رحل المُعلّم وبقيت الصُوَّى
د. محمود باكير
السلام عليكم..
ثمة قول معروف وهو أنه: “توجد الأشياء حينما تُدرك”. والقيم الإنسانية, كونها مفاهيم مجردة, لا تدرك إلاّ إذا تجسدت بإنسان, وعبّر عنها بمواقفه. فليس من السهولة إدراك المجردات. وهذا ما تستبطنه فلسفة القدوة, وضرورتها في الحياة.
وربما هذا عين السبب الكامن وراء بعث الرسل. لهذا لم يكتف الخالق بشرائعه, فأرسل الأنبياء كي يجسدوها. وعلى خطا هؤلاء, ومن وحيهم نجد, بين ظهرانينا, مسيرة حياة بعض الأشخاص الأنقياء, تجسد عديداً من القيم السامية التي ترنو إليها النفوس التواقة لكل ما هو رفيع. ومن هؤلاء الذين عرفناهم عن قرب, فقيدنا, بل فقيد الوطن, معلمنا وقدوتنا الأستاذ الدكتور موفق دعبول رحمه الله وأسكنه واسع جنانه…فقد كانت مسيرته الشخصية الفريدة تشع بأسمى أنواع القيم. ومنها ما كان مفطوراً عليها, وأخرى كانت حصيلة إعمال عقله الراجح الذي تميز به. فقد أفضى لي يوماً, أن فترة عمله في ليبيا, في ستينيات القرن المنصرم, وهو لم يزل في ريعان شبابه, كانت أول محطة لمراجعة ذاته, وإعادة ترتيب أولوياته. فقد كان – رحمه الله – يراجع نفسه بنفسه, وهذا هو حال كل عصامي في هذه الحياة. وهو بهذا شاطر الرياضيات في واحدة من أهم سماتها, وهي “الخلق الذاتي”. وهذا كان حال فقيدنا الذي عمل على نفسه طيلة حياته. ولهذا فإن حديثنا عن قيمه قد لا ينتهي. بيد أن استحضار بعضها ضرورة تربوية ووطنية, فضلاً عن أنها معين نرتاض منه. وخاصة مع ما نعيشه, في أيامنا هذه, من شيوع شظف الأخلاق, الذي أفضى إلى شظف العيش, بعد كل ما حلّ بوطننا. والبعد القيمي في سيرورة استنهاض الأوطان ورفعته من أصعب ما يواجه تلك السيرورة. وهذه القيم بدأنا نفتقدها مع أنها تعد من “برمجيات” المواطنة الصالحة, التي تعمل الدول المتحضرة جاهدة لخلقها عند مواطنيها. ومن نبع قيمه الذي “وردناه صفواً”, نبذ كل أنواع التعصب. وكان يقول لي: إذا أردت أن تسوّق فكرة ما فلا تتعصب لها. وهذا على نقيض ما يقوم به معظمنا. مع أن التعصب لأي فكرة يئدها في مهدها. وخاصة, من المعروف, أن شدة قناعتنا بصحة أمر ما ليس له علاقة بصحته. وهذا ما نحن في أمس الحاجة إليه. فنلاحظ كيف أن عقله الجدلي وازن بين هذين الأمرين. وأحد مظاهر مقته للتعصب, بكل أنواعه, هو انفتاحه المعرفي على عديد من الحقول المعرفية الأخرى على الرغم من شغفه بالرياضيات وتفوقه بها. فلم تستحوذ الرياضيات وحدها على اهتمامه, ليبقى أسيرها, ولتكون معارفه وحيدة البعد لا تثمر سوى الصدى. وقد تجلى ذلك الانفتاح – لمن يعرفه عن قرب – في طريقة مقاربته لعديد من القضايا, والتي يمكن أن أعبّر عنها بمفهوم قد يكون جديداً, وأجد من المناسب تسميته “التفكيرالبنيوي”, ولهذا مبرراته الرياضية. وصحيح أنه كان عفوياً لديه, بيد أنه كان حصيلة معرفية أفضى إليها دأبه الذي عرف عنه. وقد لا يستطيع أحد