“إنّ المعرفة التي تحصلها طائفة من المتخصصين في حقل ضيق لا قيمة لها البتة إلاّ إذا أُدمجت في سائر حقول المعرفة”
الفيزيائي الألماني إيروين شرودنغرErwin Shroedinger
الفهرس
- المقدمة
- اللغة والرياضيات
- الكلام بين الخبر والإنشاء من منظور رياضي – منطقي
- هل معنى البديهية بديهي ؟
- الثنائيات اللغوية والمنطق
- الرقم والعدد بين اللغة والرياضيات
- الأبعاد بين اللغة والرياضيات
- المعادلة ودلالاتها اللغوية والرياضية
- التتميم ودلالاته اللغوية والرياضية
- الإسقاط ودلالاته اللغوية والرياضية نحو بلورة مصطلح نقدي جديد
- التقاطع ودلالاته اللغوية والرياضية
- خطأ لغوي من منظور رياضي – الدخل المحدود
- المسافة ودلالاتها اللغوية والرياضية
- السيرة الذاتية
مقدمة
يشير بعضهم إلى أن الرياضي والمنطقي الألماني غوتلوب فريج Gottlob Frege (1848-1925) هو أول من طرح أسئلة فلسفية حول طبيعة اللغة والمعنى . فقد استحدث فريج منظوراً جديداً يرتكز على نقطتين أساسيتين هما : أن المعنى شيء عام ,وأنه يركب بطريقة معينة. ونذّكر بهذا الطرح للإشارة إلى أنه لم يكن صدفة أن من أوائل من وضع فلسفة اللغة في بؤرة اهتمام الفلاسفة في القرن العشرين هو المنطقي فريج. وكانت اللغة بالنسبة له مسألة جوهرية لأنه أمضى سنوات طوال يحاول فيها إعادة بناء الرياضيات على أسس منطقية ,وتمثل عمله في مجلدين استخدم فيهما مفهوم “مجموعة كل المجموعات”. وعندما كان في المرحلة الأخيرة من تأليف مجلديه استلم رسالة من المنطقي والرياضي والفيلسوف البريطاني برتراند رسل Bertrand Russell (1872- 1970) في العام 1903 يخبره فيها اكتشافه لتناقضه الشهير(1) . وهو إعادة بعث لتناقض (محيرة) الكذاب الموغل في القدم الذي كان له صيغاً مختلفة, منها قول الفيلسوف إبيمندس Epimends (عاش في القرن السادس قبل الميلاد) من جزيرة كريت من أن “جميع الكريتيين يكذبون”. والذي لا نستطيع أن نقرر أي شيء عن صحته بسبب أن قائله كريتي(2). وهذا يشير إلى أن ثمة نوعاً من التفاعل بين المنطق والرياضيات من جهة واللغة من جهة أخرى, وإن كان مستغلقاً, ويتطلب مكابدة ذهنية كي نكشف الغطاء عنه. وهذا ما تنشده هذه الدراسات اللغوية المتنوعة التي تتناول كل منها جانباً معيناً من اللغة, وأداتنا في ذلك التفكير الرياضي, وأكثر دقة, روح هذا التفكير. هذا ولن نتطرق إلى مفاهيم رياضية معينة إلا ما ندر, وعلى نحو سطحي وبسيط, لأن هذا الكتاب لا يستهدف شريحة اختصاصية معينة, بل هو موجه لكل الدارسين المعنيين باللغة على اختلاف اختصاصاتهم, ونخص منهم دارسي اللغة العربية أولاً, ودارسي الرياضيات ثانياً. وهذا سيوضح لهؤلاء (دارسي الرياضيات) دور الرياضيات كمهارة عقلية في الحقول المعرفية الأخرى البعيدة عن الرياضيات. وخاصة إذا عرفنا أن اللغة,أي لغة, عبارة عن منظومة مغلقة, وإذا تركت على غاربها فإنها تستبطن كثيراً من المكننة. وللتخلص من تلك المكننة, وتوسيع هذه المنظومة وتطويرها فإنه لابد من مزاوجتها مع علم حيوي قادر على التطور الدائم. والرياضيات خير من يضطلع بهذه المهمة الشاقة, وخاصة بعدما آلت إليه طبيعة الرياضيات الحديثة, حيث اتسمت بقدرة فائقة على تناول عديد من القضايا الفكرية. فضلاً عن ذلك فإن هذه الدراسات تشحن اللغة بالدينامية الذهنية التي أضحت على قدر كبير من الأهمية لمختلف العلوم. وهذا يمكن أن يساعد على تنمية التفكير الإبداعي في مجال اللغات. لأن التفكير بالمسائل اللغوية من ضمن منظومتها لا يقدم شيئاً ذا قيمة للغة. لذلك نلاحظ أن الدراسات اللغوية التقليدية ينصب اهتمامها على إعادة إنتاج القديم منها. لذلك يسمي بعضهم هذا النوع من التفكير الذي ننشده من هذه الدراسات من باب التبسيط “التفكير من خارج الصندوق” To think outside of the box .وهو استعارة تعني أن تفكر بطريقة مختلفة وغير تقليدية. أي من منظور جديد, بهدف الوصول إلى التفكير الإبداعي. ونحن في أمس الحاجة إليه لما نعانيه من ركود عقلي, وخاصة في المجال اللغوي, لأنه سيكون حافزاً للتفكير من خارج المنظومة اللغوية, وخاصة إذا سلّمنا بما يقوله المفكر المغربي محمد عابد الجابري في مشروعه “نقد العقل العربي”(3). فضلاً عن ذلك فإن ثمة نقطة هامة جداً, وهي أن الإبداع ,بكل أنواعه, هو وليد الصرامة في التفكير, وإن كنا لا نشعر بذلك. بل إن الهلامية في التفكير, والتسيب الذهني, لا يقدمان شيئاً جديداً لأي باحث. وأول من أشار إلى أهمية هذه الصرامة هو الرياضي الألماني كارل فريدريك غوص Karl Friedrich Gauss (1777_1855) الذي يعد ثالث أعظم رياضيين عرفتهم البشرية, هما أرخميدس و إسحاق نيوتن. وتكمن عظمة هؤلاء الثلاثة في أن أثرهم لم يقتصر على حقل الرياضيات فحسب, بل إن المفاهيم المجردة التي ابتكروها فتحت آفاقاً جديدة, وسرعان ما ترجمت إلى تطبيقات في الواقع الفيزيائي. يقول الفيزيائي وفيلسوف العلم الفرنسي رولان أومنيس Roland Omnes : “وغاوس على أي حال جدير بكل تقدير, لأنه أعلن أن الصرامة هي أم الإبداع”(4). والرياضيات هي أم العلوم التي تتبنى الصرامة في التفكير. ويبدو أن العقل حاله حال الدول لا ينهضان إلا بالصرامة.
لقد بدأت الرياضيات منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي تقريباً تأخذ منحى مختلفاً من ذي قبل حينما بدأ يطرأ تطور على طبيعتها, وإن كان بطيئاً في بادئ الأمر. حيث شرعت تأخذ منحى التفكير المفاهيمي أكثر من ذي قبل, وبدء انحسار طبيعتها “الحسابية” التي كانت طاغية عليها طيلة قرون خلت. لذلك أصبحت تنعم بالجانب الفكري على حساب الطبيعة الحسابية. ونمو التفكير المفاهيمي واتساعه في الرياضيات لم يأت بديلاً عن طبيعتها الحسابية بل مكملاً له, وليأخذ كل منهما دوره الطبيعي في تشكيلها. فكل منهما يعبّر عن ملمح مختلف من ملامح الرياضيات المتعددة حيث تكون بداياتها ذات طبيعة حسابية, ثم تبدأ في مراحلها المتوسطة والمتقدمة تتضح أكثر طبيعة الجانب الفكري منهاكأتتju. وفي هذا الكتاب سيكون نبراسنا المنحى المفاهيمي في معظم دراساته, دون الطبيعة الحسابية. لأن أكثر ما يخشاه الناس من الرياضيات ,من دون دارسيها, هو طبيعتها الحسابية. وهذا على خلاف دارسيها, وخاصة المبتدئين منهم, الذين يفضلون الجانب الحسابي منها لسهولته وتنميطه للتفكير, ولأن الجانب المفاهيمي منها يتطلب قدراً من التجريد قد لا يتوفر عند بعضهم. وهنا يجب التمييز بين التفكير الرياضي والتفكير العددي. حيث أن التفكير العددي حالة خاصة من التفكير الرياضي, وأنه “الحالة الجنينية” التي تطورت عبر القرون إلى ما وصل إليه التفكير الرياضي. وقد بدأ أول تطور على التفكير العددي عندما بدأ التفكير الهندسي يدخل في حياة الإنسان, ثم تابع التفكير الرياضي تطوره, وخاصة مع بدء تجبير الفكر مع الرياضي البريطاني جورج بول George Boole (1815-1864), و كورت غودل Kurt Godel (1906- 1978) وغيرهم كثر الذين لم يمنحوا الرياضيات نكهة جديدة فقط, بل عملوا على تغيير طبيعتها التي أدت إلى اختراع الحواسيب. وهنا لابد من الإشارة إلى أن الانطباع السائد عند جُلّ الناس هو أن التفكير الرياضي متحجر وجامد ويفتقد إلى أبسط أنواع المرونة, وذلك بقول بعضهم : إن الرياضيات هو العلم الذي لا جدال فيه! ويضربون مثالاً شائعاً عند الناس, وهو أن : حاصل جمع واحد مع واحد يساوي إثنين, وأن الرياضيين لا يعرفون إلا جواباً واحداً وهو أن حاصل جمعهما إثنان ! ولكن العلم الرياضي ينبئ بغير ذلك تماماً, لأن الرياضيين, هم وحدهم دون غيرهم, الذين لديهم عدة إجابات على ذلك, طبقاً “لقاعدة الجمع” التي نعمل عليها, والتي يمكن أن تختلف من إطار إلى آخر. ويكفي الإشارة إلى أن قاعدة الجمع المألوف تختلف عن ما يسمى “الجمع الساعي” أو “الجمع الأسبوعي”(5). وعلى الرغم من أن الفكر الرياضي له قواعده الواضحة و الصارمة ,بيد أنه يتسم, بالوقت ذاته, بالمرونة “المحسوبة” أو “المقوننة” والتي تعد مصدر قوته. بمعنى أننا نستطيع تغيير قواعد الجمع متى نشاء بشرط توضيح ذلك مسبقاً, ووفقاً لمجموعة المسلمات (الموضوعات) التي تحدد إطار عملنا. وإذا توخينا الدقة أكثر, أي تلك التي تبنى عليها منظومتنا المنطقية. لأن لكل منظومة منطقية مسلماتها الخاصة بها.
والتجريد حيوي جداً للغة ,ولا غنى عنه, لذلك تقسم المفردات في اللغة العربية إلى اسم ذات واسم معنى, بيد أن اللغة يصعب عليها أن تكسبنا القدرة على التفكير المجرد, على الرغم من أنها تعلمنا المجردات منذ نعومة أظافرنا. وحتى إن فعلت ذلك فإن تأثيرها يكون بطيئاً جداً, لأن هذه ليست من مهامها, مع الإقرار بأن اللغة العربية حافلة جداً بالمجردات. والمشكلة قد لا تكون في اللغة نفسها, ولكن في مستخدميها. في حين أن الرياضيات كلها عبارة عن مفاهيم مجردة, بل إن التجريد هي رئتها التي تتنفس بها, وتبعث فيها الحياة. لذلك هي أكثر حقل معرفي يعزّز هذه القدرة عند دارسيها.
كما أن استخدام الرياضيات في الدراسات اللغوية يساعد على اكتساب التفكير العلمي لدارس اللغة, وهذا شيء أضحى في غاية الأهمية. كما أنها تخفف من غلواء عملية التلقين ,والحشو, التي كثيراً ما تستخدم في تعليم اللغة. و خاصة أن جذور هذه العملية (التلقين وغيره من ضروب التعليم التقليدي) ضاربة أطنابها في أعماق تاريخ التعليم لدينا. لذلك كان يُطلق تاريخياً على الطالب الذي يحفظ درس شيخه من المرة الأولى “المعيد”, لأنه كان باستطاعته أن “يعيد” دروس الشيخ حرفياً بعد انتهاء الدرس للطلاب الذين لا يستطيعون حفظه من المرة الأولى. أي أن التركيز في عملية التعلم لدينا كان ,وما يزال, على الإعادة والتلقين تمهيداً للبصم. ولذلك تسمي كثير من الجامعات العربية الطالب الأول الذي يُعَيَّن في الجامعة بعد تخرجه “معيداً”. وهذا يؤكد قول عالم الأنتروبولوجيا (علم الإناسة) الفرنسي كلود ليفي شترواس Claude Levi_Strauss (1908- 2009) من أن : “أقصر السبل إلى فهم منطق تفكير شعب معين هو دراسة لغته”(6).
وإذا كانت اللغة تسحرنا بجزالة ألفاظها ,ويطربنا حُسن تركيبها, وفي الحديث النبوي الشريف: “إن من البيان لسحرا” , فإن الرياضيات من أهم العلوم التي تعلمنا “الأناقة الفكرية” التي يصعب بلوغها. والإنسان ,وخاصة المنطقي منه, في أمس الحاجة إلى “تذوق” هذه الخاصية السامية, والتي تعد فضيلة عقلية لا تقدر بثمن. فإذا كان الكاتب والموسيقي الأمريكي أرون كوبلاند Aaron Copland (1900_1990) يقول : “إن الجرس في الموسيقا هو نظير الضوء في لوحة الرسم” , فإننا نستطيع أن نضيف إليها : “إن الأناقة الفكرية أو الاتساق في الرياضيات هو نظير الضوء في لوحة الرسم”. لأن الاتساق الرياضي يعبر عن “الجمال الذهني” الذي تتسم به بعض فروع الرياضيات (كالتبولوجيا مثلاً) , وهو جمال ذو طبيعة منطقية, ويمكن تذوقه كما يتذوق بعضنا الحق والفضيلة. لذلك كان يقول الرياضي البريطاني غودفري هاردي Godfrey H.Hardy (1877- 1947): “إن الأفكار مثل الألوان أو الكلمات يجب أن يناسب بعضها بعضاً بطريقة منسجمة”. ووفق قول الرياضي مايكل عطية (7) Michael Atiyah ( 1929- ) : “إذا كانت اللغة هي الصفة المميزة للجنس البشري, فالرياضيات هي الصفة المميزة لجنس العلماء”, أي إذا كانت اللغة ما يشترك به الجنس البشري, فإن الرياضيات ما يشترك به العلماء على اختلاف اختصاصاتهم (مع تفاوت تحصيل كل منهم طبقاً لضرورة اختصاصه). فإن مانقوم به في هذا الكتاب هو محاولة إنزال الرياضيات من برجها القابعة فيه, لمزاوجتها مع اللغة العادية. وهذا نوع من “شعبننة” الرياضيات إن جاز التعبير. فضلاً عن أن هذا القول يشير إلى اشتراك اللغة والرياضيات في الوظيفة المناطة بكل منهما ,بغض النظر عن طبيعيتهما, وتوجه كل منهما نحو سياق مختلف.
