د. محمود باكير
نشر هذا المقال في مجلة الفيصل العلمية – السعودية, العدد 50 و51 , العام 2016
تعيب بعض المذاهب الفلسفية المادية على المؤمنين, في الديانات السماوية, بأنهم لا يستطيعون إثبات صحة معتقداتهم، وأنهم يتقبلون التعاليم الدينية عن طريق ” الإيمان “, لا ” المعرفة “. ويذهب بعضهم – ساخراً – إلى أن عالم اللاهوتيين ” غير المرئي “, هو أمر خفي مثل بذلة الإمبراطور الخفية في قصة الكاتب الدانماركي هانس كريستيان أندرسن Hans Christian Andersen (1805-1875) المعروفة.
وكما هو الأمر في تلك القصة, لا يتسنى الإيمان ” بغير المرئي ” إلاّ لأولئك الذين يكفون عن تصديق أعينهم, وآذانهم, وعقلهم. وأتباع هذا المذهب يرددون في أدبياتهم, قول المحامي الفرنسي جان بودان Jean Bodin في القرن السادس عشر الميلادي : ” يمكن القول عن دارس الرياضيات الذي يصدّق النظرية عندما يطرحها معلمه دون أن يفهمها إنه يتحلى بالإيمان دون أن يمتلك المعرفة. ولكنه حالما يدرك مغزى البرهان, ويقتنع بصحة النظرية, ويبلغ المعرفة يفقد الإيمان “. وهذا الكلام مافتئ, إلى يومنا هذا, يُستخدم كمثال توضيحي للفرق بين ” المعرفة ” و” الإيمان ” في تعاليم هذا المذهب الفلسفي (1). إن قول جان بودان يشير إلى ” النصف العلوي ” من الحقيقة – إن جاز التعبير –, وليس إلى الحقيقة بأكملها. لأنه – كما يبدو – فإن أشياع هذا المذهب، ومعهم بودان، نسوا “النصف السفلي” من الحقيقة، وهو أن النظريات ( المبرهنات ) الرياضية التي يبنون عليها آراءهم مبنية على مصادرات ( مسلمات ) الرياضي الإغريقي إقليدس ( عاش في القرن الثالث قبل الميلاد ), التي أرساها في كتابه الذائع الصيت الموسوم ” الأصول “.
و الآن لنمعن النظر فيما يطلق عليه هؤلاء ” العيب ” الذي يؤخذ على المؤمنين ( التسليم بأساسيات الإيمان ), من وجهة نظر الفكر الرياضي الحديث، ولنعمل على تقييمه باستخدام الرياضيات أكثر العلوم موضوعية ودقة. وهذا يتطلب منا رحلة إلى الإطار الرياضي.
الرياضيات والمسلمات (الموضوعات)
من المعروف أن الرياضيات – ببساطة – استنتاجات منطقية لقضايا جديدة من قضايا قديمة سبق إثباتها؛ وهكذا دواليك, إلى أن نصل إلى قضايا يُسَلّم بها وحدها دون برهان. بمعنى أنه ليس ثمة استدلال رياضي دون وجود معطيات أولية. ومن ثم لبناء أي نظام رياضي, أو نظام منطقي, لابد من وجود بداية, أو قاعدة, للانطلاق منها. وهذه البداية أضحت الآن ( في الفكر الرياضي الحديث ) تتألف من كلمات معينة, غير قابلة للتعريف تسمى اللامعرفات undefined terms، أو مفاهيم أولية Primitive terms ، ومن قضايا أولية, تسمى مسلمات، أو موضوعات، أو أحياناً تسمى اللامبرهنات. والمسلمة علاقة لا تستخرج من علاقة ، أو من قضية proposition أخرى؛ أو بصياغة أخرى, هي بيان statement غير مثبت صحته.
