عندما تفكّر الأمة “من خارج الصندوق”؟

د. محمود باكير

   انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945 بخسارة دول المحور ( ألمانيا واليابان وإيطاليا ), وبعدها بدأت مرحلة جديدة في تاريخ ألمانيا واليابان تحديداً دون إيطاليا, باشروا فيها نهضتهما الاقتصادية الباهرة والمستمرة إلى يومنا هذا. واللافت للانتباه في طبيعة تطور هاتين الدولتين أن ما يحدث, عادة, في حالة الشعوب المنهزمة هو انتظار لحظة مناسبة للانقضاض على الخصم, والانتقام منه, مهما طالت فترة الانتظار تلك. وهذا لم يحصل في حالتيهما, ويبدو أنه لن يحصل في المستقبل القريب. وقد يعزى السبب في ذلك إلى أن العقلية التي كانت وراء هذا الاختيار ( النهضة الاقتصادية بدلاً من الانتقام الحربي ) تفكر, كما يقال: ” من خارج الصندوق ” To think outside of the box . وهذا القول عبارة عن استعارة تعني أن تفكر بطريقة مبتكرة, غير تقليدية. وقد يكون دافعهم في ذلك أنهم أرادوا اختيار طريق مختلف عما سلكوه سابقاً. لأنه من المعروف أن من أسباب الحرب العالمية الثانية هو ” معاهدة فرساي ” التي وقعتها ألمانيا مع الحلفاء عام 1919 بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. وقد كانت هذه المعاهدة – من وجهة نظر عديد من الدارسين – مجحفة جداً بحق ألمانيا, وترتب عليها دفع تعويضات مالية ضخمة للأطراف المتضررة, فضلاً عما طال سيادتها من انتقاص كبير. وهذا أفضى إلى نشوب الحرب العالمية الثانية.

     وقد كانت نهضتهما المتميزة تعبيراً عن مدى الجرح العميق الغائر في صميم الشخصية الألمانية واليابانية نتيجة خسارتهما في الحرب العالمية الثانية, والاقتناع – كما يبدو – بأن خيار الحرب لم يكن صحيحاً في حينه, لذلك يجب عدم العودة إليه. فقد ” أعطوا الحرب فرصتها “, وفق ما يقول الخبير الإستراتيجي الأمريكي ( لدى المؤسسات العسكرية والأمنية الأمريكية ) إدوارد لوتواك  Edward Luttwak في بحثه الذي أحدث صدى كبيراً عند صانعي القرار في الولايات المتحدة الأمريكية, المعنون: ” ” Give War a Chance المنشور في مجلة Foreign Affairs  في نهاية  التسعينيات من القرن المنصرم. حيث يقترح أنه: ” يجب أن نعطي الحرب فرصة “. ويعني بذلك أنه يجب خوض غمار الحرب, للوقوف على ما فيها من تخريب ودمار, كي يقتنع أنصارها, أخيراً, بأنها وسيلة غير مجدية. وقد أضحى هذا البحث معروفاً في دوائر المخططين السياسيين الاستراتجيين في الغرب, ومَعْلماً من معالم تفكيرهم أثناء طرحهم حلولاً لمشاكل بعض المناطق المضطربة في العالم.

     لهذا كان لا بد لألمانيا واليابان من ” التعويض ” ( بالمعنى النفسي ) عن هذا الجرح الكبير في الكرامة الوطنية بالوسائل المتاحة بعيداً عن الحرب, لتتوازن الأمة نفسياً, وتتعافى من عقابيل هذه الحرب. فكان الخيار الاقتصادي الوسيلة الفعالة لهذا ” التعويض ” وإشباعاً له. ومن المعروف في علم النفس أن ” التعويض ” إستراتيجية يحاول الشخص من خلالها, على نحو واع أو غير واع, التغطية على عجز أو ضعف في أحد جوانب الحياة عن طريق التفوق في مجال آخر. لكن هذا, بالتزامن بالنسبة لهاتين الدولتين, مؤشر أيضاً إلى أن كلاً منهما أمة تختزن طاقة داخلية كبيرة, يجب توجيهها على نحو مثمر وفعال. و” شكل ” التعبير عن هذه الطاقة الداخلية هو الذي اختلف بين سياقين مختلفين: الحرب والسلم. أي, كما يبدو, فإن جذوة الروح ” العسكرية ” عند هذين البلدين هي من الرواسب التاريخية في شخصيتيهما, وتظهر وفقاً لطبيعة السياق؛ أي وفق ما تسمح به الظروف, مع اختلاف أدوات التعبير. فهذه ” الروح ” ذاتها لا تتكرر, وإنما التجسيد العملي, أو التجلي لها, هو الذي يتكرر. ولمقاربة الفكرة عددياً, للتبسيط, وليس للقياس عليها, فإن العدد ثلاثة, مثلاً, لا يتكرر, وإنما المعدود, أو تجل له, هو الذي يتكرر. فهناك ثلاثة كتب, أو ثلاث وردات, أو غير ذلك, ولكن العدد ثلاثة ذاته غير موجود فيزيائياً, لأن وجوده ذهني, لهذا لا يتكرر.