هذا ولن نتطرق إلى علاقة الرياضيات بعلم اللسانيات Linguistics لأنها خارج إطار اهتمامنا, ولأن ذلك يطول شرحه ولا يعني إلا المختص. ولكن من المفيد الإشارة إلى أن معظم ما يدور في الفكر اللساني المعاصر, وخاصة عند مؤسس هذا العلم اللغوي السويسري فرديناند دي سوسور Ferdinand de Saussure(1857- 1913) هو صدى للفكر الرياضي الحديث, وخاصة ما أفرزته المدرسة الصورية (الشكلية) Formalism . أي أن تنظيره اللساني كان ترجمة للفكر الرياضي ولكن في سياق لغوي. لذلك نجد أن نظرياته تستبطن فكراً رياضياً, وخاصة مفهومه عن “العلامة” في سلسلة المحاضرات التي ألقاها في جنيف على طلابه بين الأعوام 1906-1911 ونشرت بعد وفاته عام 1916 بعنوان (دروس في علم اللغة العام). من تلك الإشارات ,على سبيل الذكر لا الحصر, : “لكي ندرس الكيفية التي تؤدي بها اللغة وظيفتها ينبغي لنا أن نتخذ موضوعا لبحثنا ليس العلامات الفردية المنعزلة بل العلاقات القائمة بينها. إذ ليست اللغة كتلة من الوقائع المنفصلة بل منظومة مغلقة, بمعنى أن وظيفة كل عنصر تتوقف تماماً على موقعه ضمن المجموع(8)” . وهذا هو عين ما يقوله الفكر الرياضي الحديث الذي يمتد عمره تقريباً نحو قرنين. من تلك الشواهد الرياضية على ذلك ,وهي أكثر من أن تحصى, : “… ليس ما يعنينا في الرياضيات هو طبيعة الأشياء, بل العلاقات التي توجد بينها(9) ” . كذلك قوله: “… هو لا توجد أيضاً أي علاقة طبيعية أو ضرورية بين العلاقة ككل والواقع إلي تدل عليه(10) “. وهذا صدى لما آلت إليه الرياضيات : “أصبحت الرياضيات مستقلة استقلالاً ذاتياً كاملاً ,مهارة خالصة للعلاقات, حيث لم تعد الصور صوراً لشيء ما عيني, بل يمكنها أن تلائم أي شيء(11) “. وهذا يذكرنا بقول الرياضي عطية : “من حسن حظ العلماء وسوء حظ علماء الرياضيات أنهم لا يملكون براءات اختراع بنظرياتهم” .
وما نود الإشارة إليه هو أن علاقة الرياضيات في اللغة واللسانيات عميقة وواسعة, وهذا شيء طبيعي ومتوقع. وهدف هذه الدراسات ليس محاولة ترييض كل شيء في اللغة, لأن هذا يستحيل بلوغه, ولا ينسجم أصلاً مع طبيعة اللغة. بل إن جُلّ مانسعى إليه هو إيقاظ اهتمام الآخرين بأن الرياضيات معين ثرّ ويمكن للعديد من الحقول المعرفية استثماره وفقاً لحاجاتها.
وفي الختام لابد من الإشارة إلى أن هذه الدراسات هي تجسيد لما يقوله بعضهم من أن الرياضيات أضحت “برمجيات” Software العلوم الأخرى. أو كما يقول عطية : “إن الرياضيات تمثل التقانة الذهنية للعلوم, وتقدم الأدوات الذهنية للعلماء” . وهذا أفضى إلى انفجار معرفي كبير في استخدام الرياضيات في العقود الأخيرة ,في معظم العلوم, ولم يعد ثمة علم يستطيع أن ينأى بنفسه عن تأثير الرياضيات. ونحن لن نستخدم سوى بعض مبادئ الرياضيات البسيطة. وقد نستخدم أحياناً بعض مبادئ الفكر الرياضي عندما تستدعي الحاجة لذلك. وهذا يؤكد على أن الرياضيات ليست مجرد اختصاص علمي كغيره من الاختصاصات, بل هي أداة عقلية لتحرير ذهننا, ولإطلاق سراحنا من ربقة اللغة المسجونين بتأثيرها. كما أنها يمكن أن تكون أداة في تحقيق وثبة عقلية في مجال العلوم اللغوية.
الحواشي :
(1) لمزيد من المعلومات حول ذلك التناقض انظر للكاتب “هل نظرية المجوعات في خطر؟” , المجلة الثقافية, الجامعة الأردنية, العدد 34, 1995, الصفحة 268.
(2) سيرد دراسته بالتفصيل لاحقاً.
(3) للجابري أربعة كتب في نقد العقل العربي, وهي : تكوين العقل العربي, وبنية العقل العربي, والعقل السياسي العربي, والعقل الأخلاقي العربي. وسيرد التطرق إلى ذلك في دراساتنا اللاحقة.
(4) “فلسفة الكوانتم”, رولان أومنيس, ترجمة : أحمد فؤاد باشا ويمنى طريف الخولي, عالم المعرفة (الكويت) ,2008, الصفحة 88.
(5) انظر”هل واحد زائد واحد يساوي اثنين؟” ,للكاتب, صحيفة تشرين (دمشق), العدد 6750, 1/3/1997.
(6) مجلة العربي (الكويت) ,العدد 426, الصفحة 92, مأخوذ من كتابه “الأنتروبولوجيا البنيوية”. (7) رياضي بريطاني (والده لبناني ووالدته بريطانية), ويعد صاحب أعظم العقول في القرن العشرين, ومنح لقب النبالة في عام 1983, وهو واحد من سبعة أعضاء في مجلس الحكماء الخاص بملكة بريطانيا.
(8) “النظرية الأدبية الحديثة” ,آن جفرسون و ديفيد روبي, ترجمة : سمير مسعود, وزارة الثقافة (سورية), 1992 ,الصفحة 78.
(9) “فلسفة الكوانتم” , الصفحة 93.
(10) “النظرية الأدبية الحديثة” , الصفحة 75. (11) “فلسفة الكوانتم” , الصفحة 121.
اللغة والرياضيات
قد يبدو هذا العنوان، لبعضهم، غريباً، وكأنّ هناك عملية قسرية للجمع بين موضوعين مختلفين، إن لم نقل متناقضين؛ اللغة من جهة والرياضيات من جهة أخرى. لأنّ هناك من يظن، أو ربما يعتقد، أنّ اللغة ليس لها علاقة البتة بالرياضيات. وسبب ذلك أنّ كثيراً من الناس ينظرون إلى الرياضيات على أنّها علم يُعنى بالأعداد، وبالأشكال الهندسية، والمعادلات، التي قد تكون صمّاء عند بعضهم ولا توحي بشيء. أو أنّها نوع من الحسابات، والعمليات الرياضية، التي لا معنى لها، ولا صدى إنساني، على الرغم من فائدتها في تقدم العلوم الأخرى. لأنّه من المعروف أنّ للرياضيات تطبيقات عديدة، في العلوم المختلفة، مثل الهندسة، والفيزياء، والبيولوجيا، والاقتصاد، وغير ذلك. وكثيراً ما تشكل هذه التطبيقات، العمود الفقري لتلك العلوم. وهذه الحقيقة غنية عن البيان للقاصي والداني. بيد أنّ علاقة الرياضيات بالعلوم الإنسانية، ولاسيما اللغة، قد تكون خفية أو حتى في بدايتها قياساً بعلاقتها بالعلوم التطبيقية، التي مضى عليها حينٌ من الدهر. لذلك يشك بعضهم في أنّه يمكن الاستفادة منها في مجال الإنسانيات، أو في مقاربة كل ما هو إنساني، أو له علاقة عضوية بالإنسان. ويتأتّى هذا الموقف عند كثير منهم من طبيعة الرياضيات الشكلية (الصورية). وهذه نظرة أحادية البعد لأنّ الرياضيات، كما يُجمع عليها الرياضيون، تعد “لغة مبنية جيداً” وفق ما يقوله الفيلسوف والرياضي الفرنسي هنري بوانكاريــه H. Poincarè 1912 – 1854) م). ويقـــــــــــول الريــاضي الفرنسي جـــــــــــــــــاك هادمارد J. Hadmard 1963 – 1865) م): (من بين العلوم كافة، الرياضيات هي وحدها الحرية بأن يكون لها شرف اللغة القويمة المستوفية والمستكملة لجميع طاقاتها). وهذا يذكّرنا بالفيزيائي والرياضي ويلارد جيبس J.W. Gibbs (1839 – 1903 م) الذي لم يلق إلاّ خطاباً واحداً في حياته. فقد وقف يوماً في ندوة جامعية كانت مكرسة لتدريس اللغات فقال: “الرياضيات عبارة عن لغة”، ثمّ جلس في مكانه.
إن الرياضيات ليست ترفاً علمياً أو زاداً فكرياً محضاً لا طائل منه, بل أضحت حاجة وضرورة لكل دارس, ومثقف, ومفكر, مهما كانت دراسته واهتماماته. لأن هناك شريحة واسعة من المتعلمين تعتقد أن إتقان العمليات الحسابية الأربعة (من جمع وطرح وضرب وقسمة) , وبعض المبادئ الحسابية البسيطة تكفيهم في حقولهم المعرفية, وربما تفيض عنهم في عصر الآلات الحاسبة, لأن هذا برأيهم هو كل ما يعنيهم من الرياضيات. قد يصح ذلك من أجل الإنسان العادي الذي لا يعير المسائل اللغوية, أو الفكرية, أو الثقافية أي انتباه. وليس من باب المبالغة القول إن أي معرفة إنسانية معاصرة تنقصها الثقافة الرياضية, هي فاقدة لأحد أبعادها الأساسية. ويكفي الإشارة إلى أنه حتى الفنون الجميلة والتطبيقية, بما في ذلك النقد الفني بمفهومه الرصين (تطبيقات الجشطلت gestalt وغيره) ,أصبحت تلوذ بالرياضيات المعاصرة. وما دور الهندسة الكسورية Fractal Geometry في بعض مناحيها إلا تأكيد على ذلك ,على الرغم من ابتعاد, إن لم نقل غياب, مؤسساتنا الأكاديمية عن هذه الروح العلمية الحديثة التي ما فتئت تزاوج بين الرياضيات والحقول المعرفية الأخرى.
هذا ومن الجدير بالذكر أن اللغة العربية من اللغات التي لم تحاول حتى الآن الاستفادة من العلوم الأخرى, وتوظيفها في مجال الدراسات اللغوية. بل لم تزل رحاها تدور حول مضامين الكتب اللغوية التراثية (على الرغم من أهمية ذلك) ,وبأدوات تقليدية. وتوظيف الرياضيات في مجال اللغة له دور أساسي في تخفيف أثر “الجاذبية اللغوية” التي لها أثر سلبي على الجانب الفكري. ونعني بذلك أن اللغة ,أي لغة, تولّد عادة نوعاً من “الغلاف الجوي” عند معظم مستخدميها, وخاصة عند دارسيها لالتصاقهم الشديد بها. وهذه “الجاذبية اللغوية” تجعل من الصعب على الإنسان التفكير بعيداً عن مفردات اللغة, ويبقى مشدوداً إليها بسبب تلك الشرنقة. لذلك نلاحظ أن ثمة مستويات أو أطر مختلفة للتفكير عند البشر. فمنهم من يبقى نزيل الإطار اللغوي ويعز عليه مغادرته, وهذا يبقى حبيس الفضاء المعجمي, إن صح هذا التعبير. حتى أن بعضهم يظن نفسه من خلال هذه “المساكنة” اللغوية قد امتلك الحقيقة المطلقة في هذه الحياة من خلال معارفه اللغوية ومعايشته لهذه المفردات. وربما لا يشعر هؤلاء أن ثمة أطراً أخرى للتفكير. وقد تفضي تلك “المساكنة” إلى أن بعضهم قد لا يميز بين ما يسمى الدال signifier والمدلول signified (وفق مصطلحات اللغوي السويسري فردينان دوسوسور (1) ,وخاصة في تأكيده على فكرة : “وجود انفصال أساسي بين عالم الواقع وعالم اللغة”(2). والإطار الثاني للتفكير معرفي عام, ويختلف من شخص إلى آخر طبقاً لاختصاصه العلمي, ومعارفه الشخصية. وهذا ما أشار إليه الشاعر أبو الطيب المتنبي , ولو في سياق مختلف قليلاً :
و لكن تأخذ الآذان منه على قدر القرائح والعلوم
و الإطار الثالث من التفكير, وهو عند فئة قليلة من الناس, ويتسم بطابع صوري (بالمعنى الاصطلاحي للكلمة). وهنا لابد من التمييز بين التفكير الصوري formal thinking , والتفكير بالصور imagery . أي أن النوع الأول ليس منسوباً إلى الصورة بمعناها الدارج . ويستطيع هذا أن يفكر بالقضايا المطروحة ليس بعيداً عن اللغة فحسب, بل حتى بعيداً عن السياق الواردة فيه. و هذا التفكير “يتسامى” عادة عن اللغة. ومشكلة اللغة ,أي لغة, على الرغم من أهميتها القصوى ,أنه, كما يبدو, ثمة مكوناً خاصاً في الدماغ الإنساني مكرس نوعياً للغة, يسميه عالم اللسانيات Noam Chomsky الملكة اللغوية(3). وتفاوت هذه الملكة اللغوية و اختلافها بين البشر له دور كبير في عملية الإدراك عندهم , ومن ثم التفاهم بين بعضهم . لذلك يقول تشومسكي : “و إذا كانت حالة ملكتك اللغوية مماثلة بقدر كاف لحالة ملكتي , فبمقدورك أن تفهم ما أقول”(4) . لذلك يقول جون ر.سيرل John R.Searle, أحد كبار فلاسفة العقل, معنى قريباً من ذلك بأن : “اللغة المشتركة تفترض عالماً مشتركاً”(5). و طبيعة هذه “الملكة اللغوية” مسألة لم يزل يعتروها كثير من الغموض. لذلك نجد أن سوء التفاهم متفشي بين الناس أكثر مما نتوقع, وخاصة بين أولئك الذين لا يعون شيئاً عن هذه المعضلة. لذلك يعتقد البنيويون (في مجال النقد الأدبي و اللسانيات) : “إن اللغة هي السجن الذي يعزلنا عن الواقع”(6). ويبدو أن الحالة اللغوية ضرورية ولا غنى عنها للجميع, لكنها تبقى مع ذلك شرطاً لازماً, وهو غير كاف, ولابد من تطعيمها بالمعارف الأخرى. ومن المرجح أن تكون أهم تلك المعارف, بل وإحدى الطرق الهامة التي يمكن أن تخفف من وطأة تلك “الجاذبية” هي توظيف الفكر الرياضي في المجال اللغوي, لعدة أسباب. منها أن الرياضيات علم صوري (كما هو الحال في المنطق, وبعضهم يضيف النحو) , وهذا على خلاف بقية العلوم الأخرى ذات الطابع الإخباري informative. و العلوم الصورية تتناول –ببساطة- قضايا تحليلية خالية من المحتوى الواقعي. أما العلوم الإخبارية فهي تتناول قضايا ذات محتوى واقعي(7). لذلك فإن الرياضيات يمكن لها أن تصورن (نسبة إلى الصوري) التفكير الإنساني, وهذه الطبيعة الخاصة لها تعبّر عن حياديتها أثناء توظيفها في الحقول المعرفية الأخرى, فضلاً عن تعبيرها عن الطبيعة الشمولية التي تسمح لها أن تتناول عديد من القضايا باستخدام لغتها التي تعجز العلوم الأخرى عن القيام بتلك المهمة.