وربما كان الفيلسوف الإغريقي أرسطو (384-322 ق.م)، الذي يعده المناطقة مؤسس علم المنطق، أول من أبدى انتباها لماهية المسلمات. فقد كان عنده حقائق أولية, أو أشياء للبدء بها. وهذه الحقائق نوعان : النوع الأول ” أوليات ” axioms، ومنها تُستنتج حقائق العلم . ومن الأوليات عنده الحدود, أي التعريفات. والنوع الثاني هو ” المصادرات ” postulates، ومنها يُثبت وجود أشياء العلم. والمصادرات لازمة – من وجهة نظره – لإثبات أن الشيء موجود في الطبيعة. فلا يكفي أن نصوغ للشيء التعريف المناسب إذا كان هذا الشيء غير موجود. بيد أن أشهر نظام رياضي ابتكره إقليدس بعد وقت قصير من أرسطو وارد في كتابه الأسطقسات Stoixia الذي سماه العرب كتاب ” الأصول “، ويعرف بالإنكليزية باسم ” The Elements of Euclid “(2). فقد استهل المقالة الأولى بخمس أوليات عامة, أو بديهيات ( الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية،….، الكل أعظم من الجزء ). كما عرّف النقطة, والخط ,والدائرة، فوجد لزاماً عليه أن ” يصادر ” على وجودها، فوضع المصادرات الخمس المعروف للهندسة الإقليدية(3). و” المصادرة ” كما يدل عليها جذرها ( يصادر على, أو يطالب بــ = postulare ) تعد ” مطلباً ” يتقدم به الرياضي لأن نسلّم له بالبداية ( القضايا الأولية ) للحصول على النتائج بعد سلسلة من المحاكمات المنطقية.
إن عمل إقليدس كان نقطة انعطاف في تاريخ الفكر الرياضي, على الرغم من أن التعاريف, والمصادرات, في كتابه المذكور, قد لا تلبي المتطلبات الحديثة من حيث الدقة, والصرامة. فقد تبين لاحقاً، وعلى خلاف ما قام به إقليدس، من أن “النقطة” و ” المستقيم ” كلمتان من اللامعرفات في الهندسة. وأكثر دقة, فإن ثمة ثلاث كلمات في الهندسة الإقليدية لا يمكن تعريفها. وهذه الكلمات هي نقطة, ومستقيم, ومتطابق congruent؛ أو هناك خيار آخر, ” نقطة “, و” مستقيم “, و ” بين ” between. وأما بقية مفاهيم الهندسة فإنها تُعرّف باستخدام هذه الكلمات الأولية الثلاث.
وهذه النزعة قد تجذّرت في الفكر الرياضي الحديث, حيث يتم البحث, دوماً, في كل فرع من فروع الرياضيات البحتة عن اللامعرفات فيه، إضافة إلى موضوعاته ( مسلماته) . فقد أثبت الرياضي الإيطالي غيوزيب بيانو Peano Giuseppe (1858-1932)، مثلاً، أن نظرية الأعداد الطبيعية كلها يمكن أن تشتق من ثلاثة مفاهيم أولية ( غير قابلة للتعريف ), وخمس مسلمات, إضافة إلى قضايا المنطق. والمفاهيم الثلاثة الأولية هي الصفر, والعدد, والتالي(4).
وقد شغلت مشكلة وضوح البديهيات, أو الأوليات, حيزاً كبيراً من اهتمام الرياضيين, و الفلاسفة, قديماً، وأقضّت مضاجع كثيرين منهم. فما هو بديهي لشخص معين قد لا يكون بديهياً لشخص آخر. وإذا قلنا إن البديهي هو الذي يكون بديهياً لقطاع واسع من البشر، فإن تاريخ العلم حافل بالأمثلة عن ” حقائق دامغة ” كان يعتقد بها هؤلاء ثم تبين أنها غير صحيحة. من هذه الأمثلة عدم كروية الأرض، وأن مدارات الكواكب حول الشمس دائرية الشكل، والأجسام الثقيلة تسقط أسرع من تلك الخفيفة. و أكثر الناس مابرحوا إلى يومنا هذا يعتقدون أن لكل سطح وجهين، مع أن الرياضي الألماني موبيس A.F. Mobius (1790-1868) بيّن في عام 1858 م أن ثمة سطوحاً أحادية الوجه، ولا وجود فيها لمفهومي ” الداخل ” و ” الخارج “, أو ” الوجه ” و ” القفا “. كما أن هناك سطوحاً أخرى مغلقة مثل “زجاجة كلاين”, نسبة إلى الرياضي الألماني كلاين F. Klein (1849-1925) ليس لها ” داخل ” أو ” خارج “(5).
