن نكشفها، أو أن نلحظها، وما النظريات التي نبرهن عليها، والتي نتكلم عنها ببلاغة، وكأنّها “مخلوقاتنا”، سوى نتائج ملاحظاتنا”. وما تقوم به الرياضيات ليس أكثر من أن تجد “اللغة” المناسبة للتعبير عن تلك الملاحظات. أي أن الرياضيات باختصار, وفق رأي معظم الرياضيين, تُكتشف, ولا تُخترع.
المكانة الأثيرة للأعداد
تتبوأ الأعداد مكاناً متميزاً في قلوب بعض الرياضيين. حيث يجعل بعضهم من عالَم الأعداد امتداداً لعوالمهم الشخصية؛ وهم يتواصلون مع هذه الكائنات المجردة, وكأنّها مخلوقات تعيش معهم, ويستأنسون بها في وحدتهم. كما أنّ ثمة نوعاً من الإلفة قد توّلدت بين هؤلاء والأعداد, وقد آلت إلى صداقة شخصية عند بعضهم؛ كما يقول الرياضي الهندي الفذ سريفيناسا رامانوجان ( 1887- 1920): “إنّ كل عدد يبدو لي كأنه صديق شخصي”. فقد ارتبط هذا الرياضي – رغم وفاته وهو في ريعان شبابه – بعلاقة وجدانية خاصة مع الأعداد, يصعب فهم كنهها, أو الوقوف على ماهيتها. ويروي الرياضي هاردي أنّه عندما قدم رامانوجان إلى بريطانيا سنة 1914, لزيارة جامعة كيمبردج, ركب في إحدى سيارات الأجرة, وكان رقمها 1729. قال هاردي لضيفه الهندي: “إنّ هذا العدد ممل ويبعث على السأم”. فأجابه رامانوجان في الحال: “إنّه ليس كذلك يا عزيزي…فهو عدد مثير جداً للاهتمام.. لأنه أصغر عدد يمكن التعبير عنه كمجموع مكعبي عددين, بطريقتين مختلفتين. فهو يساوي 123 + 13 = 1728 + 1 = 1729 ؛ و أيضاً يساوي 103 +93 = 1000 + 729 = 1729″. وهذا يشير إلى اهتمام رامانوجان البيّن بعالم الأعداد, في الوقت الذي يؤكد عبقريته. وكان هذا اللقاء الأول من نوعه, بين هذين الرياضيين, اللذين وجدا من الأعداد مادة للحديث بينهما, فقد أبدى كل واحد منهما موقفه الشخصي من ذلك العدد, مع أنه من الشائع أن الإنكليز يبدؤون حديثهم مع الآخرين عن الطقس وأحواله.
وربما كان “الحب العددي” – إن جاز التعبير – عند بعض الرياضيين نتيجة ميل فطري. ومن المرجح أن ثمة عوامل نفسية – من غير إنكار العوامل الذهنية – تفضي إلى هذه الحالة. لأنه على الرغم من أنّ التواصل مع الأعداد, يتطلب مكابدة ذهنية, إلا أنّه يعد نوعاً من أنواع التحديات العقلية, التي يبحث عنها هؤلاء ليفرّغوا طاقاتهم الذهنية؛ أو هي ميدان لممارسة اللياقة الذهنية. بيد أنّ اهتمام بعضهم بالأعداد لا ينطوي, دوماً على تحديات عقلية, بل يبدو أنّ ثمة راحة نفسية, يجنيها هؤلاء من تعايشهم الذهني معها. وإلا فكيف يمكن تفسير ما قام به الرياضي الأمريكي فريدريك كول F.N.Cole في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين, عندما أوجد العاملين الأوليين لأحد أعداد “مرسين” (نسبة إلى القس الفرنسي مارين مرسين Marin Mersenne(1588-1648)), وهو العدد [ 1 -2 67 ], أي العدد 2 مضروباً بنفسه 67 مرة, ثم نطرح من الناتج العدد 1. وقد استغرق ذلك منه, ما بعد ظهر يوم الأحد من أيام الأسبوع, على نحو منتظم, لمدة عشرين عاماً على التوالي؛ حيث انتهى منه سنة 1903 م. أي ما يقارب خمسة آلاف ساعة عمل؛ وهذا ما يعادل عمل سنتين ونصف في حياتنا العادية. وكل ذلك من أجل تحليل عدد إلى عوامله الأولية. إذ كان معروفاً, ومنذ سنة 1876 م, أنّ هذا العدد غير أولي, ولكن دون معرفة عوامله الأولية. ومما يجدر الإشارة إليه أن تحليل عدد إلى عوامله الأولية, من الأعمال الرياضية التي لا تتطلب جهداً ذهنياً خاصاً, أو حتى مهارة رياضية, بل هو عمل روتيني قوامه عملية القسمة العادية. ويستطيع أي شخص ملم بمبادئ الرياضيات, إنجاز ذلك, إن توفر لديه العزم والتصميم. فلولا العلاقة الخاصة التي تربط هذا الرياضي بالأعداد, لما تحمل عناء هذا الجهد الكبير. وصفوة الكلام أن صداقة بعض الرياضيين مع الأعداد – كما يبدو – ذات دوافع نفسية في المقام الأول, مع الإقرار بأنّها تتم في إطار ذهني, لأنّها تتناول كائنات مجردة. وحتى الآن لا يوجد دراسات علمية – وفق ما يعلم الكاتب – قد تناولت هذا الموضوع, أو بحثت في أبعاده المختلفة, بيد أنّه من المرجح أنّ يكون البعد النفسي أحد أهم الأبعاد. وقد تكون دوافع لجوء بعض الرياضيين إلى “صداقة الأعداد” شبيهة باهتمام بعض الناس بالحيوانات الأليفة, والعيش معها في منزل واحد.
وفي الختام نشير إلى أنه ربما من الأسهل البحث عن المجالات التي لا يوجد فيها ضرورة للأعداد, لأنها أقل بكثير من تلك التي تستدعي الأعداد.
المراجع:
1-“العدد..من الحضارات القديمة حتى عصر الكومبيوتر”, جون ماكليش, ترجمة: خضر الأحمد و موفق دعبول, عالم المعرفة-الكويت, 1999.
2– “التجديد في تدريس العلوم”, ألبير.ف. بايز, ترجمة: صلاح أحمد وشحادة الخوري, وزارة التعليم العالي-سورية, 1983.
3- “البداية والنهاية”, ابن كثير, دار ابن كثير.
4-“الرياضيات عند الكندي”, محمود باكير, دراسة نشرت في أبحاث الاحتفال بالكندي عام 1994-وزارة التعليم العالي(سورية). 5-“المنطق وفلسفة العلوم”,بول موى, ترجمة:فؤاد زكريا, دار العروبة-الكويت, 1981.