لنأخذ مثالاً بسيطاً قد لا يفي بالغرض لكنه يوضح الفكرة إلى حد ما, وذلك من خلال تناولنا لكلمة على قدر كبير من الأهمية ,و كثيرة التداول, وهي مفردة “العقل”. وبالعودة إلى لسان العرب لابن منظور نجد أن : “العقل : الحجر والنهي ضد الحمق … والعاقل من يحبس نفسه ويردها عن هواها … ويسمى العقل عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك أي يحبسه” . وعندما نتعامل مع هذه الكلمة لم يزل معظمنا ,إلى يومنا هذا, أسير هذا المعنى. مع أن مدلول هذه الكلمة الحديث أضحى مختلفاً تماماً عن معناها المعجمي القديم. وهنا نؤكد على كلمة مدلولها, وليس معناها الاصطلاحي ,أو المجازي. بل كل دراستنا تنصب على المعنى الحقيقي للكلمة (وليس الاصطلاحي) بمدلولها القديم وما آلت إليه, مع معرفتنا بافتقاد اللغة العربية إلى “معجم تاريخي” لألفاظ العربية التي طرأ تطور كبير على معانيها وهذا ليس بالقليل. لذلك فلا عجب إذا عرفنا أن معظمنا يجد صعوبة كبيرة في فهم كتب التراث على اختلاف أنواعها. وقد أضحى مفهوم العقل في التصور العلمي المعاصر هو : “القدرة على القيام بإجراءات حسب مبادئ” , بل إنه أساساً ,نشاط منظم, ولنقل “لعب حسب قواعد”(8). وهذا ليس معنى اصطلاحياً أو مجازياً للعقل, بل هذا أضحى تعريفاً له في معظم الحقول المعرفية المعاصرة المعنية بدراسته, ونخص منها فلسفة العقل. بل إن معناه القديم الذي تواضع عليه علماء اللغة في فترة التدوين أضحى لا يفي بالغرض, وهو غير صحيح لما طرأ من تطور على دلالته حديثاً. ومن الجدير بالذكر أن تعريفه هذا هو صدى لتعريف الرياضي والمنطقي البريطاني برتراند رسل للرياضيات والذي ينص ببساطة على أنها العلم الذي يدرس جملة القضايا ق التي تقتضي القضايا ك (أو بصياغة أخرى إذا كانت ق فإن ك). أو ماردده فيلسوف العلم الفرنسي رولان أومنيس Roland Omnes أو غيره من : “أن الرياضيات أصبحت مستقلة استقلالاً ذاتياً كاملاً, مباراة خالصة للعلاقات…”(9)
ومع ذلك فإن مفهوم العقل المعجمي القديم لم يتطور إلى يومنا هذا, ولم تستفد العلوم اللغوية من منجزات العلوم الأخرى, وبلورة بعض معاني الكلمات اللغوية و إغنائها. لذلك كلما زادت معارف اللغوي من العلوم الأخرى خف تأثير سلطان اللغة في عملية تفكيره. والتفكير باستخدام العلوم الأخرى يستدعي من الإنسان القدرة على التجريد, والتحرر من فضاءات المفاهيم اللغوية للكلمات عندما لا تكون هناك حاجة لذلك .
ولا بد من الإشارة إلى أنّ جذور المفاهيم الرياضية مستمدة من الطبيعة، مهما بدت هذه المفاهيم على درجة كبيرة من التجريد أو التعميم. أي أنّ الكائنات الرياضية هي محاكاة لأشياء في الطبيعة، مع الاعتراف بأنّ طبيعة المحاكاة الرياضية تختلف عن غيرها من المجالات، إذ تخضع محاكاتها للتجريد، نظراً إلى أنّ الرياضيات مفاهيم مجردة. لذلك في هذا المنظور نستطيع فهم قول الرياضي البريطاني هاردي : (أعتقد أنّ الحقيقة الرياضية قائمة خارج أنفسنا، ووظيفتنا أن نكشفها، أو أن نلحظها، وما النظريات التي نبرهن عليها، والتي نتكلم عنها ببلاغة، وكأنّها “مخلوقاتنا”، سوى نتائج ملاحظاتنا). وما تقوم به الرياضيات ليس أكثر من أن تجد “اللغة المناسبة” للتعبير عن تلك الملاحظات. هذا ومن وجهة نظر بعضهم فإنّ الرياضيين يذهبون بعيداً في محاكاتهم. فهم لا يحاكون الطبيعة فحسب، بل إنّهم يحاكون كل ما يقال لهم على طريقتهم الخاصة. وفي هذا المعنى يقول الشاعر والفيلسوف الألماني غوته (J. W. V. Goethe) (1832 – 1749): (إنّ الرياضيين مثل الفرنسيين: أي شيء تقوله لهم، يترجمونه إلى لغتهم، وبعد ذلك يُصبح هذا الشيء أمراً مختلفاً تماماً).
هذا وتُعد اللغة إحدى الركائز الأساسية للفكر الثقافي الحديث، لهذا أضحى الاهتمام باللغة، الآن، على قدر كبير من الأهمية في الحياة المعاصرة؛ خاصة إذا عرفنا أن اللغة، عند معظم الناس، وظيفية أكثر من كونها غاية في نفسها. وعدم استخدام مفردات اللغة على النحو الصحيح يشوّه أثرها الوظيفي. لذلك نشأت في عديد من الدول المتقدمة اختصاصات في هندسة اللغة. ويعد الدكتور فرانك لنتز Frank Luntz واحداً من أشهر مهندسي اللغة في الولايات المتحدة الأمريكية، وأكثرهم خبرة في التأثير في الرأي العام، وله أثر بالغ في حملات الحزب الجمهوري(10).هذا و إذا حذونا حذو المفكر المغربي محمد عابد الجابري في تصنيفه للعلوم وضروب المعرفة في الثقافة العربية الإسلامية إلى ثلاث مجموعات : علوم البيان, وعلوم العرفان, وعلوم البرهان. حيث تتضمن علوم البيان النحو والفقه والبلاغة … ويؤسسها نظام معرفي واحد يعتمد قياس الغائب على الشاهد كمنهاج في إنتاج المعرفة. و “العرفان” نظام معرفي ومنهج في اكتساب المعرفة, ورؤية العالم, عن طريق الإلهام والكشف, وأيضاً موقف منه(11). وعلوم البرهان تتضمن المنطق والرياضيات, والطبيعيات (بفروعها المختلفة) … ويؤسسها نظام معرفي واحد يقوم على الملاحظة التجريبية والاستنتاج العقلي كمنهج, وقد دعاها الجابري “المعقول العقلي” , ويعني بذلك المعرفة العقلية المؤسسة على مقدمات عقلية(12). ولما كانت طبيعة العلم, والتحصيل المعرفي, قد تنعكس على طبيعة العقل( بمفهومه الحديث) فإن أثر اللغة في تشكيل العقل العربي بيّن ولا لبس فيه. ووفق رؤية الجابري فإن : “العقل العربي تكوَّن من خلال تشييده لعلوم البيان التي أبدع فيها إبداعاً قلّ مثيله في تاريخ الفكر البشري….
وبأن هذه العلوم البيانية قد بلغت قمتها مع بداية تاريخها, وأن العقل العربي الذي شيدها لم يضف, وما كان يستطيع أن يضيف, جديداً إلى ما أبدعه فيها خلال عصر التدوين”(13). و إذا سلمنا بصحة جزء من هذا الكلام ,إن لم نسلم به كاملاً, فإن العلاج الممكن هو توظيف “علوم البرهان” (ونخص منها الرياضيات) في مجال “علوم البيان” , وذلك للتخفيف من أثرها في تكوين العقل العربي. لأن أي تحديث في تلك العلوم البيانية, وفي مناهجها لا يمكن أن ينجز إلا من خارجها, وبتزاوجها مع الحقول المعرفية الأخرى. خاصة مع استخدام العلوم الرياضية كونها علماً صورياً, وتمتلك منهجاً متماسكاً وصالحاً لأن يكون أنموذجاً, وأدوات عقلية متاح استخدامها في عديد من المجالات.
هذا ومن الجدير بالذكر أن أكثر التركيز في عملية التعليم في المدارس في الدول المتقدمة أضحى على اللغة والرياضيات. وعلى الرغم من أنّ لكل موضوع وظيفته الخاصة به سنحاول في هذه الدراسة القيام بعملية مزاوجة بين هاتين الوظيفتين. إذ ستقوم هذه الدراسة بتوظيف الرياضيات، في تعزيز الاتجاه العقلي في فهم اللغة، وفي التعامل معها، بطريقة منهجية، مستخدمة بعض المعارف الرياضية البسيطة. فهي ستعيد النظر في تقسيم الكلام المعروف بين الخبر والإنشاء، انطلاقاً من خلفية رياضية – منطقية. كما ستقوم بتصحيح بعض الأخطاء الشائعة، منها الخلط بين الرقم والعدد، الذي لم ينجُ منه حتى الخاصة من الناس. كما ستقوم الدراسة ببلورة بعض المفردات اللغوية منها: البديهية,والأبعاد، والمعادلة، والتتميم، والإسقاط، والتقاطع…..
ومن المعروف أنّ الدّقة منبعها الفكر لا اللغة، فهذه الأخيرة أداة للتعبير. وما يحدث أحياناً أنّ هذه الأداة قد تخفق في التعبير عن مكنونات الفكر وما يقرره. وهذا الكلام ينال كل اللغات، لا العربية فحسب. ولما كان الفكر الرياضي قوام الفكر السليم القادر على معالجة كثير من المسائل، لذلك فإنّ استخدامه في الدراسات اللغوية سيعزّز هذه الدراسات. وقد استفادت الدراسات اللسانية في أوروبا وأمريكا استفادة كبيرة من الرياضيات والمنطق. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا ليس خلطاً بين الرياضيات واللغة، أو بين لغة الرياضيات الخاصة ولغة الكلام العامة. فعندما نتحدث عن الأعداد في الرياضيات، أو في اللغة، أو في الاقتصاد، أو في غير ذلك، فإنّ هذه الأعداد تبقى خاضعة لقوانين الرياضيات، بغض النظر عن طبيعة المعدود، كما هو الحال في قواعد اللغة العربية، في مسألة مطابقة العدد للمعدود في التذكير والتأنيث أو عدمها.
الشفاهية والكتابية
من المعروف أنّه (تمّ الكشف في السنوات الأخيرة عن فروق أساسية في طرق تحصيل المعرفة والتعبير بالكلام بين الثقافات الشفاهية الأولية (ثقافات بلا معرفة بالكتابة على الإطلاق) والثقافات العميقة التأثر بالكتابة). وقد كان هذا موضوع كتاب مترجم إلى اللغة العربية بعنوان “الشفاهية والكتابية” (14)(Orality and Literacy). وقد أشير في الكتاب إلى أنّ عديداً من الدراسات أكدت انتماء الأدب العربي بشكليه الفصيح والشعبي إلى دائرة الأدب الشفاهي المتحول في بعض أحواله إلى الكتابية(15).
ومن السمات التي تميز الفكر والتعبير الشفاهيين الإطناب. لذلك فنحن الناطقين، باللغة العربية، في أمس الحاجة إلى الرياضيات، أو الفكر الرياضي، كي تسرّع عملية تحوّلنا إلى دائرة الثقافة الكتابية. لأنّ الرياضيات تعلّم الاقتصاد في الفكر والتعبير. والحديث عن وظيفة، ما يمكن أن نطلق عليه، “النزعة الاقتصادية”، في الرياضيات، هو حقيقة الحديث عن نشأة الرياضيات وتطورها. بمعنى أنّ النزعة الاقتصادية في الرياضيات هي الوجه الآخر لتأريخ الرياضيات. واستعراض الأمثلة الدالة على هذه النزعة في الرياضيات، يستلزم استعراض جُلّ المواضيع الرياضية، ابتداءً من نظام العد العَشْري، وصولاَ إلى أكثر المواضيع تعقيداً في الرياضيات. ولن نبحث في هذا السياق، عن الدوافع النفسية الكامنة وراء هذه النزعة، لأنّ ذلك خارج اهتمام هذه الدراسة.
ويكفي الإشارة إلى أنّ “عملية اكتشاف” – إن جاز التعبير – المستقيم، أو القطعة المستقيمة، كانت علامة فارقة، أو ربما نقطة تحوّل، في تاريخ الفكر الإنساني عموماً، وفي تاريخ الفكر الرياضي خصوصاً. وقد لا نبالغ إذا قلنا إنّ اكتشاف المستقيم أو القطعة المستقيمة، لا يقل أهمية عن اكتشاف النار. لأنّ الإنسان ذاق حينها طعم الاقتصاد، ربما للمرة الأولى، ليس في الوصول إلى مكان ما انطلاقاً من مكان معين، بل بتجريد ذلك واستخدامه في نواح عديدة من الحياة. وهذا الفتح العلمي قاد الإنسان إلى مزيد من الفتوحات الرياضية الأخرى المستمرة إلى يومنا هذا.
وإذا تركنا الإطناب في اللغة جانباً، لأنّ معالجته تتطلب كثيراً من الجهد، وتحدثنا قليلاً عن الفائض في بعض الجمل في اللغة، وجدنا، على سبيل الذكر لا الحصر، أن أحدهم يستخدم عبارة: “منظمة الجامعة العربية” للدلالة على جامعة الدول العربية. فلو كان هذا الشخص ملماً ببعض مبادئ “نظريات المجموعات”، التي أضحت تُعلّم الآن في المدارس، لما ذكر العبارة على ذلك النحو. لأنّ منظمة تعني مجموعة، وكذلك الجامعة العربية هي في نفسها مجموعة من الدول. ولا يصح أن نقول مجموعة مجموعة ما. بمعنى آخر، يكفي أن يقول “الجامعة العربية”.