هذا و من المعروف أن البداية الفعلية لظهور إرهاصات التحول الكبير في الفكر الرياضي كانت في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي على يد الرياضيين بولياي J. Bolyai (1802-1860م), ولاباشيفسكيN. Lobachevski (1793-1856م) في عمليهما المتميزين الذي أصبح يطلق عليه لاحقاً اسم ” الطريقة الموضوعاتية ” axiomatic method ( نسبة إلى موضوعة ) في البناء الرياضي. فكل واحد منهما أوجد على حدة هندسته اللاإقليدية. وكان ذلك إيذاناً بالتحرر من السيطرة الإقليدية التي هيمنت على الفكر الهندسي ردحاً من الزمن دام نحو ألفي سنة. بل كان ذلك فتحاً علمياً أَذِن بولوج الفكر الرياضي في مرحلة جديدة. فقد استنتج لاباشيفسكي أن المصادرة الخامسة لإقليدس, التي تسمى مصادرة التوازي ( من نقطة خارج مستقيم يمكن رسم مستقيم واحد فقط مواز له ), مستقلة عن المصادرات الأربع الأخرى. فضلاً عن ذلك, فإنه من الممكن وضع مصادرة أخرى مغايرة تماماً لها، ومع ذلك تبقى البنية الكلية للمصادرات الخمس الجديدة متسقة ( منسجمة ) consistent. والمصادرة التي وضعها في بنائه الجديد هي : ” من نقطة خارج مستقيم معطى، يوجد على الأقل مستقيمان يوازيان هذا المستقيم”. ثم جاء الرياضي الألماني جورج فريدريك ريمان Riemann (1826-1866)، وشكّل بناء هندسياً مختلفاً عن بناءي إقليدس, ولاباشيفسكي، ومصادرته تقول بأنه: ” لا يوجد خط مستقيم يمكن رسمه من نقطة خارجة عن مستقيم معطى مواز لهذا المستقيم “. ونتج عن كل ذلك ما أضحى يطلق عليه الآن في الأدبيات الرياضية الهندسات اللاإقليدية.
ومن الجدير بالذكر أنه لم يعد ثمة وجود لكلمة ” بديهية ” – بالمعنى الشائع لها – في الفكر الرياضي الحديث، بل إن هذه الكلمة أضحت عارية عن أي معنى من وجهة نظر الرياضيات. كما أصبح من الصعب الآن الحكم على ” صحة ” مسلمات نظام رياضي؛ بل إن بعضهم يعد هذا السؤال, بحد ذاته, ليس له معنى. لأن أي نظام رياضي يبنى على مجموعة من المسلمات يعد مقبولاً إذا كان متسقاً (منسجماً) منطقياً؛ بمعنى أن لا تفضي هذه المسلمات إلى مبرهنة ( نظرية ) ونقيضها, في آن واحد. فلم يعد مطلوباً من المسلمات, أو من نتائج المبرهنات, أن تكون منسجمة مع مفهومنا الشخصي للحقيقة. فبعض المسلمات تبدو صحيحة, و بعضها غير ذلك, وبعضها الآخر يبدو أنه حتى من الصعب الحكم على صحتها, أو خطئها. والنظام الناشئ, يعد نظاماً رياضياً مقبولاً, إذا كان متسقاً منطقياً. وبالحقيقة فإن ” الانسجام ” أو ” الاتساق “, وليس ” الحقيقة ” هو الذي أضحى مفتاح الفكر الرياضي الحديث. بل إن المسلمات في الرياضيات الحديثة أضحت أبعد ما تكون عن الوضوح. والمهم جداً هنا هو أن يكون هذا النظام ” مفيداً “. فالفوائد التي جنيناها من كل من هندسة إقليدس, ولاباشيفسكي, وريمان, لا يختلف عليهما اثنان، ولكن لكل نظام مجاله وتطبيقاته ( لمزيد من المعلومات انظر للكاتب: هل معنى البديهية بديهي؟ في ” دراسات لغوية من منظور رياضي “, الصفحة87, جامعة دمشق, 2015 ). ومع نهاية القرن التاسع عشر الميلادي, شرع الرياضيون في المطابقة بين الكلمات: ” موضوعة “, و ” مسلمة ” axiom, و ” فرضية ” assumption , و ” مصادرة “. وأصبحت كل هذه الكلمات تعد مترادفة رياضياً. ويعد عام 1936م هو لحظة الفصل في عملية المطابقة تلك حينما نشر بحثاً كان نقطة الانعطاف الكبيرة(6).
وقد برّر بعضهم طغيان كلمة (axiom) في الأدبيات الرياضية المعاصرة أكثر من كلمة ( postulate ) لسهولة الاشتقاق منها في اللغات الأوربية الحديثة من إنكليزية وفرنسية, على خلاف الكلمة الثانية.
وصفوة الكلام أن أكثر العلوم موضوعية, ودقة, قامت على ” التسليم ” بمجموعة من المسلمات. وما تبقى يشتق من هذه المسلمات، أو بالأحرى يُستنتج منطقياً منها. وهذا ليس عيباً في النظام الرياضي، بل على العكس من ذلك, فإن هذا أهم ما يمتاز به عن غيره كعلم مبني منطقياً.
