هناك أقوال كثيرة خالدة عبر العصور , غير مرتبطة بثقافة معينة , أو بشريحة خاصة من البشر . ومع ذلك ثمة مفاضلة بينها , لأن بعضها ينطوي على مغزى عميق , قد لا يُدرك أحياناً مباشرة لأسباب عديدة, منها كثرة تردادها . لأن هذا يخلق نوعاً من الاعتياد , أو الإلفة السطحية مع هذه الأقوال. و قد تكون هذه الإلفة أحياناً مزيفة , وهذا يحول دون الوقوف عند ما تستبطنه من مغزى .
ومن هذه ” الأقوال ” – إن صح أن نطلق عليه قولاً – ذات المغزى العميق ما تنطوي عليه الآية الكريمة من معنى : ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ) ( البقرة :269) . ولم يرد في التنزيل الإلهي: من يؤت القوة , أو المال, أو العلم , أو السلطان , أو الصحة , أو الجمال , أو الصبر . فبعض هذه الصفات تمثل قيماً إنسانية إيجابية مشحونة بالخير, ومع ذلك من الممكن أن يشوبها, في بعض الأحايين, مسحة من ” الشر “, و إن كانت مستترة في ثناياها , و هذا يعتمد على حُسن استثمارها, وكيفية توجيهها . فالمال , أو العلم ,مثلاً , قد يضر بصاحبه إذا استخدم على نحو خاطئ , و الجمال قد يجر المصائب أحياناً على صاحبته . بيد أن الحكمة لا تحمل في ثناياها إلاّ الخير المطلق لصاحبها أولاً , ولمن حوله تالياً . لذلك أتت الآية الكريمة على نحو الإطلاق. و قد تكون الحكمة القيمة الوحيدة , دون غيرها , التي تتصف بهذه السمة المطلقة . لذلك ارتبطت الحكمة مع الخير ارتباطاً عضوياً لا انفصام بينهما . فعندما تكون مدخلات أي سيرورة هي ” الحكمة “, سيكون ” الخير ” مخرجاتها . أي أن ثمرة الحكمة دوماً خيرٌ نقي لا تشوبه شائبة. و هي قيمة معنوية كبيرة لا تنضب بالاستخدام . فالجمال يذوي, و الصحة لها عمر و يزول جزء كبير منها , و كثير من القيم تتناقص بفعل الزمن أو الاستخدام, إلاّ الحكمة فهي تحافظ على رونقها, و إشعاعها الدائمين . و مع ذلك فإن الإنسان يطلب, أو يبحث , عادة , عن القيم التي تكون من النوع الذي يكون استثماره , أو مردوده , مباشراً , و مرئياً في هذه الحياة . أما تلك القيم غير المرئية , أو التي تعطي نتائج على المستوى البعيد, فيتثاقل الإنسان في السعي إليها . و قد يعزى سبب ذلك إلى أنه قد لا يشعر بقيمتها المباشرة. و خاصة إن كان إدراكها يتطلب قدراً من التجريد. لذلك نجد أن الناس تحسد الآخرين على كثير من الأشياء باستثناء الحكمة . لهذا يقول نسيم طالب Nassim Nicholas Taleb ( رياضي أمريكي من أصل لبناني مختص في هندسة المخاطرة؛ و كاتب مرموق , توقع الأزمة المالية العالمية عام 2008 في كتابه The Black Swan الصادر عام 2007 ) : ” إنهم سوف يحسدونك على نجاحك , و على ثروتك , و على ذكائك , و على هيئتك , و على مركزك , و لكن نادراً من أجل حكمتك ” .
هذا و يصعب علينا أن نجد تعريفاً جامعاً للحكمة , ومانعاً لسوء فهمها , على الرغم من وضوحها . بيد أنه من الممكن أن نستعين بما ورد في الأثر, حيث يقول الفقيه ابن القيم الجوزية ( الذي عاش معظم حياته في دمشق في القرن الثامن الهجري ) في معنى الحكمة : ” هي قولنا ما ينبغي , في الوقت الذي ينبغي, على الوجه الذي ينبغي “. و نلاحظ أن ابن القيم قد اقتصر في تعريفه للحكمة على مجال القول وحده دون غيره , في حين أننا نستطيع أن نحاكي تعريفه في سياق التصرف , أو الفعل , أو في أي مجال آخر . حيث نقول إن : ” الحكمة هي أن نتصرف ما ينبغي , في الوقت الذي ينبغي , على الوجه الذي ينبغي ” . أي يجب أن لا تقزّم الحكمة على سياق واحد , بل إن لكل سياق حكمته الخاصة به , النابعة من نسيجه. وذلك لأنها قيمة إنسانية مطلقة , وهذا هو عين ما يعبّر عنه معناها اللغوي( في معاجم اللغة العربية ) الذي يشير إلى أنها ” الإصابة في القول و الفعل ” .
أي أن الحكمة منجم لا ينضب للخير, و خاصة إذا عرفنا أن الخير له قيمة في ذاته , لأنه موضع تقدير الإنسان, و استحسانه, ويتذوقه الإنسان الصالح, كما يتذوق الفنان الجمال, أو كما يتذوق المنطقي الحقيقة . فضلاً عن ذلك فإن الحكمة تقي الإنسان من الوقوع في شرك عديد من الصراعات التي هو في غنى عنها , ويمكن تحصيل معظم ما ينشده بالطرق الأخرى الأقل كلفة. والأهم من كل ذلك أن فيها غنى داخلياً للإنسان ذاته , يفيض على من حوله .
و من أهم ما تتسم به الحكمة أنها رأس مال معنوي كبير لصاحبها , لا ينقص بالمشاركة من قبل الآخرين, بل يتعزّز بتلك المشاركة, لأنها تتناقض مع روح الاستحواذ, الموجودة عند بعضهم. وهذا ما يميزها عن رأس المال العادي . لذلك هي ليست مصدراً للتنافس بين أحد. إضافة إلى ذلك فإن الحكمة كثيراً ما تكون بيئة مساعدة على ازدهار فضيلة أخرى. حتى أن فضيلة كبيرة في هذه الحياة كالشجاعة لا يكتمل دورها ,إلاّ إذا اقترنت بالحكمة . لذلك يقول الشاعر المتنبي:
و كل شجاعة في المرء تغني و لا مثل الشجاعة في الحكيم .
دكتور محمود العزيز
ماشاء الله ،الله يحميك على هل الموسوعة العقلية ،
قمة في الروعة .