د. محمود باكير
من المعروف أنَّ الرياضيات من أكثر العلوم موضوعية، وهي أداة فعالة في البحث عن كثير من الحقائق، وفي التعبير عنها. فلغة الرياضيات لا لبس فيها. ولهذا فلا ضير من استخدامها في إماطة اللثام عن بعض حقائق الفكر الصهيوني، خاصةً تلك المغلَّفة ببعض العبارات الغامضة التي يصطنعها – بطريق ممنهجة – بعض دهاة السياسة في إسرائيل لتحقيق أغراضهم في الاستيلاء على مزيد من الأراضي العربية. ولذلك سنحاول فك شيفرة هذا المنهج بتوسل الرياضيات, فهي, كما يقال: “تجعل غير المرئي مرئياً”.
والبداية مع صدور قرار التقسيم عن الأمم المتحدة عام 1947, الذي منحها ما يقارب نصف مساحة فلسطين (البالغة 27 ألف كم2), ومنح النصف الآخر للفلسطينيين. ثمَّ مروراً بالقرارين 242 لعام 1967 و338 لعام 1973، وصولاً إلى القرار 1701 الذي أصدره مجلس الأمن في 11 آب (أغسطس) 2006 حول العدوان الإسرائيلي على لبنان. وكل هذا التاريخ معروف للقاصي والداني. ولكننا سنتوقف قليلاً عند جوهر الفكر السياسي الصهيوني، أو أكثر دقة عند مفتاح هذا الفكر و”القاعدة الرياضية” الكامنة في ثناياه.
وهذه القاعدة ذاتها إن كان في مجال المطامع التوسعية (المحسوسة) على أرض فلسطين، أو في المطامع التي تنشدها من القرارات الدولية, من أمثال: خطط الانسحاب من الضفة الغربية, وخارطة الطريق, ومشروع تنت, وغير ذلك من المشاريع التي طُرحَت منذ اتفاق أوسلو حتى الآن. والفرق بين الحالتين أنه في حالة القرارات تصاغ لغوياً بأسلوب مجرد, سيتم شرحه, بهدف تحقيق مكاسب غير مباشرة. وسنعبِّر عن هذه القاعدة رياضياً لتبيان أنّه ليس هناك حدودٌ لهذه الأطماع بشقيها المحسوس والمجرد.
ومن المعروف أنَّ جوهر قرار تقسيم فلسطين عام 1947 كان – من منظور الأمم المتحدة- “حلاً وسطاً” بين الفلسطينيين واليهود المهاجرين, كونه “صراع بين حقين”. وبعد حرب حزيران (يونيو) 1967 كانت مشاريع الحلول تنطلق دوماً من حلول وسط أخرى. وما تطرحه الحكومات الإسرائيلية على السلطة الفلسطينية – نظرياً أو عملياً – هو الحل الوسط في الضفة الغربية وقطاع غزة. حتى أنَّه كان هناك طرح لحل موضوع المسجد الأقصى يتضمن بأنَّ ما فوق الأرض (المسجد الأقصى) هو للفلسطينيين، وما تحت الأرض هو للإسرائيليين, انطلاقاً من حجج تاريخية واهية. أي أنَّ “قاعدة الحل الوسط” وصلت حتى إلى المسجد الأقصى, ما فوق الأرض وما في باطنها. ولتوضيح قاعدة “الحل الوسط” رياضياً, أو ما يمكن أن نطلق عليها “قاعدة النصف” نذكّر أنّه عندما استثمرت شركات النفط في إحدى الدول الاستعمارية الكبرى في إحدى الدول العربية في الخليج قبيل منتصف القرن العشرين، قررت هذه الشركات أن