ومن الجدير بالذكر أنه لم يزل إلى يومنا هذا , في بلادنا, بعض دارسي الفلسفة من نصوصها المغرقة في القدم يميزون بين البديهية, والمسلمة, في الرياضيات, أو في فلسفتها. كما أنه لم يزل بعضهم من كتّاب العربية إلى الآن يترجم كلمة ( axiom ) بمعنى ” بديهية “, بدلاً من ” مسلمة “, أو ” موضوعة “، وذلك نقلاً عن معاجم اللغة الإنكليزية – العربية, والتي تترجمها على ذلك النحو. ومصدر هذه الترجمة, أساساً, هو ما أقره مجمع اللغة العربية في القاهرة, في الثلاثينيات من القرن العشرين, حينما ترجمها على ذلك النحو, وكان ذلك مبرراً في حينها. وقد آن الأوان للتوقف عن استخدام كلمة ” بديهية “، على الأقل, في هذا الإطار،خاصة وأن معناها اللغوي لا يقارب المعنى المستخدم حالياً. ففي الصحاح (تجديد صحاح العلامة الجوهري ) نجد في مادة بده : ” البُداهة أول جري الفرس…وبادَهَهُ : فأجأَه. والاسم البداهة والبديهة. وهما يتبادهان بالشعر، أي يتجاريان “. والبديهية (لغوياً) في المحيط (الفيروز أبادي) : ” أولُ كل شيء وما يفجأ منه … ولك البديهية أي لك أن تبدأ “.
وطول الفترة التي استغرقتها عملية النضوج اللغوية – الفكرية تلك، وإدراكها على نحو واضح ومبلور, يعزى إلى طبيعة التجربة الفكرية المتعلقة بذلك. كما أنه مؤشر على الطبيعة المضنية لتلك التجربة التي استمرت حوالي ألفي سنة. يقول عالم النفس الأمريكي إريك فرومEric Fromm (1900-1980):” ينبغي أن نعلم أن كثيراً من التجارب لا تمنح نفسها بسهولة بحيث يتم تصورها في الإدراك”(7). إن الأحاسيس المتعلقة ببقاء الفرد, أو الجماعة، كالجوع والخوف، يمكن تصورها على نحو واع وبسهولة، أما حين يتعلق الأمر بتجربة أكثر دقة, أو تعقيداً, فإن التجربة لاتصل إلى الإدراك في العادة, لأنها ليست مهمة بما يكفي لأن تجذب الانتباه(8).
هذا ولن نعرّج على حقيقة مدلول القضايا الرياضية، و هي من المسائل الخلافية بين الفلاسفة؛ بل جُلّ ما نصبو إليه هو الإشارة إلى الطبيعة الموضوعاتية في بناء النظام الرياضي في الفكر الرياضي الحديث، وفاعليته في إطار الرياضيات. وبما أن الرياضيات أساس كل العلوم التي تبحث عن الحقيقة, فإن تلك الطريقة مرشحة لأن تؤول إلى منهج عام لبناء التفكير المنطقي المترابط عند الإنسان. وهذا يذكّرنا بقول الرياضي البريطاني غودفري هارولد هاردي Hardy (1877-1947م) : ” إن الرياضيات البحتة هي دراسة كيف يجب أن يفكر الناس لكي يحصلوا على نتائج صحيحة، وهي لا تأخذ في الحسبان الضعف الإنساني “.
عود على بدء
بيّنا كيف أن الفكر الرياضي قد طرأ عليه كثير من التغيير خلال القرنين المنصرمين، ومع ذلك فإن أتباع بعض المذاهب الفلسفية المادية مازالوا ” يؤمنون ” بصحة قول بودان, على الرغم مما استجد من معارف رياضية كثيرة لم ” يعرفها ” هؤلاء، وصرفهم عن ذلك ” إيمانهم ” في ذلك القول الذي ظنوه أنه ” معرفة ” خالدة. و قد يكون مبرّر قول بودان المذكور أن الهندسة الإقليدية حينها كانت مبنية على نسق من ” البديهيات ” بمفهومها القديم، وليس على نسق من ” المسلمات “، وأنه أتى ضمن سياق معرفي تاريخي محدّد, له ما يبرره. بيد أنه الآن لم يعد ثمة مبررات فكرية, أو مسوغات منطقية, للاستمرار في هذه التقسيمات الفكرية المصطنعة, والزائفة. خاصة و أن بدايات تلك المذاهب الفلسفية المادية تعود إلى ما بعد ظهور إرهاصات الفكر الرياضي الحديث منذ بولياي, ولاباشيفسكي, ولكنها – كما يبدو – لم تستفد من تلك الإنجازات الفكرية.