التحلي به, إلاّ إذا كانت معارفه الرياضية واسعة, ومنفتحاً على العلوم الأخرى. إضافة إلى أنه لا بد من تفاعل معرفي بين الرياضيات وتلك العلوم. وهذه كانت إحدى أبرز سماته الشخصية التي تتطلب وقفة خاصة, وقد تكون حكمته المعهودة نابعة من ذلك. ويمكن التطرق إلى بعض الأمثلة من آثاره المكتوبة. منها ما ورد في متن المحاضرة التي ألقاها في ندوة “واقع المعلوماتية في سورية وآفاقها المستقبلية” التي أقامتها الجمعية العلمية السورية للمعلوماتية في مكتبة الأسد عام1998 . فقد تميزت مقاربته بأسلوب فكري خاص, لا مجال للخوض فيه الآن. والجديد فيه أن الرياضيات, بالنسبة إليه, لم تكن مجرد تراكم معلومات, كغيره, بل آلت إلى منهج للتفكير, لا يبلغه أحد إلا في حالات خاصة. وشرطه اللازم تحوّل المعلومات الرياضية إلى معارف شخصية عند دارسها من خلال تقطيرها العقلي لتؤول إلى سيالة فكرية. لأن المعلومات, بحد ذاتها, تبقى معزولة عن حاملها, ليس لها أية قيمة إن لم تثمر شيئاً حياً يمكن الاستفادة منه, وهو المعرفة. فالمعلومات يمكن تداولها, على خلاف المعارف, التي تقرن بصاحبها وتميزه, لهذا لا يمكن أن نستلها منه. فقيمة الإنسان العلمية بمعارفه, وليست بمعلوماته. وهذا عين ما جسده طراز تفكير فقيدنا.
كما كان الراحل صاحب مدرسة في مواجهة الصعاب التي كانت كثيرة في حياته, وخاصة في مرحلة شبابه. ومن أهم سماتها الحكمة, وصبره على الأذى لمعرفته أنه : “لمن عزم الأمور”. إضافة إلى ما كان ينعم به من روح التسامح, ومن كاظمي الغيظ والعافين عن الناس. بل كان يشفق على كل من كان يسعى لانتقام. لذلك حافظ على نقائه الفطري, وسموه, ورفعته, وعلى سلام داخلي يعز وجوده.
وليعذرني الحضور إذا قلت إن فقيدنا الراحل يستحق أكثر مما يمكن أن أبوح به. فما أعرفه عن هذا الصرح الكبير يحتاج سفراً لنوفيه حقه. وصحيح أن الله منّ علي بصداقته بعد أن كان أستاذنا, وصاحب فضل علي لا أنساه, بيد أن دوافعي لإنصافه, كقامة علمية وإنسانية يندر وجودها, ليست من ذلك بشيء. فلم أقل شيئاً لا يستحقه, بل لم أقل كل ما يستحقه. فلم أزل أراوح عند شواطئ سجاياه, وقد لا يسمح الوقت للإبحار إلى أعماق مكنوناته. وخاصة أنه كان -رحمه الله- نبراساً يجسد في سلوكه الشخصي ما أصبح معروفا أكاديمياً باسم “المسؤولية الخُلقية للعلماء”. والحديث عنها يتطلب متسعاً من الوقت. مع أنها مسألة ضرورية وملحّة في جامعاتنا. وخاصة أن ثمة عوزاً مرضياً فيها عند كثير من العاملين العلميين لدينا. وهذا العوز المدقع يكبح أي مسيرة نهضوية ويجهضها, لأنه يجردها من القيم. وقد جسد فقيدنا بسلوكه تلك المسؤولية في كل المواقع الإدارية التي تشرفت هي بوجوده. وتنبع أهمية تلك المسؤولية من أن معظمنا –للأسف- يفصل, في عمله, بين الشق العلمي والشق الأخلاقي على الرغم من وجوب تحايثهما. فقد بقي هذان الشقان عند فقيدنا متلازمين طيلة حياته.