تأخذ نصف الدخل الناتج، وأن تعطي الدولة العربية “النصف الآخر” منه. بيد أنَّ هذا “النصف الآخر” قسمته هذه الشركات إلى نصفين، النصف الأول منه يُستَثْمَرُ في بلد تلك الشركات، والنصف الثاني تأخذه الدولة النفطية. وهذا النصف الأخير (أي ربع الدخل) يُقسَم إلى نصفين، النصف الأول تشتري به الدولة النفطية من الدولة المستعِمْرَة بضائع مصنعة في ذلك البلد، والنصف الثاني تأخذه الدولة النفطية. ويُقال بأنَّ هذا “الثُّمن” المتبقي يُقسَم إلى نصفين، النصف الأول يدفع لشركات من الدولة المستعِمْرَة لقاء خدمات تؤديها داخل تلك الدولة العربية….وبعد كل هذا نسأل: ماذا بقي من دخل النفط؟ خاصةً إذا عرفنا أنَّ رعايا تلك الدولة العربية يصرفون جزءاً لا بأس به من الهامش النقدي المتبقي أثناء قضاء إجازاتهم في الدول المستعِمْرَة. وهذا هو جوهر السياسة الإسرائيلية ذاته على اختلاف مشاربها. فقد سلبت إسرائيل أكثر من نصف مساحة فلسطين في نكبة عام 1948، وتطالب الآن بنصف النصف الثاني، وهكذا دواليك إلى أن يبقى للعرب من فلسطين ما بقي لهم من نفطهم. فضلاً عن ذلك فإنه من المتوقع أن تقوم إسرائيل بشراء الكثير من الأراضي العربية التي قد تمنحها للعرب، أو على الأقل استئجارها… وهذا ما فعلته وفق إحدى اتفاقياتها مع إحدى الدول العربية.
ولمحاولة ترييض (نسبة إلى الرياضيات) هذا المنهج من المفيد أن نتذكر المتوالية المعروفة في الرياضيات:

حيث حدها الأول يساوي الواحد، وحدها الثاني، يساوي نصف الحد الأول، وحدها الثالث يساوي نصف حدها الثاني، والرابع يساوي النصف الثالث، وهلمَّ جرا. فكل حد منها هو عبارة عن نصف الحد الذي يسبقه. وعملية القسمة هذه للحصول على حدود المتوالة لانهاية لها. أي أننا نستطيع الحصول دوماً على حد جديد من الحد الذي يسبقه. وهذه المتوالية تعبِّر عن “قاعدة النصف” التي تحكم السياسة التوسعية في إسرائيل. ولهذا فإنَّ مطالب إسرائيل من الأراضي العربية لن تنتهي طالما أنَّ هناك دوماً حلولاً وسطاً تطالب بها. وهذا ممكن رياضياً. فتحت يافطة ” الحلول الوسط” تريد إسرائيل من الطرف العربي أن ينسى حد المتوالية السابق، لأنَّ ” الحل الوسط” معني بالحد الجديد الذي حصلنا عليه من المتوالية؛ وهذا لانهاية له. ولهذا نجد أنَّ الأراضي العربية التي تحت سيطرة إسرائيل تتزايد وفق “قاعدة النصف”, في حين أنَّ ما يسعى العرب للحصول عليه يتناقص وفق تلك القاعدة. ويكفي أن نشير إلى أنَّ مجموع ما تنوي إسرائيل الحصول عليه – نظرياً- “يسعى” إلى الواحد بالمعنى الرياضي لهذه الكلمة (أي أنَّ مجموع حدود تلك المتوالية يسعى إلى الواحد). أي أنها في المحصلة تسعى للحصول على كل شيء.