     ونتيجة لعدم فهم الدوافع الحقيقية لنهضة اليابانيين, وتجاهل قوة ” التعويض ” هذه, فقد كان من الشائع في نهاية القرن العشرين, ومع بلوغ اليابان قوة اقتصادية عالمية, قول بعضهم بأنها: ” أمة تمتلك ” قوة بلا هدف “” وفق تعبير باتريك سميث Patrick Smith في كتابه ” اليابان..رؤية جديدة “. وواقع الحال غير ذلك, لأن الهدف عندما يكون ” تعويضاً ” لا يمكن التصريح به, بل يبقى مستبطناً في ثنايا هذا التعويض.

هل انتهت الحرب العالمية الثانية؟!

     وقد لا نذهب بعيداً إذا قلنا إن ” الحرب العالمية الثانية “, أو على الأقل مفاعيلها, لم تزل مستمرة إلى يومنا هذا بأشكال مختلفة, وبصوت اقتصادي, وذلك إذا وسّعنا مفهوم مفردة ” حرب ” لتشمل كل أنواع الصراعات. وما يبرّر ذلك أن الصراعات ( والحروب حالة خاصة من الصراعات ) لا تنتهي على المستوى الإنساني منذ فجر التاريخ؛ فهي والإنسان متحايثان, فالحرب حاضرة حيثما وُجِدَ الإنسان, بيد أن وسائلها تغيرت. وفي حالة ألمانيا واليابان كانت ” الوثبة الاقتصادية ” أحد أشكال ” الانتصار ” السلمي على الطرف الآخر, على نحو غير مباشر, وبوسائل مختلفة. وهذا النوع من ” الانتصارات ” هو الذي يمنع, أو على الأقل يخفف, من ظهور روح الانتقام عندهما. لذلك يجب أن يرحب دوماً الطرف الذي ” ربح ” ( مع أنه ليس هناك أحد يكسب الحرب, هناك فقط من يخسرونها, وفق تعبير وينستون تشرشل في كتابه “أزمة العالم” The World Crisis ) الحرب بهذه الوثبة, وأن يباركها لما تحمله من خير للجميع. وخاصة أنه كلما كانت النهضة أكبر, عبّرت عن جرح أعمق؛ وهذا كان حالهما. وهذه ” الذهنية ” المطلوب حضورها هنا ( واجب الترحيب بهذه النهضة من أعداء الأمس ) هي الكامنة وراء ما تطالب به بعض الدراسات السياسية في الدول الغربية من أن وجود اليسار, في مجتمعاتها, ضروري من أجل بقاء حيوية الليبرالية. يقول راسل جاكوبي Russell Jacoby  في كتابه ” نهاية اليوتوبيا ” The End of Utopia: ” إن حيوية الليبرالية تستند إلى جناحها اليساري, الذي يقوم لها بدوري المهماز والناقد. وحين يتخلى اليسار عن رؤية ما, تفقد الليبرالية مغزاها, ومن ثم تتحول إلى شيء رخو مترهل يفقد اليقين “. ثم يضيف: ” وفي الوقت ذاته يعاني الليبراليون, المجردون من جناح يساري, سقم الخيال وضعف الإرادة “.

     أي أن نهضة هاتين الدولتين اقتصادياً ضرورة للطرف الآخر, لما تنطوي عليه من راحة واطمئنان له, وضمان بعدم ظهور روح الانتقام عند أي منهما. وهذا هو حال وجود اليسار بالنسبة  لليبرالية, وضرورته. بيد أن الفرق بين الحالتين هو أن طبيعة ” الضرورة ” مختلفة تماماً. فالثاني ضرورته كي يحفّز الليبرالية على الاحتفاظ بحيويتها وشبابها, في حين أن ضرورة الأول كي لا تتحول هذه الطاقة إلى شر ( حرب ) ودمار.

     وهذه ” الرؤية ” لا يمكن تبسيطها والتعبير عنها بأنها فعل ورد فعل من الأطراف المعنية, كما يبدو للوهلة الأولى؛ فهذا تفسير ميكانيكي سطحي عفا عليه الفكر العلمي الحديث, بعد التطور الكبير الذي طرأ على الفكر الرياضي, والفلسفي ( كصدى للفكر الرياضي ). فالإنسان, أو المجتمعات, لا تتحكم بهما القوانين الميكانيكية, كالآلات, كما كانت تعتقد الماركسية التي تأثرت كثيراً بقوانين نيوتن المعروفة في علم الميكانيك الرياضي. يقول الفيلسوف الإنكليزي أشعيا بيرلين Isaiah Berlin ( 1909- 1998 ) في كتابه: ” عصر التنوير..فلاسفة القرن الثامن عشر “: ” فقد سيطر على العلوم بدءاً من القرن الثامن عشر النموذج الآلي ( الميكانيكي وبصورة خاصة النظام النيوتوني ) “. ومعظم الفكر الفلسفي في تلك الفترة كان واقعاً تحت تأثير النتائج المبهرة لقوانين نيوتن الرياضية, أو على الأقل صدىً لها. وهذا المُنْتَج الفلسفي الذي ساد ردحاً من الزمن, ولم يزل يعتمل في عقول بعضهم إلى يومنا هذا, ثبت عدم صلاحياته بعد أن تبين أن عقل الإنسان أقل ميكانيكية مما كان يعتقد سابقاً نتيجة لنظرية اللاتمام Incompleteness Theorems للرياضي والمنطقي الأمريكي ( النمساوي الأصل ) كورت غودل Kurt Godel ( 1906 – 1978 ) في الثلاثينيات من القرن العشرين.