هذا ومن الجدير بالذكر أن بعض الكتّاب المتدينين قد انطلت عليهم هذه الفكرة الزائفة؛ ودفاعاً عن الدين ومقدساته، شرعوا يبحثون عن الحقائق العلمية التي تدعو إلى الإيمان بالله, والتسليم به, كخالق مبدع لهذا الكون. والحقيقة الغائبة عنهم, هي أنه ليس عيباً في الدين أن يُبنى على بضع مسلمات، وهذا ليس انتقاصاً من قدره وشأنه. ولكن كان من الممكن لهؤلاء أن يقارنوا بين العلم والدين للوصول إلى أن حقائق العلم تتطابق مع الحقائق الدينية.
دراسة مقارنة
الإسلام لغة : الاستسلام والانقياد، وهو مصدر أسلم ويُسلِم، والإسلام شرعاً هو الاستسلام, والانقياد, لله تعالى ظاهراً وباطناً. والإيمان هو مصدر آمن يؤمن إيماناً، وفي (لسان العرب) لابن منظور : ” اتفق أهل العلم من اللغويين وغيرهم على أن الإيمان معناه التصديق “. والإيمان شرعاً : هو التصديق في القلب لكل ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وسلم). والإسلام قائم على الإيمان بالله, ورسله, وكتبه السماوية. وما تبقى يشتق من هذه ” المسلمات “, أو يُبنى عليها. وعلى الرغم من تمايز الرياضيات عن الدين, إلاَّ أن كلاً منهما يُبنى على مجموعة مسلمات خاصة به. من المعروف أن فقهاء الإسلام يقسمون العلم إلى ثلاثة أقسام : ” العلم بالله، والعلم بأمر الله، والعلم بخلق الله. الأول يتعلق بالعقيدة، والثاني بالشريعة، والثالث ما يتعلق بخلق الله من شؤون البشر” ( يعزى هذا إلى الإمام الغزالي في كتابه ( إحياء علوم الدين )) . وما يعنينا في هذا المقام قوله العلم بالله المتعلق بالعقيدة. فقد وضعه في الترتيب الأول. والعقيدة في هذا السياق تشبه المسلمات في النظام الرياضي. وهذا يشير إلى أن بذور الفكر الموضوعاتي موجودة عند بعض مفكرينا منذ القدم، وإن لم يكن هذا الفكر مبلوراً كما هو حاله اليوم. وربما نجد – ببعض التأمل – أن التفكير الموضوعــاتي قد يكون جزءاً من الفطرة البشرية. وهذا يذكّرنا بقول الفيزيائي الإنكليزي بول ديراك Paul Dirac (1902 – 1984) أحد كبار رواد ميكانيك الكم : ” وبمرور الزمن يتضح أكثر فأكثر أن القواعد التي يراها الرياضيون مهمة هي نفسها القواعد التي كانت الطبيعة قد اختارتها “. و إذا توقفنا الآن عند تعريف الرياضيات – وفق ما يقوله الرياضي والفيلسوف الفرنسي هنري بوانكاريه H. Poincare (1853-1912م) من أنها – : ” ليست أكثر من لغة مبنية جيداً “, نجد أنه, باستخدام هذه اللغة, يمكن التعبير بصرامة, ووضوح, عن عديد من الظواهر والأفكار. وإذا توخينا الدقة فإن ما ننشده الآن هو تبيان أن الآلية التي تبنى بها الرياضيات فيها نوع من المحاكاة لطريقة بناء الدين، أي دين، مع الأخذ بالحسبان أن لكل منهما طريقته الخاصة التي تنسجم مع نسيجه الفكري. والفرق أن هذه الآلية خفية في الدين, مضمرة في تضاعيفه، على خلاف ما هو قائم الآن في الرياضيات. والحكمة في ذلك أن الدين ضرورة حياتية، ويجب أن يكون جزءاً من تفكير كل إنسان من الخاصة, أو العامة, على حد سواء. ومن ثم ليس من الضروري أن توظف الفلسفة في الدين، وهو بشكله النقي الموحى به، كي لا يكون عصياً على فهم العامة. فلا يشار , مثلاً , إلى طبيعة ” البناء المنطقي ” للدين على الرغم من أن مدخله الإيمان, ويسمح له بذلك.