هذا على المستوى المادي المحسوس، أي على مستوى التوسع في الأراضي المحتلة. أما على المستوى الآخر (غير المرئي), الذي يتطلب قدراً من التجريد, فيتجسد في صياغة القرارات الدولية. فنجد أن قاعدة النصف في هذه المجالات تظهر على نحو خفي. حيث يقسم القرار أو الخطة إلى قسمين: ما هو مطلوب من الجانب العربي مصوغ بلغة واضحة لا لبس فيها؛ وما هو مطلوب من الجانب الإسرائيلي مصوغ بلغة غامضة, دون أن نشعر – بالضرورة – في هذا الفرق. وهذا يمنح إسرائيل منذ البداية “النصف الأول” من خلال التزام الجانب العربي بتطبيق القرار مما هو مطلوب منه لوضوح ذلك. ثمَّ يبدأ التفاوض من أجل تفسير ما هو مطلوب منها لتنفيذه. فبدلاً من قيامها بتنفيذ المطلوب تبدأ عملية معقدة من تفسير ذلك الجزء من القرار, نتيجة لغموضه. وكثيراً ما تفضي عملية التفسير تلك إلى إعادة تطبيق قاعدة النصف مرة أخرى. تنفِّذ قسم, وتفاوض على تفسير القسم الثاني. ثمَّ تتابع العملية التفاوضية على هذا النحو إلى مالانهاية. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى. ولنأخذ, على سبيل الذكر لا الحصر, القرار (1701 – الصادر عام 2007 حول العدوان الإسرائيلي على لبنان), كنموذج, فنلاحظ أنَّ عباراته تُقسَم إلى نوعين: النوع الأول وهو المطلوب تنفيذه من الجانب اللبناني قد صيغ بطريقة واضحة، وعباراته محددة ودقيقة, لا لبس فيها ولا غموض. فمثلاً عندما يتحدَّث هذا القرار عن الجنديين الإسرائيليين الأسيرين ورد فيه: “إطلاق سراح الجنديين الإسرائيليين المختطفين دون شروط”. في حين عندما يتعلق الأمر بالأسرى اللبنانيين يذكر القرار: “وإدراكاً منه لحساسية مسألة السجناء، وتشجيعاً منه للجهود الرامية إلى تسوية مسألة السجناء اللبنانيين المحتجزين في إسرائيل على وجه عاجل”. نلاحظ أنه استخدم في المرة الأولى عبارة ” الجنديين الإسرائيليين المختطفين” :
(abducted Israeli Soldiers), حيث تعني كلمة abducted وفق قاموس Longman : “الاختطاف بطريقة غير مشروعة وكثيراً ما تكون باستخدام القوة” .
abduct (v): to take away (a person) unlawfully, often by force.
في حين أنه استخدم في المرة الثانية عند الحديث عن اللبنانيين
(Lebanese prisoners detained in Israel)
حيث تعني prisoner وفق Longman: “الشخص المحتجز نتيجة ارتكابه جريمة أو أثناء محامكته”
Longman : prisoner (n): a person kept in a prison for some crime or while waiting to be tried.
وما يهمنا في هذا السياق هو أنَّه في الحالة الأولى كان المطلوب من الجانب اللبناني واضحاً تماماً، في حين أنَّه لا يوجد شيء محدّد مطلوب من الجانب الإسرائيلي. فكل ماورد في القرار عبارة عن جملة صيغت بطريقة غامضة “تسوية مسألة السجناء اللبنانيين”. ولا أحد يدري ماذا تعني كلمة “تسوية”؟! وبمتابعة دراسة هذا القرار نجد أنَّ كل ما هو مطلوب من لبنان واضح لا لبس فيه, حيث ورد: “إنشاء منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني خالية من أي أفراد مسلحين أو معدات أو أسلحة بخلاف ما يخصُّ حكومة لبنان وقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان”. كذلك ورد: “نزع سلاح كل الجماعات المسلحة في لبنان”. والأمثلة على ذلك كثيرة. وهذا على خلاف تماماً ما هو مطلوب من الجانب الإسرائيلي, حيث تكثر العبارات الغامضة والمطاطة. والهدف الكامن من وراء صياغة القرارات الدولية على هذا النحو تمهيداً لتطبيق قاعدة “الحل الوسط” في هذه المجالات.