     وبصياغة أخرى, فإن نهضة هذين البلدين ليست تعبيراً عن رد الفعل, بل هي الفعل ” الأصلي ” بعينه, الذي لم يزل مستمراً إلى يومنا هذا, ولكن بأشكال مختلفة. لذلك هو مستدام, على خلاف أي رد فعل, الذي له عمر زمني وسرعان ما ينتهي, أو يتلاشى, بعد أن يؤدي دوره. وقد يعبّر بعضهم عن هذه النهضة بأنها ” انتقام ” ( بالمعنى الواسع ) من أعدائهما بأدوات اقتصادية.

النهضة من منظور “الجشطلت” Gestalt

     ومن الممكن أن ننظر إلى ظاهرة النهوض تلك من منظور مختلف, وهو مفهوم ” الجشطلت ” ( الصيغة الكلية ) كطريقة للإدراك العقلي. حيث يعزى هذا المفهوم لبعض علماء النفس الألمان. وتقول هذه النظرية: ” إن الكل يختلف عن مجموع أجزائه, أي إنه ليس تجميعاً لهذه الأجزاء “. بمعنى أن ميزات ” الكل ” لا يمكن استنتاجها من تحليل الأجزاء كل على حدة. ويقول بول جييوم في كتابه ” علم نفس الجشطلت “: ” فالجزء في كل هو شيء يختلف عن هذا الجزء منعزلاً, أو في كل آخر, وذلك بفضل الخصائص التي يكتسبها من وضعه, ومن وظيفته, في كل حالة من الحالات . أي أن ثمة صفات تنبثق من ” الكل “, بعد تركيبه, ليست موجودة في أحد أجزائه. فالسيارة ( الكل ), مثلاً, تتصف بخواص ليست موجودة في أي من مكوناتها, وهي التي جعلت منها وسيلة للنقل ذات قيمة, وليست الأجزاء. وهذا هو حال النهضة الاقتصادية ( ككل ) لهذين البلدين, فهي تمثل هنا ” جشطلت ”  قائماً بذاته. أي يجب مقاربتها على هذا النحو, بسبب ظروف ولادتها, ومن ثم ازدهارها, وليس بدراسة الأجزاء المكونة لها. وما يولّد هذا ” الجشطلت ” طبيعة ” العلاقات ” السائدة في هذين البلدين, التي يجب أن تكون محط اهتمام الدارسين. لأنها – كما تبدو – صدى لهذا الجرح الذي أصاب كرامتهما, وتعبيراً عنه.

     وأخيراً نجد, وفق عديد من الوقائع, أنه لا يوجد قواسم ثقافية مشتركة كثيرة بين الشعبين الألماني والياباني, بعيداً عن هزيمتيهما في الحرب العالمية الثانية, وطاقتهما الداخلية التي كانت تأخذ طابع ” الروح العسكرية “. وأهمية ما قدموه من نهضة اقتصادية يكمن في أنه يمكن أن يكون أنموذجاً لكل الأمم التي دمرتها الحروب. وهذا كان يصعب أن يتم بعيداً عن كلمة السر التي عبّر عنها أحد الحكماء بقوله: ” إن نجاح الإنسان يتوقف على طريقة معاملته لخصومه السابقين”. ويبدو أن هذا ” المبدأ ” يمكن تعميمه على حالة الأمم وصراعاتها, بشرط أن لا تكون هذه الصراعات من ” النوع الصفري ” zero – sum game ( ما يكسبه أحد الأطراف هو خسارة للطرف الآخر ), وفق تسمية ” نظرية المباراة ” Game Theory ( وهي أحد فروع الرياضيات التي لها تطبيقات كثيرة في الاقتصاد والعلاقات الدولية ).      و” الفكرة ” التي يجب تعويمها هنا, بعد تجريدها من سياقها, هي أن خيارات الإنسان العقلية ( كفرد ), أو خيارات الأمة, ليس من الضروري أن تكون ” من داخل الصندوق ” المعتادين عليه. بل قد تكون من خارجه تماماً. بيد أن هذا يعتمد على ماهية ” المعالج ” processer إذا استخدمنا لغة الحاسوب مجازاً. لأنه عندما تكون ” الهزيمة ” هي ” المدخلات “, فليس من الضروري أن يفضي هذا إلى أن تكون ” المخرجات ” مزيداً من الهوان والذل. وما يحدّد ذلك ” المعالج ” المعني. وهذه الرؤية يمكن إسقاطها على الفرد كما الأمة.

2 thoughts on “عندما تفكّر الأمة “من خارج الصندوق”؟

Comments are closed.