إن طبيعة الدين, وطريقة عرضه, تتضمنان إدراكاً أسرع لأهمية الإيمان, أكثر مما هو قائم فعلياً في العلوم الرياضية. بل إننا نجد أن تصور بناء الرياضيات على نحو موضوعاتي يحدث في مراحل دراسية متقدمة نسبياً لدارس الرياضيات، وليس في مراحلها الأولى, كما يحصل في الدين مثلاً. من هذا المنطلق يمكن أن نفهم أهمية الشهادتين في الإسلام والنطق بهما لمن يعلن إسلامه. في حين نجد أن دارس الرياضيات يلج فوراً في مبادئ نظرية المجموعات, دون التطرق إلى الموضوعات التي بنيت عليها، مع أن هذه النظرية أضحت حجر الأساس في دراسة الرياضيات الحديثة. ويكون عادة ذلك ( أي التطرق إلى جملة الموضوعات ) في الدراسة الجامعية لطالب العلوم الرياضية, و حتى دون أي عمق. وقد يكون سبب هذا أن مسلمات الدين نابعة من الفطرة الإنسانية, ومباشرة, ويعزّزها الضعف الإنساني، على خلاف مسلمات الرياضيات ذات الطبيعة المختلفة. والأكثر من ذلك, فإن دراسة طبيعة النظام الموضوعاتي في الرياضيات للمبتدئين تشكل صدمة معرفية لهم، وقد تكون مبعث إرباك وتشويش, بدلاً من أن تعزّز ثقتهم في الموضوع المدروس. وربما كانت, فضلاً عن ذلك, عقبة أمام متابعة دراستهم, وتقدمها. كما أن الاهتمام بهذا الجانب هو ليس من شأن الرياضيات, بل من اختصاص فلسفة الرياضيات، التي تهتم أساساً بمحاولة إعادة بناء المعارف الرياضية المبعثرة, والمتراكمة, عبر العصور بحيث تتبلور ضمن ترتيب معين, أو معنى محدد. ودراسة هذا العلم تتطلب من المهتم مستويات جيدة في الرياضيات, قبل الشروع في ذلك، كما أنها تحتاج إلى ذهنية خاصة مختلفة عما هو مطلوب من دارس الرياضيات.
هذا ولا بد من الإشارة إلى أن الطريقة الموضوعاتية ليست عيباً منطقياً, كما قد يظن بعضهم, بل إنها أضحت أداة فعالة في عديد من الحقول المعرفية؛ وأن اكتشافها كان نقطة انعطاف في الفكر الإنساني, و إغناء له, لما تستبطنه من صرامة فكرية. وخاصة إذا عرفنا أن ثمرة الصرامة هي الإبداع, وأول من أشار إلى ذلك الرياضي الألماني كارل فريدريك غاوس C.F.Gauss ( 1777- 1855). يقول رولان أمنيس :” وغاوس على أي حال جدير بكل تقدير,لأنه أعلن أن الصرامة هي أم الإبداع ” (9) .
هذا ومن أوجه الشبه بين الرياضيات, والإيمان, أن كلاً منهما يدخل ضمن السلع الروحية للإنسان، وذلك باستخدام لغة أغروس وستانسيو(10). لأن السلع الروحية عند الإنسان تُقسم إلى فئتين عريضتين هما : سلع الفكر، وسلع الشخصية. وتشمل الفئة الأولى المعرفة العقلية بكل أنواعها، والفئة الثانية تشمل جميع خصال الإرادة الجديرة بالإطراء، كالكرم، والشجاعة، والأمانة. فالرياضيات يمكن تصنيفها ضمن سلع الفكر، والإيمان ضمن سلع الشخصية. وهذا على النقيض من السلع المادية، التي ليس لنا إمكانية اختيارها كالقوة البدنية، أو الثروة التي تهبط علينا فجأة من جائزة مادية، أو غير ذلك. والسلع الروحية تُكسب بالاختيار وحده، ويمكن أن تفقد بالاختيار وحده (11). وفي هذا المعنى يقول القديس توما الأكويني Thomas Aquinas (1225 – 1274): ” ما كان لأحد أن يؤمن دون أن يرى أنه يجب أن يؤمن “(12).