والأكثر من ذلك فإنّه (تميل الثقافات الشفاهية إلى استخدام المفاهيم في أطر موقفية وإجرائية تعتمد على مرجعية ذات درجة ضئيلة من التجريد، بمعنى أّنها تظل قريبة من عالم الحياة الإنسانية المعيش)(16). وباختصار فإنّ الثقافات الشفاهية موقفية أكثر منها تجريدية. أي أنّها لا تستطيع أن تعزل المفهوم أو أن تجرده عن السياق الوارد فيه. ويصعب على أصحاب الثقافات الشفاهية تصور الدائرة، ككائن هندسي، بل لا بد أن ينظروا إليها كطارة، أوحلقة أومنخل أو أي شيء شبيه بذلك. والرياضيات والفكر الرياضي يقومان بتعزيز القدرة على التجريد. وهذا يساعد أيضاً في عملية تحول الأدب العربي إلى الثقافة الكتابية. هذا ومن المعروف أنه في كل لغة قدر من التجريد, الذي يعد مؤشراً على ارتقاء العقل البشري. وعلى العكس من ذلك فإن الارتباط الكبير بالواقع الحسي دليل على بدائية هذا العقل. يقول مازن المبارك : “فالاقتصار على الحسيات دليل على ابتدائية اللغة وعلى عجزها عن التجريد و التعبير عن المعنويات والمجردات”(17). ولهذا يقول صبحي الصالح : “ولهذا يرجح اللغويون أن الحسي أسبق في الوجود من المعنوي المجرد”(18). وهذا شيء طبيعي لأن الخبرة العملية دائماً أسبق من المعرفة النظرية. ولذلك فلا عجب إذا عرفنا أن بعض علماء النفس يعرّفون الذكاء على أنه القدرة على التفكير المجرد. هذا وما يعوق عملية التجريد, أو أكثر دقة, اكتساب القدرة على التجريد, عند الإنسان, هو استسلامه للغة, أي استغراقه بالتفكير من خلال مفرداتها. فكلما استطاع الإنسان أن يتحرر من ربقة اللغة, وخاصة من الجانب المحسوس منها, أصبحت قدرته على التجريد أكبر. ونتيجة لبدائية بعض اللغات نلاحظ أن : “مفهوم العدد عند بعض القبائل البدائية, كقبيلة “التسمانيين” لا يجاوز الاثنين (واحد, اثنان, كثير), فكل ما يتعدى اثنين هو “كثير”. هذا بالإضافة إلى ربط حسي للعدد بالشيء, إلى درجة أن قبيلة دامار ترفض مقايضة أربعة أكياس من الحنطة بأداتين للصيد (قوسين مثلاً), وتقبل مقايضة كيسين بقوس واحد, على أن تعيد العملية مرة أخرى”(19).
هذا ومن الجدير بالذكر أنّ اللغة تؤدي وظيفة في نمو التفكير الرياضي، وفي طبيعته. فإما أن تنشِّط جانباً معيناً في هذا التفكير، أو من الممكن أن تقوم بخلاف ذلك، وتضعف جانباً آخر. فإذا سلّمنا ما تقوله الدراسات اللسانية حول أنّ اللغات السامية تميل إلى التأليف المتجبرن، فإنّ هذا قد يساعدنا في فهم لماذا طلابنا، عموماً، في المدارس في العالم العربي يجدون الجبر أسهل كثيراً من الهندسة، على اعتبار أن اللغة العربية هي إحدى اللغات السامية. (وفي دراسة حديثة حول الارتداد الدلالي للمفهوم يعرض كيف أنّ اللغات السامية تميل إلى التأليف المختصر والمجرد “المتجبرن” على نقيض الميل “الآري المُهندس”. وبحسب هؤلاء المؤلفين فإنّ البنية الألسنية هي المسؤولة عن تطور “علم البناءات الجبرية”)(20).
فضلاً عما تقدم توجد علاقة غير مباشرة بين الرياضيات واللغة، إذ إن الرياضيات تعلّم الدارس الانضباط والصرامة في التفكير، وهذا يغذي الشعور بالمسؤولية. وهناك من يعتقد أنّ ثمّة علاقة بين الشعور بالمسؤولية عند الأشخاص واهتمامهم باللغة.
لمحة موجزة عن الدراسات
إن الهدف من هذه الدراسات متنوع وفقاً لطبيعة كل دراسة. فالدراسة الأولى بعنوان: “الكلام بين الخبر والإنشاء من منظور رياضي – منطقي”. وتهدف هذه الدراسة إلى تقديم رؤية جديدة لطبيعة الكلام في اللسان العربي. ولحمة هذه الرؤية بعض المحيّرات (المفارقات) اللغوية في اللغة العربية، وسداها علم المنطق الحديث. إذ يُقسم الكلام في اللغة العربية إلى قسمين: خبر وإنشاء. وتبيِّن الدراسة أنّ ثمّة كلاماً في اللغة العربية ليس خبراً ولا إنشاء. والدراسة ليست أكثر من محاولة متواضعة لتسهيل معالجة اللغة العربية آلياً.
والدراسة الثانية بعنوان : “هل معنى البديهية بديهي ؟” . وهي تتطرق إلى أن هذه المفردة قد خلقت مفهوماً, أو وضعاً لغوياً, أو فكرياً غير موجود في كثير من الحالات. والمشكلة التي تتصدى لها هذه الدراسة –ببساطة- هي أننا استعرنا كلمة من اللغة العربية لها معنىً محدداً لتشير إلى شيء غير موجود في كثير من الأحيان. وكيف أن هذه الكلمة أضحت عقبة كأداء في معظم حالات النقاش العقيم بين الناس .
والدراسة الثالثة بعنوان : “الثنائيات اللغوية و المنطق”. وهي تتحدث عن علاقة الثنائيات اللغوية بالمنطق, ومدى تأثير تطور المنطق الحديث على تفكيرنا وعلى لغتنا. وعلى الرغم من أهمية اللغة في التفكير الإنساني, بيد أنها تحمل في طياتها الكثير من التضليل نتيجة لما تحفل به من ثنائيات لغوية متضادة. لهذا نجد أن اللغة ,أي لغة, قد ورّثت فينا منهجاً خاطئاً في التفكير.
والدراسة الرابعة بعنوان: “الرقم والعدد بين اللغة والرياضيات”. وهي تتحدث عن الخلط، وأحياناً التماهي، الذي يقع فيه معظم الناس، بين الرقم والعدد، بما فيهم الخاصة. إذ يذهب الظن ببعضهم إلى أنهما كلمتان مترادفتان، أو أن الرقم حالة خاصة من العدد، أو أن الرقم هو أحد مجموعة الأعداد من الصفر إلى تسعة. غير أنّ واقع الحال غير ذلك.
والدراسة الخامسة بعنوان: “الأبعاد بين اللغة والرياضيات”. وتتحدث الدراسة عن كلمة شاع استخدامها على نطاق واسع في العصر الحديث، وهي لفظة “أبعاد”. وتنبع أهمية هذه الكلمة من أنّه أضحى لها دلالة في اللغة العربية يصعب أن نعثر على كلمة أخرى في اللغة تماثلها في المعنى. وتهدف الدراسة إلى بلورة مفهومها، وإغنائه، انطلاقاً من خلفية رياضية، لتتضح ماهيتها.
والدراسة السادسة بعنوان: “المعادلة ودلالاتها اللغوية والرياضية”. وتتحدث الدراسة عن واحدة من المفردات اللغوية التي تتمتع بجاذبية كبيرة لدى شريحة واسعة من الكتّاب، لما تختزنه من اقتصاد لغوي وفكري. فهي تعبّر عن وضع تنظيمي تعيشه بعض العلاقات المتداخلة. وتعاني هذه المفردة من استخدامات عشوائية من غير وجود أي ضوابط لذلك. خاصة وأنّها تُستخدم في بعض المواضيع التي تتطلب الدقة في التعبير. وتهدف هذه الدراسة إلى بلورة مفهومها انطلاقاً من مفهومها الرياضي بعد عرض هذا المفهوم الأخير وتبسيطه.
والدراسة السابعة بعنوان: “التتميم ودلالاته اللغوية والرياضية”. وما تقوم به هذه الدراسة هو اكتشاف بعض القواعد الناظمة للاستخدامات الصحيحة لهذه الكلمة. وأداتنا في ذلك الفكر الرياضي، أو أكثر تحديداً بعض المبادئ البسيطة في مقدمة نظرية المجموعات التي أضحت جزءاً أساسياً من الرياضيات المدرسية.
والدراسة الثامنة بعنوان: “الإسقاط ودلالاته اللغوية والرياضية .. نحو بلورة مصطلح نقدي جديد”. وتهدف الدراسة إلى بلورة مفهوم كلمة “الإسقاط”، وتجسيمه، انطلاقاً من أرضية رياضية، لتتضح ماهيته، وليتخلص من ضبابيته. خاصة وأنّ هذه الكلمة ذات مفهوم ثري، ويمكن توظيفه في عديد من القضايا الفكرية، والفلسفية، والأدبية، هذا فضلاً عن إغناء المحصول اللغوي نفسه. ولا نبالغ إذا قلنا، إنّه قد لا نجد جملة كاملة في اللغة تقوم مقامها.
والدراسة التاسعة بعنوان: “التقاطع ومدلولاته اللغوية والرياضية”. وهذه الكلمة طرأ تطور على استخدامها في حياتنا المعاصرة. بيد أنّ المزاج الشخصي لم يزل يلقي بظلاله على طريقة الاستخدام تلك. ويعزى سبب ذلك إلى عدم وجود معيار لغوي أو ضابط فكري يلجأ إليه المستخدم ليقيه الوقوع في شرك سوء الاستخدام. وقوام مفهومها الحديث، الذي نسعى إلى بلورته، هو مفهومها الرياضي، بل هو بعينه. ومن ثمّ فاستيعاب مدلولها الرياضي يساعد كثيراً على استجلاء أبعادها، ويوضح الوظيفة الذي يمكن أن تناط بها، وكيفية استخدامها.
والدراسة العاشرة بعنوان: “خطأ لغوي من منظور رياضي ……. الدخل المحدود”.
وتتحدث الدراسة عن الإفقار الذي أصاب اللغة العربية نتيجة سوء استخدام كلمة محدود، إذ لم نعد نجد كلمة في اللغة تدانيها في معناها المعجمي.
والدراسة الأخيرة بعنوان: “المسافة ودلالاتها اللغوية والرياضية”. وتهدف الدراسة إلى بيان أن المفهوم الرياضي الحديث للمسافة (المترك) هو نوع من “المحاكاة” لمفهوم المسافة المتداول لغوياً بمعناه الواسع.
هذا وما قدمناه في هذا الكتاب هو مجرد أمثلة أو عينة على هذا النوع من الدراسات. وهذا الموضوع مفتوح على التطور, والمزيد من الغنى والإضافات. وهذه التجربة المتواضعة قد تكون مجرد ملامح عامة لتوجه جديد في الدراسات اللغوية. ولا تنضج ولا تكتمل إلا بمساهمة الآخرين فيها من طرف اللغويين أولاً, ومن طرف الرياضيين ثانياً, وخاصة إن كان هناك انفتاح وتعاون بين هذين الحقلين المعرفيين الهامين : اللغة والرياضيات. لأنهما حتى الآن ما يزالان معزولين عن بعضهما تماماً. وهنا لابد من التمييز بين الرياضيات والمنطق, لأن طبيعة العلاقة بينهما غير مستقرة حتى الآن, فهذه مسألة خلافية من وجهة نظر مدارس فلسفة الرياضيات. وهذا الكتاب من جهة أخرى هو محاولة رأب الصدع بين العلوم و الإنسانيات التي قال عنها أحدهم : “إنها أشأم معركة عرفتها البشرية”.و تأ
والله ولي التوفيق.
الحواشي:
“النظرية الأدبية الحديثة”, آن جفرسون, ديفيد روبي, ترجمة : سمير مسعود, وزارة الثقافة (سورية), 1992, الصفحة 74.
المرجع السابق, الصفحة 75.
(3) “قوى وآفاق- تأملات في الطبيعة الإنسانية والنظام الاجتماعي”, نعّوم تشومسكي, ترجمة : ياسين الحاج صالح, دار الحصاد للنشر والتوزيع (دمشق), 1998, الصفحة 207.
المرجع السابق, الصفحة 208.
(5) “العقل- مدخل موجز”, جون ر.سيرل, ترجمة : ميشيل حنا متياس, عالم المعرفة (الكويت), 2007, الصفحة 203.
(6) “النظرية الأدبية الحديثة”, الصفحة 144.
لمزيد من المعلومات انظر “الموسوعة الفلسفية العربية”, معهد الإنماء العربي (بيروت), معن زيادة, الصفحة 609.
انظر “تكوين العقل العربي”, محمد عابد الجابري, مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت), الطبعة التاسعة 2006, الصفحة 24. حيث يشير في الحواشي (الصفحة 36) إلى أنه يستلهم ذلك من كتاب جان أولمو Jean Ullmo : الفكر العلمي الحديث (بالفرنسية).
(9) “فلسفة الكوانتم”, رولان أومنيس, ترجمة : أحمد فؤاد باشا ويمنى طريف الخولي, عالم المعرفة (الكويت), 2008, الصفحة 121.
(10) انظر كتابهWords That Work :
It’s Not What You Say That Matters, It’s What People Hear.
هناك مراجعة عن الكتاب تجدها على الشبكة العالمية للمعلومات في الموقع.
(11)”تكوين العقل العربي”, الصفحات 333 و 334.
“بنية العقل العربي”, محمد عابد الجابري, مركز دراسات الوحدة العربية, الطبعة السابعة 2004, الصفحات 252, 253.
(13)”تكوين العقل العربي”, الصفحة 339.
انظر “الشفاهية والكتابية”، والترج أو نج، ترجمة: حسن البنا عز الدين، عالم المعرفة
(182)، الكويت، الصفحة 47.
(15) المرجع السابق، الصفحة 44.
(16) المرجع السابق، الصفحة 115.
(17) “فقه اللغة و خصائص العربية” ,محمد المبارك, دار الفكر (بيروت), الطبعة السادسة 1975 , الصفحة 308.
(18) “دراسات في فقه اللغة” ,صبحي الصالح, دار العلم للملايين (بيروت), الطبعة السادسة, 1976 الصفحة 180.
(19) مجلة العربي (الكويت), العدد 426, الصفحة 92. (20) “تاريخ الرياضيات العربية”، رشدي راشد، ترجمة: حسين زين الدين، مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت)، الصفحة 64. وهو يقصد الكاتبين L.Massignor and M.Arnaldz.