واسمحوا لي في هذ التأبين أن أستحضر الذكرى العطرة لأساتذتنا الأفاضل الذين رحلوا عن دنيانا, بعد أن نهلنا من بحر علومهم, وتذوقنا من فيض قيمهم وأخلاقهم, وقدموا زاداً علمياً كبيراً لطلابهم ووطنهم, وفي مقدمة هؤلاء أستاذنا الدكتور عبدالغني الطنطاوي, أول من حمل شهادة الدكتوراه في الرياضيات في سورية, وكان مدرسة في العلم والأخلاق. ولم يتح لنا معرفته عن قرب. فقد غادرنا إلى بلد آخر, وبقي هناك إلى أن ارتقت روحه إلى بارئها في غربته. كما نستحضر ذكرى أستاذنا الكبير الدكتور صلاح أحمد, سليل العلم والأخلاق والوطنية, الذي كان رائد الرياضيات الحديثة في سورية. وكم اغتنيت شخصياً بمعرفته عن قرب. رحمة الله عليهما. فقد كان كل منهما نبراساً في أخلاقه, وكنزاً في عطائه. ولا يسعنا إلاّ أن نقول: كم كان جيلنا محظوظاً بهذه المنارات التي يعز وجودها, ومن المحزن أننا لم نستفد من عطائهم, أو من سجاياهم, كما يجب. وكثير منا لم يقدرهما في حينه. فطوبى لمن عاش حياتهم, وتمثل قيمهم, ونهل من معارفهم, ولا يكفي مجرد الاحتفاء باستحضار ذكراهم. بل يجب أن يكون جل ما ننشده هو أن يكون ثمة نصيب من سجاياهم الطيبة في حياتنا, وخاصة لمن كان منا يعيش “تحت خط القيم”.
ويقول بعضهم: إن أبعاد الحياة ثلاثة: طول وعرض وعمق. فطول الحياة هو المدة التي يعيشها الإنسان، وهو مقدار عددي يقاس بالسنوات. وعرضها يتضمن نشاط الإنسان، وحيويته، وصحته، وإقباله عليها. وأما عمقها فهو تأثير الإنسان في بيئته ومجتمعه. ومن هذا البعد الأخير ينبعث محط اهتمامنا في حياة عظمائنا. ومنه تسطع مدرسة فقيدنا لتمحو “أمية” بعضنا في العلم والأخلاق.
وختاماً, هذا غيض من فيض سجايا فقيدنا الراحل, وهو ما طفا على سطح ما تكتنزه إنسانيته الغنية المعطاءة التي لا تنضب. فحديثنا عنه يسعدنا, ويغني وجداننا, ويحيي اليباب فينا, وقد يكون بلسماً يعوّض جزءاً من ألم فراقه. فكل نفس ذائقة الموت, ولا نقول إلا ما يرضي الله. ولهذا نبتهل إلى الله تعالى أن يكون مثواه الجنة…والصبر والسلوان لعائلته وأحبته. فرحل عنا المربي, بيد أن الصوى التي أقامها باقية تنير طريق محبيه إلى كل ما فيه خير هذا الوطن. والخلود لكل المخلصين من هذه الأمة. وإنا لله وإنا إليه راجعون….والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سلمت أناملك دكتور محمود باكير فقد قدمت مايثلج صدورنا بأن نفي أستاذنا المرحوم الدكتور موفق دعبول ولو بالنذر اليسير مما يستحقه وحقا بالاضافة لصدق ماقدمت من حقيقة ومشاعر فقد جاءت الكلمة مقطوعة ادبية رائعة وبعمق علمي غير مسبوق
رحم الله الاستاذ الدكتور موفق دعبول واسكنه فسيح جناته .
لقد ترك أثرا أينما حل بعلمه واخلاقه وسلوكه …..آنسه الله عوضه الله الجنة اللهم ابدله اهلا خيرا من اهله وجيرانا خيرا من جيرانه ودارا خيرا من داره واحشره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اؤلئك رفيقا والحمد لله رب العالمين…..
اطال الله بعمركم دكتور ومتعكم بالصحة والعافية فأنتم قنديل من قناديل الدكتور موفق …….بارك الله بكم
م.غسان حج ابراهيم ج