د. محمود باكير
ثمة قول معروف للخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان, يتداوله بعضنا, ولكن دون الإبحار في أعماق معناه, ومآلاته على اختلاف أنواعها. ومن هذا القول نقتطع جزءاً منه يذكر فيه : ” و لو أن بيني و بين الناس شعرة ما انقطعت. إذا مدّوها خلّيتها و إذا خلّوها مددتها “. و هذا القول يكتنز معاني يصعب حصرها, أو تثمين قيمتها, إلاّ من خلال الحياة العملية, بعد سبر أعماقها. فهو يفتح أمامنا نافذة معرفية ندخل من خلالها على عالم ثرّ من الفوائد. و محتوى القول, و عصارته, يركزّان على ” العلاقة ” مع الآخرين, و على إبقاء جذوتها حيّة معهم, بغض النظر عن طبيعتهم, لأن هذه الطبيعة ليست مهمة بالنسبة لنا, إلاّ بمقدار تأثيرها علينا.
و في هذا الجانب, أي بالتركيز على ” العلاقة ” على حساب ” طبيعة ” المُكَوّن الآخر, هي تعبير عن روح الفكر الرياضي الحديث, الذي أضحى يحكم إيقاع تطور الرياضيات, وفق ما يعبّر عنه الرياضي البريطاني ( اللبناني الأصل, و أحد الأعضاء السبعة في مجلس حكماء الملكة البريطانية ) مايكل عطية Michael Atiyah ( 1929- ) في خطبة الوداع التي ألقاها عند انتهاء فترة رئاسته للجمعية الملكية البريطانية : ” وتمضي الرياضيات بهذه الطريقة حيث يتم تجاهل هوية اللاعبين, والتركيز على درس علاقتهم المشتركة “. وقول معاوية مبني على ” مصادرة ” ( مسلمة ) تشير إلى أولوية ” العلاقة ” بين الناس على ” طبيعة ” هؤلاء الناس. و أي قول مأثور( أو حكمة ) يُبنى غالباً على مصادرة من نوع ما. أي أنه لا يهبط علينا من العدم, بل لا بد من أنه يصادر ( يفترض ) ” فكرة ” ما, يستقي منها نسغه المعرفي. وتكمن خصوبة قول معاوية في أنه عندما تضمحل هذه العلاقة مع الآخر, لسبب ما, فإنه يمكن إعادة إحيائها من خلال ” خميرتها ” المتجسّدة في تلك الشعرة. أما إذا انقطعت فالأمر يصبح مختلفاً تماماً. و باستخدام لغة الرياضيات, مجازاً, نجد أنه عندما تسوء العلاقة فمن الممكن أن تسعى إلى لامتناه في الصغر ( الشعرة ), و لكنها – من وجهة نظر القول – لا يجب أن تبلغ الصفر ( أي القطيعة الكاملة ), لأنها تفقد قدرتها على بعثها من جديد.
و تظهر أهمية هذا القول, على نحو جلي, في سياق الصراعات بكل أنواعها؛ في المجال السياسي, و في العلاقات الاجتماعية, و في العمل, و التفاوض, و غير ذلك كثير. و ربما تتصدر أهميته, على نحو خاص, في الإطار السياسي, حيث يُعَدّ القول عندها متطلباً حيوياً, و من أول حروف أبجدية العمل السياسي. و يستمد مشروعيته, و ديناميته, في هذا الإطار, من أنه في العمل السياسي, كما هو معروف, تتقدم المصالح على الصداقات, وفق ما يقوله السياسي النمساوي المعروف كليمنس فون مترينخ Klemens von Metternich ( 1773- 1859 ) عندما يذكر من أنه :” لا يوجد صداقات دائمة, بل مصالح دائمة في العمل السياسي “. و لتحقيق هذه المصالح, في كثير من الأحيان, من وجهة نظر هؤلاء, لابد من بعث علاقة مضمحلة؛ لذلك يجب المحافظة على هذه ” الشعرة “, لأن السياسة, عموماً, كما يصرّح كثير من أهلها, ليس فيها مبادئ, بل دوماً هناك مصالح تحكم سياقاتها. لهذا كثيراً ما تظهر المسحة الميكيافيللية في العمل السياسي. و لابد من الإشارة إلى أن هذا القول موجّه, أصلاً, لأولئك الذين يهمهم ” أكل العنب “, و ليس ” قتل الناطور “, وفق ما يقول أهل بلاد الشام, في بعض السياقات, من أنه : ” المهم أكل العنب, و ليس قتل الناطور ” عندما تكون الأنظار متجهة نحو النتائج, وليس نحو اللاعبين. أي أن القول ليس رائزاً أخلاقياً, أو فلسفياً, بل إنه أداة عملية في خضم الحياة السياسية.