الكلام بين الخبر والإنشاء من منظور رياضي – منطقي
تقول فرضية الحتمية اللغوية (Linguistic Determinism) التي قال بها الفيلسوف الألماني ولهالم همبولدت W. Humboldt في القرن التاسع عشر الميلادي، والتي أعاد طرحها مرة جديدة في النصف الأول من القرن العشرين إدوار سابير E.Sapir: (إنّ النّاس تبع في تفكيرهم وإحساسهم ومشاعرهم ونظرتهم إلى الكون، للعادات التي اكتسبوها من خلال ممارستهم للغة قومهم) (1). ولهذا انشغل الباحثون في تحديد أثر اللغة في تشكيل الفكر أو في عملية التفكير. فهل ثمة فكر، أو تفكير بلا اللغة؟ أو هل اللغة هي التي تحدّد إطار الفكر؟ وعلى الرغم من معارضة بعض اللغويين لهذه الفرضية فثمة إقرار عام عند هؤلاء يفيد أنّ اللغة تؤثر أحياناً تأثيراً ما في صوغ الفكر (2). ولا غرابة في قول البعض: إنّ اللغة تصنعنا أكثر مما نصنعها. وهذا مايدفعنا إلى تقديم رؤية طبوغرافية جديدة للغة العربية، وبعبارة أدق رؤية جديدة لطبيعة الكلام في اللسان العربي. ولحمة هذه الرؤية بعض المحيِّرات (المفارقات) اللغوية في اللغة العربية، وسداها علم المنطق الحديث. فعلاقة المنطق باللغة قديمة العهد، بل إنّ كلمة “لوجوس” التي اشتق منها اسم المنطق في اللغة اليونانية تعبر أصلاً عن اللغة، وعن الجزء الإيجابي منها، بوجه خاص، أي عن الجزء الذي يقنّنه التركيب اللغوي على هيئة قواعد(3). والمنطق في اللغة العربية هو الكلام. وما يسترعي الانتباه هو العلاقة الخاصة التي تربط الثنائيات اللغوية بالمنطق. فعلى الرغم من أهمية اللغة في التفكير الإنساني، نجدها تحمل في طياتها كثيراً من التضليل، والزيف، نتيجة لما تحفل به من ثنائيات لغوية متضادة، مثل الخير والشر، والكبير والصغير، والفضيلة والرذيلة،… وأول من أشار إلى هذا الزيف الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه. وهذا التضاد اللغوي ينافي الواقع ويصطدم معه. ولهذا نجد أن اللغة ورّثت فينا منهجاً خاطئاً في التفكير. وعلاوة على ذلك كثيراً ما نجد أنّ التضاد اللغوي يصطدم مع الطبيعة البشرية. لأنّ كل ما هو إنساني من خير وشر وجمال وقبح … لا يمكن الحديث عنه بحدّة أو تطرف (4). بيد أنّ ما يزيد الأمر تعقيداً في بعض الثنائيات اللغوية في اللسان العربي، التي نخص منها الخبر والإنشاء، هو أنّ ثمة كلاماً في اللغة العربية ليس خبراً ولا إنشاء.
من المعروف أنّ علم المعاني في اللغة العربية يبحث في الكلام، أهو إخباري أم إنشائي. ويبحث في نواح أخرى، مثل الإيجاز والإطناب، وغير ذلك كثير. وما يهمنا في هذا الإطار هو بحثه في الجملة الخبرية والجملة الإنشائية. إنّ لفظة “كلام” عند اللغويين العرب القدامى تشير، من ضمن ما تشير إليه، إلى الجملة. يقول ابن جني في “الخصائص”: “وأما الكلام فكل لفظ مستقل بنفسه، مفيد لمعناه، وهو الذي يسميه النحويون الجمل، نحو زيد أخوك، وقام محمد، وضُرِبَ سعيد، وفي الدار أبوك … ” (5). وينقسم الكلام في اللغة العربية إلى قسمين: خبر وإنشاء. فالخبر: كلام يحتمل الصدق والكذب لذاته، أي بقطع النظر عن خصوص المخبر، أو خصوص الخبر – وإنّما ينظر في احتمال الصدق والكذب إلى الكلام نفسه لا إلى قائله (6). في حين أنّ أبا إسحاق إبراهيم بن سيّار النّظّام ربط مسألة الصدق والكذب في الخبر والإنشاء باعتقاد المتكلم لا بمطابقة الكلام للواقع(7) . وأما أحمد بن فارس فقد أورد في كتابه “الصاحبي”: “أما أهل اللغة فلا يقولون في الخبر أكثر من أنّه إعلام: تقول أخبرته أُخبره، والخبر هو العِلم. وأهل النظر يقولون: الخبر ما جاز تصديق قائله أو تكذيبه، وهو إفادة المخاطب أمراً في ماضٍ من زمان أو مستقبل، أو دائم” (8). ويقول القزويني في كتابه: ” الإيضاح في علوم البلاغة”: “اختلف الناس في انحصار الخبر في الصادق والكاذب، فذهب الجمهور إلى أنّه منحصر فيهما؛ ثم اختلفوا. فقال الأكثر منهم: صِدْقه مطابقة حكمه للواقع، وكِذْبه عدم مطابقة حكمه له” (9). وتحدث عنه سيبويه في “الكتاب” وذكره مقابل الاستفهام، وقلده الفرّاء في مثل ذلك، في كتابه “معاني القرآن”. وعرّفه المبرّد بقوله: “الخبر ما جاز على قائله التصديق والتكذيب”. وله أنواع متعددة، منها الخبر الابتدائي، والإنكاري، والطلبي والخبر للاسترحام، والخبر لإظهار التحسر … الخ (10). وخلاصة القول أنّ البلاغيين العرب لم يتوصلوا إلى تعريف واحد متفق عليه للخبر، على الرغم من أنّه كان محط اهتمامهم منذ وقت بعيد، فضلاً عن اهتمام المعتزلة، والمتكلمين، لاهتمامهم بالدراسات القرآنية.
والإنشاء لغةً: الإيجاد، واصطلاحاً: كلام لا يحتمل صدقاً ولا كذباً لذاته، أي بقطع النظر عما يستلزمه الإنشاء. ويشمل: الأمر، والنهي، والاستفهام، والتمني، والتعجب، والترجي، والقسم، والنداء … و بعضهم يميز بين الطلب والإنشاء إذ يقسم الكلام إلى خبر وإنشاء وطلب(11). ويقابل الجملة الخبرية في اللغة ما يسمى “القضية” proposition في المنطق. وهي العبارة التي تكون إما صادقة أو كاذبة، ولا يمكن أن تكون صادقة وكاذبة في آنٍ واحد.
لنمعن النظر في قول ينسب إلى ابيوليدس Eubulides (من القرن الرابع قبل الميلاد) جاء فيه: “إنّ البيان الذي أقوله الآن كاذب”، أو باختصار: “إنّي أكذب”. من الواضح أنّ هذا الكلام ليس جملة إنشائية. ومن ثمّ – وفق تقسيم الكلام في اللغة العربية – يجب أن يكون جملة خبرية، أي يجب أن يحتمل الصدق أو (12) الكذب. لنفرض مؤقتاً، أنّه صادق في قوله، ومن ثمّ فهو يكذب. لذلك وجب أن يكون كاذباً. وهذا يناقض الفرض المؤقت من أنّه صادق في قوله. والخيار الثاني أن نفرض، مؤقتاً، أنّ ما قاله كذب، ومن ثمّ فهو لا يكذب. لذلك وجب أن يكون صادقاً. وهذا يناقض الفرض المؤقت من أنّ ما قاله كذب. وصفوة الكلام أننا أمام جملة لا نستطيع تقرير صدقها أو كذبها. وباختصار فهي ليست جملة خبرية ولا إنشائية. لذلك يجوز لنا أن نطلق عليها محيرّة أو مفارقة.
ويُعتقد بأنّ أول من أثار مثل هذه المحيّرات هو ابيمندس Epimenides (من جزيرة كريت) في القرن السادس قبل الميلاد إذ يقول “إنّ جميع الكريتيين يكذبون دائماً”. وبالمحاكمة نفسها نجد أنفسنا أمام جملة لا نستطيع تقرير صدقها أو كذبها، لأنّ قائلها كريتي. فإذا افترضنا أنّ ما يقوله صادق، أي أنّ جميع الكريتيين يكذبون دائماً، إذاً هو كاذب طالما أنّه كريتي. ومن ثمّ فإنّ قوله غير صحيح، وهذا يناقض ما افترضناه من أنّ ماقاله صدق. وإذا افترضنا أنّ ما يقوله كذب فسنحصل بالمحاكمة نفسها على تناقض. ومن ثمّ فهي محيّرة من النوع المشار إليه آنفاً. لأنّ هذا الكلام ليس إنشائياً (وفق تعريف الجملة الإنشائية)، وليس خبرياً وفق ما بينّاه اعتماداً على قول المبرِّد: “الخبر ما جاز على قائله التصديق والتكذيب”. كذلك يقول الدكتور محمد أبو موسى: (وخلاصة ذلك أنّ الجملة الخبرية يكون القصد منها إفادة أنّ محتواها سواء أكان ثابتاً أو نفياً له واقع خارج العبارة يطابق هذا المحتوى فنَصِفُ الكلامَ بالصدق، أو لا يطابقه فنَصِفُ الكلامَ بالكذب) (13). وبالعودة إلى مثال الكريتي، نجد أننا لا نستطيع تقرير ما إذا كان الواقع خارج العبارة يطابق المحتوى، أو لا يطابقه، كي نستطيع وصف الكلام بالصدق، أو بالكذب، طالما أنّ القائل كريتي. وتعرف مثل هذه المحيرات في أدبيات المنطق الرياضي والمنطق الفلسفي بـ “محيرة الكذاب” Liar Paradox، أو بمحيرة ابيميندس. وفي سنة 1901 م طرح الفيلسوف والمنطقي الإنكليزي برتراند رسل محيرة أخرى مكافئة منطقياً لمحيرة الكذاب، يقول فيها “إنّ حلاق القرية يحلق لجميع رجال القرية الذين لا يحلقون لأنفسهم”. وبالمحاكمة السابقة نفسها لا نستطيع أن نقرّر صدق هذا القول أو كذبه، لأنّ الحلاق أحد أفراد القرية. وخلاصة القول أننا نجد أنفسنا في كل الأمثلة الواردة آنفاً في حالة صدام مع قانون “عدم التناقض”،Law of Non-contradiction، وهو أحد قوانين الفكر الأساسية، أو ما يطلق عليه أحياناً “مبدأ عدم التناقض”، وهو أحد المبادئ العامة للمنطق الاستدلالي. وهذه المبادئ هي القواعد التي يجب أن يلتزمها التفكير في استدلاله، كي يتجنب الوقوع في الخطأ. وينص هذا القانون (المبدأ) على أنّ: “ق ليست لا ق”، أو بعبارة أخرى “القضية ق ليست نفي ق”. أي لا يمكن أن تكون القضية ق ونفي ق في آن واحد. ويعني هذا أنّ النقيضين لا يصدقان معاً. فإذا أثبتنا صحة قضية فلا يمكن أن ننفيها في الوقت نفسه (14). ومن الجدير بالذكر أن المناطقة يميزون بين المتناقضين والضدين. والنقيض نفي للقضية، في حين أنّ الضد مقابلها. فإذا قلنا: “كل كريتي يكذب”، كان نفيها “ليس صحيحاً أنّ كل كريتي يكذب”؛ بمعنى أنّ ثمّة كريتيين لا يكذبون. في حين أنّ ضدها هو “لا يوجد كريتي يكذب”.
وصفوة الكلام أنّه لا يمكن تحقق الجملة وعدم تحققها على نحو متزامن وفق ما يقتضيه قانون عــــدم التناقض. والخيـــــــار الوحيــــــد الذي لامناص منه – من وجهة نظر المنطــــق، لا اللغة – هو أنّ تلك “الجمل” ليست جملاً. وإذا أمعنا النظر في تلك “الجمل” نجد أنّ الخلل يكمن – باختصار – في أنّ هذه الجمل تُنسب لنفسها. بمعنى آخر، لا يصح لأي مجموعة من الأشياء، أن تتضمن عناصر، لا يمكن تعريفها إلا اعتماداً على المجموعة نفسها، أو أن تتضمن عناصر تستخدم هذه المجموعة أو تفرضها مسبقاً. ويعتقد بأن أول من أشار إلى طبيعة هذا الخلل في أدبيات المنطق هو الفيلسوف والرياضي الفرنسي هنري بوانكاريه. فالقائل يصرِّح أنّه يكذب، أي وضع نفسه ضمن عداد الكذابين، ونحن نتساءل عن صدقه وكذبه، والكريتي يتحدث عن الكريتيين وهو منهم؛ والحلاق يحلق لجميع أفراد القرية وهو فرد منهم.
هذا وبعد معرفتنا سبب الخلل نستطيع توليد عديد من الأمثلة (المحيرات) على ذلك النحو.لنأخذ، مثلاً، العبارة المعروفة “لكل قاعدة استثناء”، نجد أنّ هذه الجملة هي في نفسها قاعدة . فإذا طبقناها – كقاعدة – على نفسها فيجب أن يكون لها استثناء. ومن ثمّ لا يصح أن نعمم ونقول “لكل” قاعدة استثناء، لذلك فنحن أمام محيرة أخرى من النمط السابق نفسه. وسبب ذلك هو أنّ القول يتحدث عن القواعد وهو “قاعدة” في نفسه.
وهذه الأنواع من الجمل تثير عديداً من القضايا الطريفة، فمثلاً – على سبيل الذكر لا الحصر – عندما تقول “إسرائيل” للعرب: “إنّ كل شيء قابل للتفاوض، ولا يحق لأي طرف أن يضع شروطاً سابقة للتفاوض؛ فهي بذلك قد وضعت شرطاً مسبقاً للتفاوض وهو أنّه: لا يحق لأي طرف أن يضع شرطاً سابقاً، على الرغم من أنّها أحد الأطراف. وهي بذلك قد أوقعت نفسها في مطب التناقض الذاتي. ومثال آخر على بعض الجمل التي تثير قضايا طريفة القول المعروف: “التعميم لغة الحمقى”. وما يقوم به قائل هذا القول في واقع الأمر هو “التعميم”. لأنّه عندما يعد أنّ “التعميم لغة الحمقى”، فهو بذلك يضع قاعدة عامة مفادها أنّ لغة الحمقى هي التعميم. وهو بذلك يعمم من غير أن يشعر بذلك!.
بيـد أنّ المحيرات (الجمل) السابقة من وجهـة نظر اللغة – وهو ما يعنينا في المقام الأول – تعد جملاً وفق تعريف اللغويين العرب القدامى. وهي جمل من وجهة نظر علم اللسانيات، إذ تُعَرّف الجملة على أنّها وحدة كلامية مستقلة يمكن لحظها عبر السكوت الذي يحدها. فالألسني الأمريكي هاريز Z. Harris يعرّف الجملة على أنّها: “مقطع من التكلم يقوم به شخص واحد حيث قبله وبعده يوجد سكوت (من قبل الشخص)” (15).