إن الأنظمة الرياضية المبنية عل نحو منطقي باستخدام جملة من اللامعرفات, والمنطلقة من جملة من المسلمات تعد – من وجهة نظر عديد من الرياضيين – محاكاة للخالق. فالرياضي عندما يسعى إلى إقامة نظام منطقي متسق, يكون بذلك يحاكي طريقة الخالق في إبداعه للكون. بيد أن طبيعة المحاكاة الرياضية تختلف عن غيرها في عديد من المجالات, حيث محاكاتها تخضع للتجريد, نظراً لأن الرياضيات مفاهيم مجردة. لذلك من هذا المنظور نستطيع فهم قول الرياضي هاردي :” أعتقد أن الحقيقة الرياضية قائمة خارج أنفسنا, ووظيفتنا أن نكتشفها, أو أن نلحظها, وما المبرهنات التي نتكلم عنها ببلاغة وكأنها ” مخلوقاتنا “, سوى نتائج ملاحظاتنا “.
والشيء الأساسي الذي يجب الإشارة إليه هو أن النظام الموضوعاتي في الرياضيات ليس مجرد ابتكار عقلي, أو شكل من أشكال الترف الفكري، بل هو ضرورة منطقية, قادتنا إليه طبيعة بناء الرياضيات, بعد عمل دؤوب من الرياضيين. وهو أمر لا غنى عنه, ولا مفر منه, من أجل الحصول على بناء رياضي متكامل خال من التناقض والعيوب. وكذلك إيمان الإنسان, منذ القدم, ” بقوة مسيّرة ” لم يكن من النوافل، بل كان ضرورة فرضتها كثير من الظروف الذاتية, والموضوعية, للإنسان. وقد نستطيع القول : إن كلاً منهما كان محصلة ” حصار ذهني ” لا مفر للإنسان منه. لقد كان الرياضي والفيزيائي الإنكليزي اسحق نيوتن Isaac Newton (1643-1727) يؤمن بهذه الروح، لذلك : ” حاول أن يحتفظ بمكان للألوهية في نظامه الميكانيكي الخاص بالسماوات. ففي رسالة وجهها إلى ريتشارد بنتلي (Richard Bentley) في عام 1692 أكد نيوتن على أن الله ضروري لإحداث حركة الكواكب وإرساء البنية الأصلية للمجموعات الشمسية قائلاً : ” إن حركات الكواكب الراهنة لا يمكن أن تكون قد انبثقت من أي علة طبيعية فحسب، بل كانت مفروضة بفعل قوة عاقلة (13). هذا بغض النظر عن أن الإيمان في الإسلام ليس من أجل رب العالمين, بل من أجل الإنسان نفسه, لأن الله غني عن العالمين.
لهذا أضحت فلسفة ” الإيمان ” منسجمة مع الفكر الرياضي الحديث, المبني على الطريقة الموضوعاتية, أكثر من انسجامها مع الفكر الرياضي القديم, الذي كان يمتح منه ذلك المذهب الفلسفي الذي بقي أسير بعض المعارف الراكدة. لأن الفكر الرياضي الحديث لم يعد يتضمن ما يسمى ” بديهيات ” بمعناها القديم. والإيمان بالله لا يعد من البديهيات إن استخدمنا هذه الكلمة بمعناها الشائع . لأن الإنسان منذ بدء الخليقة عبد الأصنام، والكواكب، والكائنات المختلفة، ولم تتبلور فكرة الإيمان بالله عنده إلا مع بعث الأنبياء, و مجيء الديانات السماوية، التي أتت متأخرة نسبياً, قياساً بتاريخ البشرية. لذلك ورد في التنزيل الإلهي ” وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ” ( الإسراء:15). و صحيح أن الدين ضرورة حياتية, وشيء فطري، ولكن ” الإيمان بالله ” كان منحة إلهية متأخرة لم ينعم بها الإنسان البدائي. وربما كان من مبررات هذا التأخير النسبي هو أن ذلك الإنسان لم يكن مهيأً فكرياً, ونفسياً, بعد لقبول هذه ” الحقيقة “. والاستعداد البشري ضروري دوماً لاستقبال كثير من المفاهيم. وهذا ما بدأت تعيه النظريات التربوية الحديثة, وتركز عليه أثناء تقديم مفاهيم جديدة للدارسين.