ومن المعروف أن أحد أهم مبادئ علم التفاوض ” أن تبني جسراً من الذهب لخصمك لكي يتراجع عليه “. و هذا المبدأ تعبير عن ” روح ” فكرة معاوية. لأن ” الشعرة “, في هذا السياق, يُعَبّر عنها بإعطاء ” فرصة ” لخصمك للتراجع, و من ثم الانسحاب حتى لا تحوّل ” القط ” إلى ” نمر ” كما يقال. و هذا هو عين المحافظة على الشعرة مع الخصم. ويظهر هذا القول على أشكال مختلفة في جوانب عديدة من الحياة. و إذا أردنا أن نعبّر عنه عملياً, و بلغة شعبية – من باب التبسيط – نجد أنه مموهاً بقول بعض حكماء أهالي دمشق, على شكل نصيحة, عندما تضطر أن تكشف بعض خصائل الآخرين السيئة, بأن : ” لا تجعله يَكْسِر “. و فيه نهي عن محاولة تعرية الطرف الآخر ( الخصم ) على حقيقته, و إن كنت قادراً على ذلك, أو أن تدفعه إلى أن ينضح كل ما في داخله, و هذا قد يضطره إلى أن يُظهر كل فجوره. بل لابد من المحافظة على ” مِزْقة “, أو أي ” بقية ” من سمعة, أو من هيبة, أو أي قيمة إيجابية, عند خصمك ( الطرف الآخر ), و إن كانت إدعاءً و ليست حقيقة. لأن بقاءها يمكن أن يكون بذرة, أو خميرة, لاستعادة جزء كبير مما كان قد فُقِد, ولو شكلياً.
و يجد الناس العاديون صعوبة في فهم تصرف بعض السياسيين الذين يعملون بهذا المبدأ, إن لم نقل هناك سوء فهم أبدي لدى هؤلاء الناس. و أحياناً يظن أولئك أن ثمة نوعاً من التواطؤ نتيجة التباس الأمور, و تداخلها. لذلك يسأل هؤلاء بحيرة وشك : كيف يمكن أن يلتقي السياسيون الأعداء؟
وهذا القول لمعاوية يقع على النقيض تماماً من قول بعض السياسيين : ” من ليس معي فهو ضدي “. و كأن لسان حالهم يفترض ثنائية اللونين الأبيض و الأسود على نحو نقي, و لا حالة أخرى بين ذلك. و هذا نفي للتدرج ( الرمادي بأنواعه ) الذي يتمظهر في كل شيء تقريباً في الحياة. حتى أن الفيلسوف و المنطقي الإنكليزي برتراند رسل ( 1872- 1970 ) يقول في كتابه ” حكمة الغرب ” : ” أما الاختلافات بين الأشياء فترجع إلى تغلب أحد الضدين على الآخر, و هكذا استطاع أناكساجوراس (فيلسوف إغريقي)أن يقول ” إن الثلج هو, بقدر ما, أسود, و إن كان الأبيض هو الذي يسود “. و من المرجح أن يكون هذا النوع من التفكير ” الثنائي ” تعبيراً عن اللغة, وتحديداً, تعبيراً عن الثنائيات اللغوية. فعلى الرغم من أهمية اللغة في التفكير الإنساني إلا أنها تحمل في طياتها كثيراً من التضليل والزيف نتيجة لما تحفل به من ثنائيات متضادة مثل ( الكبير والصغير، الخير والشر، الفضيلة والرذيلة،…). وأول من أشار إلى هذا الزيف هو الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche ( 1844- 1900 ). وقد تكون ثنائيات اللغة السبب في أن قيم الحقيقة في المنطق الصوري ثنائية. وهذا صحيح حتى في المنطق الرياضي في مراحله الأولى. لأنه من المعروف أن القضايا الصحيحة ( الصادقة ) تأخذ القيمة واحد، والقضايا الخاطئة ( الكاذبة ) تأخذ القيمة صفر, ولا حالة وسط بين ذلك. وهذا التفكير الثنائي القيمة ( إن جاز التعبير ) طبع عقول كثيرين منا بمنهجه، وما زال, على الرغم من قدمه, وعدم تعبيره عن الواقع. وهذا ما أدى إلى ولادة منطق تكون قيم الحقيقة فيه متعددة. من ذلك المنطق العائم ( الضبابي ) Fuzzy Logic. ففي هذا المنطق تكون قيم الحقيقة لانهائية, و مساوية لأية قيمة بين الصفر والواحد, بما في ذلك الصفر والواحد. فلا وجود لبياض نقي أو سواد نقي في الواقع. ومن فائدة ذلك في الإطار الاجتماعي, أو السياسي ( كمنهج في التفكير ), أنه من الخطأ الجسيم القول : ” إن من ليس معي فهو ضدي “.
وقول معاوية مستخلص من روح ما يسمى ” قانون الجهد الأصغر “. وهذا القانون تعبير عن الجزء الذي يسبق هذا القول لمعاوية الذي يذكر فيه : ” عجبت لمن يطلب أمراً بالغلبة و هو يقدر عليه بالحجة, و لمن يطلبه بالعنف و هو يقدر عليه باللطف “. و ذلك للمحافظة على الحد الأدنى كي يُعاد بناء كل شيء.
وأحد فوائد هذا القول هو التذكر بأن رأي القائل, أو موقفه قد يكون خاطئاً, و رأي الخصم قد يكون صحيحاً. لذلك يجب أن يبقى الباب موارباً أمام إمكانية تصحيح ذلك. و في هذا المعنى يقول الإمام الشافعي : ” قولي صواب يحتمل الخطأ, و قول غيري خطأ يحتمل الصواب “.
و القول,عموماً, لا يعني بالضرورة تقديم التنازل من أحد الأطراف, و لا يطلبه. و لهذا يجب التفريق بين الاثنين. كما أنه ليس من الضروري أن يقتضي أحدهما الآخر. بيد أن العمل بالقول ليس سهلاً, و يتطلب دهاءً سياسياً, و صبراً كبيراً, حتى لا يُساء فهمه. و أخيراً ربما يثير هذا القول إشكالية معينة بسبب ما يحمله من مقاربة شخصية, و خاصة في درجة فهمه, لما لذلك من تأثير على آلية تطبيقه للمحافظة على تلك ” الشعرة “.