هذا ويشخّص بعض الرياضيين المحيرات المنطقية والرياضية على أنّها حقيقة تقف على رأسها كي تجذب الانتباه إليها. والحال نفسه ينطبق على المحيرات اللغوية التي تأتي نتيجةً لرؤيتنا المنطقية للغة. ولتوضيح ما نعنيه نذكّر بأنّ للكلمة معناها اللغوي المعجمي، ومعناها اللغوي السياقي. يحدّد المعنى الأول المعجم، وهو جامد. ويحدد المعنى الثاني السياق، وهو متحرك في فضاء المعنى، ومتلون وفقاً لذلك. بيد أنّ للجملة – باعتبـــــارها تركيبــاً من عدة كلمات – معنى ثالثاً، هو المعنى اللغوي المنطقي. وهذا ما أشرنا إليه من خلال ما تثيره المحيرات باعتبارها جملاً لغوية. ويستدعي هذا، الوقوف عند تلك المحيرات، لمحاولة إيجاد مخرج لها. وطريقة المعالجة لغوياً ستختلف عن طريقة المعالجة منطقياً. بل إنّه من الصعب اقتفاء أثر المنطق في طريقة معالجته. فمثلاً، يصعب تبني ما قاله بوانكاريه في تشخيص سبب محيرة الكذاب، في معالجة المحيرات لغوياً، كأن نقول: ” إنّ الكلام الذي يحوي مفردات لا يمكن تعريفها إلا اعتماداً على الكلام نفسه هو ليس جملة”. بل إنّ هذا الكلام عارٍ من أي معنى، حتى من وجهة نظر المنطق. لأنّ اللغة، وعلى خلاف الرياضيات البحتة، لا يمكن أن تبنى كمنظومة منطقية انطلاقاً من مجموعة من المسلمات، وباستخدام مجموعة من الكلمات الأولية، غير القابلة للتعريف، المفروضة مسبقاً. وقد يكون الحل الأمثل، والأسهل، كامناً في إعادة النظر في تقسيم الكلام في اللغة العربية، بحيث يصبح موزعاً بين ثلاثة أنواع: خبر، وإنشاء، ونوع ثالث غير قابل للبت. ويتضمن هذا النوع الثالث الجمل التي ليست خبراً، ولا إنشاء، كما هو الحال في الجمل (المحيرات) المشار لها آنفاً. وهذا يستدعي إعادة تحديد أنواع الجملة الإنشائية وحصرها تماماً. لأنّه من المعروف أنّ مايضبط الجملة الخبرية هو احتمال صدقها أو كذبها، والجملة الإنشائية تكون خلاف ذلك، أي أنّها لا تحتمل الصدق والكذب. وهذا المعيار وحده غير كاف في تحديد الجملة الإنشائية. لأنّه إذا ابتدأنا في تحديد ماهية جملة ما بتطبيق معيار الصدق والكذب عليها – وهذا ما نقوم به الآن -، فإننا لم نعد نستطيع، بعد فشل هذا المعيار، أن نقرّر آلياً، أنّ هذه الجملة إنشائية. لذلك لا مناص من تحديد أنواع الجمل الإنشائية، كي يكون هذا التحديد الفيصل في الحكم على أنّ جملة ما يجب أن تكون من النوع الثالث غير القابل للبت. ولا بد من أن نقلع عن قولنا المعروف بوصف جملة ما إنّها إنشائية بسبب عدم كونها خبرية. وكقاعدة عامة مُساعدة في تحديد هذا النوع الثالث من الجمل هي أنّها تتصف بما يسمى “النسبة الذاتية” self-reference، أي أنّها عبارات تنسب لنفسها. بيد أنّ العكس غير صحيح بالضرورة؛ أي أنّ هناك جملاً تتصف بالنسبة الذاتية على الرغم من أنّها إنشاء، مثل جملة: “هل هذا سؤال؟”، أو جملة: “لا تقرأ هذه”. وأكثر ما ترد هذه الجمل في الرياضيات، والفلسفة، وبرمجة الحاسوب، واللسانيات. ويمكن أن تقود هذه إلى المحيِّرات.
هذا ومن الجدير بالذكر أنّ اللغات العالمية الأخرى، ومنها اللغة الإنكليزية، على سبيل الذكر لا الحصر، لم تتأثر بالمحيرات المنطقية. أي لم يكن ثمّة إسقاطات مباشرة لمحيرات المنطق على نسيجها اللغوي. وسبب ذلك، كما يبدو، أنّ تلك اللغات لا تعرف تقسيم الكلام إلى ثنائية الخبر والإنشاء، كما هو موجود في اللسان العربي.
إنّ ما قمنا به، في الحقيقة، ليس تطبيقاً لمعايير منطقية – بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة – على اللغة العربية؛ بل كان محاكاة لروح المنطق على الصعيد اللغوي، ومرجعيتنا في ذلك علم المعاني في اللغة العربية. على الرغم من أنّ هذه الدراسة قد تكون خطوة على طريق ترييض (نسبة إلى الرياضيات) اللغة إن جاز التعبير. وقد يعترض بعضهم على ذلك بحجة أنّ اللغة تختلف كلياً عن الرياضيات، إذ إنّ هذه الأخيرة تتعامل مع أعداد، ومعادلات، وأشكال هندسية، وغير ذلك من الكائنات الرياضية. نافياً بذلك وجود أي علاقة بين الرياضيات واللغة. بيد أنّ واقع الحال غير ذلك فإنّ الرياضيات ليست رموزاً، وأشكالاً هندسية، فحسب، بل إنّها أكثر من ذلك بكثير. ولهذا يقول بعضهم إنّ رياضيات أي عصر تعد مؤشراً جيداً لثقافة ذلك العصر. إنّها منهج للتفكير، وأداة سبر، لا غنى عنها في عديد من جوانب اللغة والفكر. لذلك يقول الرياضي البريطاني هاردي (إنّ الرياضيات البحتة هي دراسة كيف يجب أن يفكر الإنسان كي يحصل على نتائج صحيحة، وهي لا تأخذ في الحسبان الضعف الإنساني). كما يقول الرياضي البريطاني المعاصر Ian Stewart ( -1945) (الأستاذ في جامعة Warwick) (إنّ الرياضيات أكثر طريقة فعالة وموثوقة نعرفها حتى الآن من أجل فهم ما نراه حولنا). ولهذا من الممكن أن تضطلع الرياضيات بمهمة ترييض الفكر. وما نعنيه – ببساطة – هو استخدام الرياضيات، في التعبير عن بعض المسائل الفكرية، واللغوية، بغية تحليلها لاستنباط حلولها المثلى إن أمكن ذلك (16). وفضلاً عن كل ما تقدم فإنّ المنهج الرياضي في التفكير اقتصادي في طبيعته، وهذا هو هدف العلم بعينه، إذ العلم، كما يصفه بعضهم، اقتصاد في التفكير.
وأخيراً لا بد من الإشارة إلى أنّ هذه الدراسة ليست أكثر من محاولة متواضعة لتسهيل معالجة اللغة آلياً. لأنّه من المعروف الآن، وبعد دخول الحاسوب (الكمبيوتر) في نسيج الحياة المعاصرة، أنّ ثمة اهتماماً كبيراً في معالجة اللغة آلياً وفي الترجمة الآلية. وهذا يستلزم تطويع أجزاء كبيرة من اللغة لعلم المنطق الحديث.
الحواشي:
(1) مجلة “عالم الفكر”، مج 28، العدد الثالث – يناير/مارس 2000، الصفحات 28 – 9.
(2) لمزيد من المعلومات انظر المرجع السابق.
(3) لمزيد من المعلومات انظر “المنطق وفلسفة العلوم” بول موى، ترجمة د. فؤاد حسن زكريا، مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع (الكويت)، 1401 هـ – 1981 م.
(4) لمزيد من المعلومات حول هذا الموضوع انظر “الرياضيات منهجاً للتفكير” للكاتب، مجلة “التعريب”، المركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف النشر (دمشق)، العدد 22، كانون الأول 2001.
(5) “الخصائص”، ابن جني، تحقيق محمد علي النجار، دار الهدى للطباعة و النشر (بيروت)، ط 2، الجزء الأول، الصفحة 18.
(6) انظر مثلاً: “جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع”، أحمد الهاشمي، دار إحياء التراث العربي (بيروت) ، ط 12.
(7) “جمالية الخبر والإنشاء”، د. حسين جمعة، اتحاد الكتاب العرب (دمشق) ، 2005،الصفحة 29.
(8) “الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها”، ابن فارس، طبعة مصطفى الشويمي (بيروت) ، 1964.
(9) “الإيضاح في علوم البلاغة”، القزويني، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية (بيروت).
(10) انظر “مفتاح العلوم”، تأليف أبي يعقوب السّكاكي، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية (بيروت) ، الصفحة 251.
(11) انظر مثلاً “شروح شذور الذهب في معرفة كلام العرب”، ابن هشام الأنصاري، المكتبة التجارية الكبرى (مصر)، 1358 هـ – 1965 م، الطبعة العاشرة، الصفحة 31.
(12) “أو” تحمل هنا معنى التخيير، وقبل ما يمتنع فيه الجمع نحو تزوج هنداً أو أختها.
(13) “دلالات التراكيب – دراسة بلاغية”،د. محمد محمد أبو موسى، مكتبة وهبة (مصر)، ط2 ، 1987، الصفحة 185.
(14) القوانين الأساسية للفكر ثلاثة: 1- قانون الهوية (الذاتية): وينص على أنّ “ق هي ق” ؛ 2- قانون عدم التناقض المشار إليه آنفاً؛ 3- قانون الثالث المرفوع: وينص على أنّ “القضية إما ق أو نفي ق ولا وسط بين ذلك”، أي ليس ثمة وسط (ثالث) بين ق ونفي ق”.
(15) “الألسنية التوليدية والتحويلية وقواعد اللغة العربية”، د. ميشال زكريا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع (بيروت)، الصفحة 24. (16) لمزيد من المعلومات انظر “الرياضيات منهجاً للتفكير ” للكاتب، مجلة “التعريب”، المركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر (دمشق)، العدد 22، كانون الأول 2001.
هل معنى البديهية بديهي ؟
كثيراً ما نستخدم في حديثنا اليومي وفي أدبياتنا كلمة “بديهية” لوصف صحة قضية فكرية, أو مبدأ عام, أو عُرف على نحو مطلق غير قابل للمناقشة. وتكمن خطورة هذه الكلمة في أنها خلقت مفهوماً, أو وضعاً لغوياً, وفكرياً, ونفسياً, مضللاً, وغير موجود في كثير من الأحيان. فهذه الكلمة أصبحت تحمل في ثناياها صفتي الإطلاق والشمول. حتى أن بعض الكتب الفلسفية العربية تشير إلى أن البديهية جزء من العقل. وهذا ما يعبِّر عنه بعضهم بقوله : “إن البديهية قضيةٌ واضحةٌ ولا تحتاج إلى إثبات”. والمشكلة – ببساطة -هي أننا استعرنا كلمة من اللغة العربية لها معنىً محدداً لتشير إلى شيء غير موجود في كثير من الأحيان. والبديهية (لغوياً) في المحيط (الفيروز أبادي) : “أولُ كل شيء وما يفجأ منه … ولك البديهية أي لك أن تبدأ”. وفي الصحاح (تجديد صحاح العلامة الجوهري) نجد في مادة بده – البدُاهة : ” أول جري الفرس … وبادَهَه : فاجأه … والاسم البداهة والبديهة”. كما نجد في المعجم نفسه (وهي إضافة حديثة) : “axiom المبدأ (اصطلاحاً) ما يسلم به, لأنه واضح بذاته ولا يحتاج إلى برهان بل تقوم عليه البرهنة, كالمبادئ العقلية والأوليات الضرورية, ومنه ما يستخدم في جميع العلوم, أو في علوم بعينها كمبادئ البرهنة الرياضية “. وربما هذه هي العقبة الكأداء في معظم حالات النقاش العقيم الذي يدورُ بين أكثر من طرف والتفاهم بينها. حيث يظن كل طرف أن “بديهياته” هي قضايا مطلقة الصحة وعلى الجميع التسليم بها. وهناك أقصوصة يخبرنا بها هيرودوت – أبو التاريخ – شائقة وإن كانت بشعة إلى حد ما, عن ملك الفرس “داريوس الأول” الذي أراد أن يلقن الإغريق المقيمين في إمبراطوريته درساً. وكان من عادة الإغريق أن يحرقوا موتاهم. ونقرأ في كتاب هيرودوت أن داريوس ” استدعى الإغريق الذين يعيشون في بلاده, و سألهم عن الثمن الذي يرتضونه كي يلتهموا آباءهم حين يتوفون. فأجابوه بأنه لا شيء البتة على ظهر الأرض يمكن أن يغريهم بفعل هذا. حينئذ استدعى داريوس الكالاتيين Callatians الذين يأكلون أبائهم بالفعل, وفي حضور الإغريق بمعونة من يترجم لهم, سأل الكالاتيين عن الثمن الذي قد يرتضونه لكي يحرقوا جثث آبائهم حين يتوفون. فكان أن تعالت صرخاتهم وناشدوه ألا يذكر مثل هذه الشناعة”(1) .وهذه الأقصوصة تدل على أن كل جماعة بشرية لها إطار ثقافي تفكر فيه, وكل إطار من هذه الأطر له مسلماته أو ثوابته, والتي يسميها بعضهم خطأً بديهيات. أي يجب التمييز بين أمرين مختلفين تماماً, الأول ما نسلم بصحته ونؤمن به, والثاني ما نبدأ منه لاعتبارات مختلفة, وليس من الضروري التسليم بصحته أو الإيمان به.
وقد بدأ استخدام كلمة “بديهية” على نطاق واسع في اللغة العربية بالمعنى الشائع الآن في النصف الأول من القرن العشرين مع ترجمة مجمع اللغة العربية في القاهرة لكلمة axiom على ذلك النحو. لأنها كانت قد ترجمت إلى اللغة العربية أول مرة بمعنى “أوليات” مع ترجمة كتاب الأصول Elements المعروف لإقليدس في الهندسة, وهي من وضع أرسطو(2) . وهذه كانت الإضافة في معناها التي طرأت على بعض المعاجم العربية بعيد ذلك إلى يومنا هذا, منها تجديد الصحاح المشار إليه آنفاً. بيد أنها كانت تستخدم, في التراث العربي الإسلامي, وعلى نطاق ضيق ,في كتابات المتكلمين المسلمين بمعنى أوليات, أي أنها في ذلك لم تغادر معناها اللغوي. منهم الإمام فخر الدين الرازي في كتابه “المباحث الشرقية” : “وكذلك نعلم بالبداهة أن مراتب الأعداد غير متناهية” (3).
ومنشأ هذا الخطأ هو أن بعضهم يظن بأن الرياضيات علمٌ “يقيني” مبنيٌ على جملة أمور ثابتة وراسخة وغير قابلة للمناقشة أو التعديل. فأوجدوا كلمةً تصف هذا الوضع. ثم شاع استخدامُها في المجالات الأخرى على نحو مجازي. ولكن تبين أن المعنى الحقيقي (الرياضي) لا وجود له فكيف بالمعنى المجازي؟ لأنه من المعروف أن الرياضيات – ببساطة – استنتاجاتٌ منطقية لقضايا جديدة من قضايا سبق إثباتُها, وهكذا دواليك. وفي النهاية فإنه دوماً لابد من وجود قضايا أولية تستنتج منها بقيةُ القضايا ولا تستنتج من شيء فيسلم بها وحدها دون برهان. بمعنى أنه ليس ثمة استدلالٌ دون وجود معطيات أوليةٌ. ومن ثم لبناء أي نظام رياضي لابد من وجود بداية أو قاعدة للانطلاق منها. وهذه البداية أضحت الآن (في الفكر الرياضي الحديث) تتألف من كلمات معينة غير قابلة للتعريف تسمى اللامعرفات (undefined terms) أو مفاهيم أولية (primitive terms), ومن قضايا أولية تسمى مسلمات, أو موضوعات, أو مصادرات, أو فرضيات أو اللامبرهنات. والمسلمة ,ببساطة, علاقة لا تستخرج من علاقة أخرى, أو من قضية (proposition), أو بصيغة أخرى هي بيان (statement) غير مثبت.