وكما أشرنا آنفاً فإن ” المصادرة ” قضية لابد من التسليم بها قبل الشروع في أي شيء، وهي في ذلك تُخفي مظهراً من مظاهر العجز بالنسبة إلى الفكر الدقيق. يقول الرياضي والفيلسوف السويسري فردينان جونست (F.Gonseth) (1890 – 1975): ” فإذا كنا نستطيع البرهنة على شيء، فلن نقول أبداً إنه من الواجب علينا التسليم به. فضرورة القبول تعادل استحالة البرهنة ” (14). وكذلك حال الإيمان, فمنذ البداية، وعند الخطوة الأولى لتلقي التعاليم الدينية نعلن عجزنا وقبولنا، وما تبقى يعد استنتاجاً. وصحيح أن المسلمات في الرياضيات تعد ” فرضيات ” من نوع خاص, وبعدها تبدأ عملية الاستنتاجات المنطقية، بيد أن هذه الفرضيات ليس من الضروري أن تخضع للتحقق العملي كما هو الحال في فرضيات العلوم الطبيعية. وكذلك هو الحال في الإيمان فإن مسلماته لا تخضع أيضاً للتحقق بالمعنى المعروف لهذه الكلمة, بل هي ذات طابع غيبي.
والفرق الأساسي بين الإيمان, والنظام الموضوعاتي في الرياضيات، الذي يجب الإشارة إليه، هو أن الإيمان لا يكون فاعلاً, أو قوة مؤثرة في التغيير, إلاَّ إذا امتزجت المعرفة الفكرية, بالمعرفة الوجدانية، أو كما يقول الفيلسوف الهولندي باروخ إسبينوزا B. Spinoza (1632-1677م) : ” إن المعرفة الفكرية لا تؤدي إلى التغيير إلاَّ بقدر ما تكون معرفة وجدانية أيضاً ” (15). وما يقارب هذا المعنى قول كثيرين ممن كتبوا في مجال العقيدة الإسلامية, من أن العقيدة تبدأ من العقل وتستقر في القلب.
وعلى الرغم من أن الفلاسفة جَهَدوا في التمييز بين ” المعرفة ” و ” الإيمان “، ونظروا إلى البرهان الرياضي على أنه مثال ناصع ” للمعرفة “، إلاَّ أن هذا البرهان في الحقيقة مبني في أساسه على شكل من أشكال ” الإيمان “، وهو التسليم بمجموعة من المسلمات. فلن نقتنع بالبرهان إذا لم نسلّم بالمبادئ الأساسية التي بُني عليها النظام كله. فعملية التمييز هذه – في بعض جوانبها – لا تخلو حقيقة من زيف واع, أو ربما غير واع.
الحواشي
1 – انظر ” في المادية الدياليكتيكية والمادية التاريخية “، تأليف بوغو سلافسكي وزملاؤه، ترجمة : خيري الضامن. دار التقدم (موسكو)، 1975، الصفحة 15.
2 – حققه د. أحمد سليم سعيدان تحت اسم ” هندسة إقليدس في أيد عربية “، دار البشير (عمان)، 1411هـ = 1991م.
3 – لمزيد من المعلومات انظر المرجع السابق.
4 – فمثلاً, تالي العدد صفر هو الواحد، وتالي الواحد هو اثنان، وهكذا………
5 – انظر, مثلاً, 1988 , Books Penguin, K. Devlin,” Mathematics :The New Golden Age”
6 – 1936 , Oct.1, No.2, Vol. 1 ,Philosophical Series,Univ. of New Mexico Bulletin
7 – انظر مجلة المعرفة، وزارة الثقافة (سورية)، العدد 430 (1999)، الصفحة 116.
8 – لمزيد من المعلومات انظر المرجع السابق.
9- ” فلسفة الكوانتم “, رولان أومنيس, ترجمة: أحمد فؤاد باشا و يمنى طريف الخولي, عالم المعرفة ( الكويت ) ,2008, الصفحة88).
10– انظر ” العلم في منظوره الجديد “، تأليف : روبرت م. أغروس و جورج ن. ستانسيو، ترجمة : د. كمال خلايلي، عالم المعرفة ( الكويت )، العدد 134، الصفحة 90و 91.
11 – لمزيد من المعلومات حول السلع الروحية والمادية انظر المرجع السابق.
12 – ” البرهان في الفلسفة “، د. محمد بديع الكسم، ترجمة : جورج صدقني، وزارة الثقافة ( سورية )، 1991، الصفحة 68.
13 – انظر ” العلم في منظوره الجديد “، الصفحة 58.
14 – ” المنطق وفلسفة العلوم “، تأليف بول موى، ترجمة : د. فؤاد حسن زكريا، دار العروبة للنشر والتوزيع ( الكويت )، 1401 هــ = 1981 م، الصفحة 116.
15 – مجلة المعرفة، وزارة الثقافة ( سورية )، العدد 430 (1999)، الصفحة 128.