وقد شغلت مشكلة وضوح البديهيات أو الأوليات حيزاً كبيراً من اهتمام الفلاسفة قديماً, وأقضت مضاجع الكثيرين منهم. فما هو بديهي لشخص معين قد لا يكونُ بديهياً لشخص آخر. وإذا قلنا إن البديهي هو الذي يكون بديهي لقطاع واسع من البشر, فإن تاريخ العلم حافل بالأمثلة عن “حقائق دامغة” كان يعتقد بها هؤلاء ثم تبين أنها غيرُ صحيحة. من هذه الأمثلة عدم كروية الأرض, وأن مدارات الكواكب حول الشمس دائرية الشكل, والأجسام الثقيلة تسقط أسرع من تلك الخفيفة. والأكثر من ذلك فإن الناس – جُلَّهم إن لم يكن كُلَّهم – مابرحوا إلى يومنا هذا يعتقدون أن لكل سطح وجهين, مع أن الرياضي موبيس (A.F.Mobius) (1790-1868) بيّن منذ ما يزيد على قرن (في عام 1858م) أن ثمة سطوحاً أحادية الوجه, ولا وجود فيها لمفهومي “الداخل” و “الخارج” أو “الوجه” و “القفا”. كما أن هناك سطوحاً أخرى مغلقة مثل “زجاجة كلاين” نسبة إلى الرياضي كلاين (F.Klien) (1845-1925) ليس لها “داخل” أو “خارج”.
والبداية الفعلية لظهور إرهاصات التحول الكبير في الفكر الرياضي كانت في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي على يد الرياضي بولياي (J.Bolyai) (1802- 1860) ولا باشيفسكي (N.Lobachevski) (1793-1856) في عمليهما المتميز نحو عام 1830 والذي أصبح يُطلع عليه لاحقاً اسم الطريقة الموضوعاتية (axiomatic method) (نسبة إلى موضوعة) أو المقاربة الموضوعاتية في البناء الرياضي. فكل واحد منهما أوجد على حدة هندسته اللاإقليدية. وكان ذلك إيذاناً بالتحرر من السيطرة الإقليدية التي هيمنت ردحاً من الزمن دام نحو ألفي سنة. بل كان ذلك فتحاً علمياً أذن بولوج الفكر الرياضي في مرحلة جديدة. فقد استنتج لاباشيفسكي أن المصادرة الخامسة لإقليدس التي تسمى مصادرة التوازي (من نقطة خارج مستقيم يمكن رسم مواز واحد فقط) مستقلة عن المصادرات الأربعة الأخرى, وأن من الممكن وضع مصادرة مغايرة تماماً لها, ومع ذلك تبقى البنية الكلية للمصادرات الخمس الجديدة متسقة (consistent). والمصادرة التي وضعها في بنائه الجديد هي : “من نقطة خارج مستقيم معطى يوجد على الأقل مستقيمان يوازيان المستقيم المعطى”. ثم جاء الرياضي الألماني جورج فريدريك ريمان G.F.Riemann (1826-1866) وشكّل بناء هندسياً مختلفاً عن بناءي ,إقليدس ولابشيفسكي, ومصادرته تقول : “لا يوجد خط مستقيم يمكن رسمه من نقطة خارجة عن مستقيم معطى موازٍ لهذا المستقيم” .
ومن الجدير بالذكر أنه لم يعد ثمة وجود لكلمة “بديهية” – بالمعنى الشائع لها – في الفكر الرياضي الحديث, بل إن هذه الكلمة قد أضحت عاريةً عن أي معنى من وجهة نظر الرياضيات.كما أصبح من الصعب الآن الحكم على “صحة” مسلمات نظام رياضي, بل إن بعضهم يعد هذا السؤال بحد ذاته ليس له معنى. لأن أي نظام رياضي يبنى على مجموعة من المسلمات يعد مقبولاً إذا كان متسقاً منطقياً. بمعنى أن لا تفضي هذه المسلمات إلى مبرهنة (نظرية) ونقيضها في آن واحد. فلم يعد مطلوباً من المسلمات أو من نتائج المبرهنات أن تكون متسقة مع مفهومنا الشخصي للحقيقة. فبعض المسلمات تبدو صحيحة, وبعضها غير ذلك, وبعضها الآخر يبدو أنه حتى من الصعب الحكم على صحتها أو خطأها. وبالحقيقة فإن “الانسجام” أو “الاتساق” وليس “الحقيقة” هو مفتاح الفكر الرياضي الحديث. بل إن المسلمات في الرياضيات الحديثة أبعد ما تكون عن الوضوح. والمهم جداً هنا هو أن يكون هذا النظام “مفيداً” . فالفوائد التي جنيناها من كل من هندسة إقليدس ولاباشيفسكي وريمان لا يختلف عليها اثنان, ولكن لكل نظام مجاله وتطبيقاته. ومع نهاية القرن التاسع عشر الميلادي شرع الرياضيون في المطابقة بين “موضوعة” و “مسلمة” و “فرضية” (assumption) و “مصادرة” (postulate). وأصبحت تعد كل هذه الكلمات مترادفة رياضياً. ويعد عام 1936م هو لحظة الفصل في عملية المطابقة تلك من خلال بحث نشر في حينها تضمّن كل تلك الجهود. وقد برر بعضهم طغيان كلمة (axiom) في الأدبيات الرياضية المعاصرة أكثر من كلمة (postulate) لسهولة الاشتقاق منها في اللغات الأوروبية الحديثة من إنكليزية وفرنسية على خلاف الكلمة الثانية.
وإذا عدنا إلى رؤية محمد عابد الجابري حول دور النظام البياني في تكوين العقل العربي وقولبته فإننا نجد أن هذه “التوسعة” في المعنى, التي أضافها مجمع اللغة العربية في القاهرة, كان لها تأثير بيّن وكبير على حياتنا الثقافية والفكرية, وربما كانت هذه التوسعة هي “البديهية” التي بني عليها معظم الجدل والاختلافات الدائرة في ساحتنا الثقافية العربية. أي أن معناها الموسع أضحى ذاته “بديهية” ولذلك استغرقنا في إيماننا بها ! وصفوة الكلام أن أكثر العلوم موضوعية ودقة (الرياضيات) قامت على “التسليم” بمجموعة من المسلمات. وما تبقى يشتق من هذه المسلمات, أو بالأحرى يستنتج منطقياً منها. وهذا ليس عيباً في النظام الرياضي, بل إن هذا أهم ما يمتاز به عن غيره كعلم منطقي. ولابد من الإشارة إلى أن طول الفترة التي استغرقتها عملية النضوج اللغوية-الفكرية تلك, وإدراكها على نحو واضح ,و مبلور, يعزى إلى طبيعة التجربة الفكرية المتعلقة بذلك. كما أنه مؤشر على الطبيعة المضنية لتلك التجربة التي استمرت حوالي ألفي سنة. يقول عالم النفس الأمريكي إرك فروم Eric Fromm (1900- 1980) : “ينبغي أن نعلم أن كثيراً من التجارب لا تمنح نفسها بسهولة. بحيث يتم تصورها في الإدراك”(4). إن الأحاسيس المتعلقة ببقاء الفرد أو الجماعة, كالجوع و الخوف, يمكن تصورها على نحو واع وبسهولة, أما حين يتعلق الأمر بتجربة أكثر دقة أو تعقيداً فإن التجربة لا تصل إلى الإدراك في العادة لأنها ليست مهمة بما يكفي لأن تجذب الانتباه(5).
وأخيراً مما تقدم نستنتج أنه لا يجب ولا يمكن استخدام كلمة “بديهية” بمعنى “واضح” أو “معقول” , أو أي كلمة أخرى ذات مدلول قريب. لأنه وبغض النظر عن أن بعض اللغويين ينكرون الترادف في اللغة العربية, فإن ما نقصده من استخدامها الخاطئ المتداول حالياً لا يقارب معاني تلك الكلمات. لهذا يجب الكف عن استخدامها في كل المجالات والاقتصار على إحدى الكلمات : موضوعة أو مسلمة أو مصادرة, وأن تعود هذه اللفظة إلى فضائها الأصلي بمعنى “الأوليات”.
وفي الختام لابد من التذكير بعنوان هذه الدراسة, التي نحن بصددها الآن, وهو “هل معنى بديهية بديهي؟ “. ونترك الإجابة على هذا السؤال إلى القارئ الكريم في ضوء الدراسة المعنونة ب “الكلام بين الخبر والإنشاء من منظور رياضي – منطقي” من هذا الكتاب.
الحواشي :
(1) ” أسطورة الإطار” كارل ر.بوبر, ترجمة : يمنى طريف الخولي, عالم المعرفة (الكويت), 2003, الصفحة 62.
(2) ” هندسة إقليدس في أيد عربية” , أحمد سليم سعيدان, دار البشير (عمان) , 1991, الصفحة 13.
(3) ” المباحث المشرقية” ,فخر الدين الرازي, مجلس دائرة المعارف, حيدر آباد, 1343ه , الصفحة 201.
(4) انظر مجلة المعرفة, وزارة الثقافة (السورية), العدد 430 (1999), الصفحة 116.
(5) المزيد من المعلومات انظر المرجع السابق.
الثنائيات اللغوية و المنطق
إن علاقة المنطق باللغة قديمة العهد, بل إن كلمة “لوجوس” Logos التي اشتق منها اسم المنطق في اليونانية, تعبر أصلاً عن اللغة. والمنطق في اللغة العربية هو الكلام وعند الفلاسفة – وفق تعريف الجرجاني- “آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن من الخطأ في الفكر”. وبعض الفلاسفة يعرّفه على أنه فن التفكير. ولهذا نجد أن اللغة تتبوأ موقعاً مرموقاً في الفكر الإنساني. وقد انشغل الباحثون في تحديد دور اللغة في تشكيل الفكر أو في عملية التفكير. أي هل هناك فكر أو تفكير من دون اللغة؟ أو هل اللغة هي التي تحدد إطار الفكر؟
وما يهمنا الآن هو علاقة الثنائيات اللغوية بالمنطق ومدى تأثير تطور المنطق الحديث على تفكيرنا وعلى لغتنا. وعلى الرغم مما أشرنا له من أهمية اللغة في التفكير الإنساني إلا أنها تحمل في طياتها الكثير من التضليل والزيف نتيجةً لما تحفل به من ثنائيات متضادة مثل (الكبير والصغير, الخير والشر, الفضيلة والرذيلة, …). وأول من أشار إلى هذا الزيف هو الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه. وهذا التضاد اللغوي الحاد غالباً ينافي الواقع. ولهذا نجد أن اللغة, أي لغة, قد ورّثت فينا منهجاً خاطئاً في التفكير. والأكثر من ذلك فإنه (أي التضاد اللغوي) كثيراً ما يصطدم مع الطبيعة البشرية. لأن كل ما هو إنساني من خير وشر وحب وكره وجمال وقبح… لا يمكن الحديث عنه بحدية أو تطرف. وربما هذه هي طريقة الكسالى المختصرة في فهم الواقع والتعبير عنه, ولذلك نجد أن أحكام هؤلاء غالباً ما تكون مطلقة وتعسفية في طبيعتها. وقد تكون ثنائيات اللغة السبب في أن قيم الحقيقة في المنطق الصوري ثنائية. وهذا صحيح حتى في المنطق الرياضي في مراحله الأولى. لأنه من المعروف أن القضايا الصحيحة (الصادقة) تأخذ القيمة واحد, والقضايا الخاطئة (الكاذبة) تأخذ القيمة صفر, ولا وسط بين ذلك. وهذا التفكير ثنائي القيمة -إن جاز التعبير- طبع تفكير الكثيرين منها بمنهجه, ومازال تأثيره إلى يومنا هذا, على الرغم من قدمه وعدم تعبيره عن الواقع. لأن جُلّ الظواهر في هذه الحياة ليست كذلك. بمعنى أنه ليس سهلاً في كثير من الحالات, إصدار حكم مطلق على صحة قضية أو خطئها. فإذا كانت الشمس ساطعة في مكانين متباعدين فليس من الضروري أن تكون درجة السطوع واحدة في كلا المكانين, أي أن عبارة “الشمس ساطعة” ليست كافية لوحدها للتعبير عن درجة سطوع الشمس في كلا المكانين ؛ بل لابد من القول إنها ثلث ساطعة أو ربع ساطعة أو غير ذلك من النسبة المئوية بما يوافق الحالة المعنية. وهذا ما أدى إلى ولادة منطق تكون قيم الحقيقة فيه متعددة, بل ولا نهائية. من ذلك المنطق العائم (الضبابي) Fuzzy Logic. ففي هذا المنطق تكون قيم الحقيقة مساويةً لأية قيمة بين الصفر والواحد بما في ذلك الصفر والواحد نفسيهما, أي أن ثمة عدداً لانهائياً من القيم. فلا لوجود بياض نقي, أو سواد نقي في الواقع وهذا ينطبق على كثير من الظواهر الحياتية. ومن فائدة ذلك في الإطار الاجتماعي أو السياسي (كمنهج في التفكير) أنه من الخطأ الجسيم القول : “إن من ليس معي فهو ضدي”. والقائل يفترض هنا ثنائية الصفر والواحد في العلاقات الاجتماعية أو السياسية. ويقصد بذلك إما أن يكون معي فهو واحد (يأخذ القيمة واحد) بالنسبة إلي, أو أن يكون ضدي فهو صفر (يأخذ القيمة صفر). بيد أن واقع الحال قد يكون غير ذلك في أغلب الأحيان. لأن الواحد قد يكون حاصل جمع 2/1 و 2/1 أو 4/1 و 4/3 أو غير ذلك. بمعنى أنه قد يكون معي 4/1 وضدي 4/3 .. شيء غير مألوف! وفي هذا الإطار يمكن أن نفهم مبرر قول معاوية بن أبي سفيان : “ولو أن بيني وبين الناس شعرةً ما انقطعت. إذا مدوها خليتها, وإذا خلوها مددتُها”.
ومن وحي هذا المنطق المتعدد القيم نستطيع القول إن المعصية لا تنفي أصل الإيمان, ولكنها تحول دون بلوغ كماله. فلا وجود لأنبياء أو شياطين بين ظهرانينا. ونحن معشر البشر حالة متوسطة بين الأنبياء (ذي القيمة واحد بالنسبة للخير) والشياطين (ذي القيمة صفر) إن جاز التعبير. أو أكثر دقة فإننا حالة تنوس بين الأنبياء والشياطين مع الاعتراف بتفاوت القيم الفردية بين الأشخاص (وفق نسبة الخير والشر). ولكن هذه القيمة لا تبلغ الواحد ولا الصفر.
ومن تطبيقاته أيضاً أنه من غير الصواب اعتماد مبدأ الصح والخطأ فقط في الامتحان, وأعني بذلك أن ليس دوماً هناك مسألة صحيحة تماماً أو خاطئة تماماً.
وإذا سلمنا بما يقوله البنيويون في مجال الأدب واللسانيات من أن : “اللغة هي السجن الذي يعزلنا عن الواقع(1)” ,لذلك فإنه لابد, على الأقل, الوعي بطبيعة هذه المشكلة التي تخلقها اللغة عند معظمنا دون أن نشعر بها. ومن ثم فإنه لابد من التحرر و الانعتاق من سلطة هذه الثنائيات اللغوية, وعدم الوقوع تحت مفاعيل سلطانها, بعد معرفتنا بأنها لا تعبّر حقيقة عن الواقع, ولا عما قد يجول في نفوسنا أو نفوس غيرنا. ويجب أن لا يفهم من ذلك أن يكون المنطق أو الرياضيات قيداً على ألسنتنا, ومعياراً للتحكم في لغتنا. بل إن هذه الدراسة تبين أن دورهما, في هذا السياق, هو في توضيح ما يمكن أن يؤول إليه التفكير الإنساني المعاصر مع اكتشاف آليات المنطق العائم (المتعدد القيم), ومدى تأثير ذلك على مختلف الحقول المعرفية الإنسانية, وخاصة على الجانب اللغوي, باعتبار أن اللغة من أهم الظواهر الإنسانية, لأنها من أهم الملكات التي تميز الإنسان. فضلاً عن ذلك فإذا سلمنا مع من يقول بأن “اللغة مرآة العقل”, فيجب أن تعبّر اللغة عن مظاهر هذا التفكير المعاصر. وخاصة بعد أن اتضح أكثر من ذي قبل أن معظم ظواهر الحياة تخضع تقريباً للتدرج (ربما باستثناء الموت)؛ لذلك لابد من ترافق ذلك بتدرج كمي يعبّر عن تدرج تلك الظواهر الحياتية. وهذا هو عين مبرر وجود “التفكير العائم” بمعناه الاصطلاحي, الذي أضحى يطبع عديد من العلوم. حتى إن نظرية المجموعات التي أصبحت تدخل في أساسيات معظم فروع الرياضيات قد تأثرت في ذلك, وأصبح هناك نظرية المجموعات العائمة Fuzzy Set Theory. وللتوضيح نشير إلى أنه في هذا الإطار لم يعد هناك معنى لقولنا إن عنصراً (عضواً) ما ينتمي إلى مجموعة معينة, بل إن هذه العبارة أضحت غير كافية. ولتوضيح ما نعنيه بذلك فإن ما يميز نظرية المجموعات المألوفة هو أن عنصرا ما إما أن ينتمي إلى مجموعة ما أو لا ينتمي إليها, ولا حالة وسط بين ذلك. ويمكن أن نعبر عن ذلك بان الانتماء يُعبَّر عنه بالعدد واحد, وعدم الانتماء بالصفر. في حين في نظرية المجموعات العائمة هناك درجة للانتماء لهذه المجموعة تخص كل عنصر. أي أن هناك درجة لعضوية هذا العنصر في المجموعة. فإذا أخذنا, مثلاً, مجموعة المشاهير في مجال معين, أو مجموعة المتفوقين, أو غير ذلك, فإن هناك درجة للانتماء إلى هذه المجموعات نتيجة للتفاوت بين أعضائها في الخاصة التي تميز هذه المجموعة أو تلك. وهي قيمة قد تكون بين الصفر والواحد, وليس من الضروري أن تساوي الصفر أو الواحد حصراً كما هو الحال في نظرية المجموعات المألوفة.
وباختصار فإن المنطق ولد من رحم اللغة, وربما كان الهدف الأصلي منه للتخلص من عيوب اللغة, أي لغة. لذلك كانت قيم الحقيقة في المنطق الصوري تعبيراً عن الثنائيات اللغوية, لأن القضية المنطقية تعبير عن الجملة الخبرية في اللغة أو نظيرة لها. بيد أنه الآن, ومع تطور المنطق نفسه أصبح ثمة عدداً لا نهائياً من قيم الحقيقة, لذلك فلابد من العودة مرة أخرى إلى حضن اللغة لإعادة النظر في مفهوم الثنائيات اللغوية. لأن هناك تناظراً كبيراً بين اللغة و أساسيات المنطق وكل منهما يؤثر في الآخر.
وفي الختام لابد من الإشارة إلى أننا في هذا الإطار نثير المشكلة أكثر مما نقدم حلولاً لها, لأن هذا من مهام اللغويين وليست من مهمة الرياضيات. لأن ما قامت به الرياضيات هو أنها وسّعت من مجال رؤيتنا, وبلورت إدراكنا على المستوى الفكري والعملي بضرورة إعادة النظر بإحدى الظواهر اللغوية نتيجة لما تتسم به من قصور وظيفي. والفكر هنا كان مستقلاً عن اللغة, بل وسابقاً لها, وهذا ممكن, لأنه من وجهة نظر عالم النفس السويسري جان بياجيه Jean Piaget (1896- 1980) : “فإن التطور الفكري يحدث بمعزل عن اللغة(2)“. وقد تكون هذه المهمة صعبة ومؤلمة للغويين, إلا أنها أضحت ضرورة حتمية نتيجة ما يطرأ على الفكر الإنساني بفعل التطورات العلمية المعاصرة, ولابد من أن نبتدع طريقاً جديدأ للفهم وفق ما يقول فيلسوف العلم الفرنسي المعاصر رولان أومنيس : “في صميم الواقع ثمة طغيان عجيب للتجريد, للصورية, ليس هناك إلا ترياق واحد وحيد للبرء من كل هذا : أن نبتدع طريقاً جديداً للفهم(3)“.
الحواشي :
(1) “النظرية الأدبية الحديثة” , آن جفرسون وديفيد روبي, ترجمة : سمير مسعود, وزارة الثقافة (السورية), 1992, الصفحة 144. كذلك من القائلين بذلك فيلسوف العلم كارل بوبر Karl R.Popper في كتابه “أسطورة الإطار”, ترجمة : يمنى طريف الخولي, عالم المعرفة (الكويت), 2003, الصفحة 90.
(2) “اللغة والهوية” , جون جوزيف, ترجمة : عبد النور خراقي, عالم المعرفة (الكويت), 2007, الصفحة 30.
(3) “فلسفة الكوانتم”, رولان أومنيس, ترجمة : أحمد فؤاد باشا و يمنى طريف الخولي, عالم المعرفة (الكويت), 2008, الصفحة 120.
الرقم والعدد بين اللغة والرياضيات
نلاحظ أنّ ثمة خلطاً كبيراً عند شريحة واسعة من الناس بين الرقم والعدد. وقد يخال البعض أنّهما كلمتان مترادفتان، وكلتاهما تعنيان العدد، أي عدد. لذلك نجد أنّ أدبياتنا تحفل ببعض التعابير الشائعة غير الصحيحة من الناحيتين اللغوية والرياضية. وللوقوف على طبيعة هذه الأخطاء، ومنشأ الخلل في ذلك، لا بد من دراسة الموضوع من الجانبين اللغوي والرياضي.
“الرقم والعدد” لغوياً
وبالعودة إلى أمّهات الكتب اللغوية نجد في(لسان العرب) لابن منظور: (العَدُّ: إحصاء الشيء، عَدَّه يَعُدُّه عَدَّا. والعَدَدُ: مقدار ما يُعَدُّ ومَبْلَغُه، والجمع أعداد). كذلك نجد: (الرَّقَمْ والتَّرقيم: تعجيم الكتاب. وكتاب مَرْقوم أي قد بُيِّنت حروفه بعلاماتها من التنقيط، والرَّقم: الكتابة والختم).
وفي (القاموس المحيط) للفيروز آبادي نجد أنّ: (رقم: كتب والكتاب أعجَمَه وبيَّنه. والترقيم والترقين علامة لأهل ديوان الخَراج تُجْعَل على الرقاع والتوقيعات والحسبانات لئلا يُتَوَهَّم أنّه بيض كي لا يقع فيه حساب). كذلك نجد: (العدد: الإحصاء).
وفي (أساس البلاغة) للزمخشري لم نجد أكثر مما تقدم. وفي معجم (محيط المحيط) للمعلم بطرس البستاني نجد: (ويطلق الرقم عند الحسابين على علامات الأعداد وهي من واحد إلى تسعة ويتناول الصفر أيضاً. ويقال لها الأرقام الهندية). كذلك نجد: (عَدَّ الدراهم يَعُدُّها عداً حسبها وأحصاها).
نلاحظ مما سلف أنّ معنى كلمة “رقم” على النحو المتداول الآن، مستحدث في اللغة العربية: لأنّه لم يرد إلا في معجم (محيط المحيط) الحديث نسبياً (صدر عام 1870 م). ولم ترد هذه الكلمة في كتب النحو القديمة عندما تتحدث عن تأنيث العدد وتذكيره، بل تصف الكل بالأعداد، بدءاً من الواحد فصاعداً (1). حتى إنّ (لسان العرب) يقول (الواحد: أول عدد الحساب). وأما كلمة “العدد” فهي مستقرة على حالها منذ القدم حتى الآن.
“الرقم والعدد” رياضياً
لقد كان المصريون القدماء يعبرون عن الأعداد باستخدام الحروف القبطية، وسكان سورية القديمة يستخدمون من أجل ذلك الحروف اليونانية ويجرون حساباتهم بها، وكان يُطلق على هذا “حساب الجُمَّل”. في حين كان للرومان طريقة مختلفة في تدوين الأعداد، إذ استخدموا مزيجاً من الأحرف والعلامات. وأما العرب في الجاهلية فكانوا يدوّنون الأعداد بكتابتها بالكلمات (مثال ذلك: خمسة آلاف وستمائة دينار). وبعد الفتح الإسلامي تبنوا حساب الجُمَّل من الدول التي فتحوها.
٦أ | ب | ﺟ | د | هـ | و | ز | ح | ط | ي | ك | ل | م | ن |
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 20 | 30 | 40 | 50 |
س | ع | ف | ص | ق | ر | ش | ت | ث | خ | ذ | ض | ظ | غ |
60 | 70 | 80 | 90 | 100 | 200 | 300 | 400 | 500 | 600 | 700 | 800 | 900 | 1000 |
ولتوضيح ما يعنيه ذلك يمكن العودة إلى كتاب (المدخل إلى علم العدد) لمؤلفه نيقوماخوس الجرشي (2) (الجاراسيني)، وهو أول مُؤَلَّف وصل إلينا يعالج الحساب على أنّه علم قائم بنفسه مستقل عن الهندسة. إذ يقول في الصفحة (21): [مثل عدد الأربعة والستين، فإنّ نصفه (لب)، ونصف ذلك (يو)، ونصفه (ح)، ونصفها (د)، ونصفها (ب)، ونصف ذلك في آخر الأمر الواحد الذي لما كان بالطبيعة غير منقسم لم يكن له نصف[ وفي حساب الجُمَّل هذا يعني أنّ: لب = 32، يو = 16، ح = 8، د = 4 ، ب = 2. وذلك لأنّ:
على سبيل المثال فإنّ: لب = 32 لأنّ ما يقابل الثلاثين حرف اللام، وما يقابل الاثنين حرف الباء وفق ما هو وارد في الجدول، وهكذا دواليك.
وما يسترعي الانتباه في هذا الكتاب أنّه اقتصر على استخدام كلمتي “عدد” و “أعداد”، ولم يذكر قط “رقم” أو “أرقام”، مع أنّه تعرض لأنواع العدد في الصفحة (19). وهذا ما يشير إلى أنّ كلمة “رقم” لم تكن متداولة في علم الحساب في تلك الفترة.
وفي العصر العباسي، أخذ العرب من الهنود مجموعتين من الأرقام، إذ كان لديهم عدة مجموعات من أرقام الحساب، تختلف بعضها عن بعض بالصور. المجموعة الأولى (الأرقام الهندية-العربية)، وهي المستخدمة الآن في أقطار المشرق العربي، وصورها {١, ٢ ,٣ , ٤ , ٥ , ٦ ,٧ ,٨ ,٩}. والمجموعة الثانية (الأرقام الغبارية)، المنتشرة في دول المغرب العربي، وصورها{9, 8, 7, 6, 5, 4, 3, 2, 1}. ومن هناك دخلت إلى الأندلس، ومن ثمّ إلى جميع أنحاء أروبا. ويطلق عليها الأوربيون الأرقام العربية (Arabic numerals). وبعد إيجاد الصفر أضحى رمزه المعروف ضمن مجموعة الأرقام هذه. وصار هناك الطريقة الهندية (الحُسْبان بالأرقام) في حل المسائل الحسابية، تمييزاً لها عن الطريقة اليونانية (الحُسْبان بالأحرف). وكان يطلق على الأرقام “تسع صور”، وفق ما ورد في عديد من المصادر، منها “معجم المصطلحات العلمية العربية للكندي والفارابي والخوارزمي وابن سينا والغزالي”: (حساب الهند قوامه تسع صور يكتفى بها في الدلالة على الأعداد إلى ما لانهاية له وأسماء مراتبها أربعة هي الآحاد والعشرات والمئون والآلاف)(3). هذا وإن أول كتاب عربي ظهرت فيه الأرقام الهندية أُلّف سنة 274 ﻫ (874 م)(4). ولكن بعض المصادر تؤكد أن الأرقام الهندية دخلت إلى العرب في القرن الثاني للهجرة.(5) بيد أنّ هذا لم ينف استمرار بعض علماء العرب والمسلمين في استخدام الطريقة اليونانية بعيد تلك الفترة، ومن هؤلاء أبو بكر محمد بن الحسن الكرخي(6) .
ومن الجدير بالذكر أنه لم تكن الصورة واضحة، في أذهان الرياضيين المسلمين في تلك الفترة، عن الفرق بين الأرقام والأعداد. أو بصيغة أخرى، ما طبيعة العلاقة بين الأرقام والأعداد. ولنأخذ، على سبيل الذكر لا الحصر، ما قاله الرياضي عمر الخيام (1044 – 1123): (وللهند طرق في استخراج أضلاع المربعات والمكعبات مبنية على استقراء قليل، وهو معرفة مربعات الصور التسعة، أعني مربع الواحد والإثنين والثلاثة… الخ)(7). فقد طابق الخيام بين الصور التسعة (مجموعة الأرقام) ومجموعة الأعداد من واحد إلى تسعة. ولم يميز بينهما. وأما جمشيد الكاشي(8) في كتابه (مفتاح الحساب) الذي كتبه بعد ما يزيد على خمسة قرون من تبني الحضارة العربية – الإسلامية مجموعة الحروف الهندية، فيقول في الصفحة (48): (اعلم أنّ حكماء الهند وضعوا تسعة أرقام للعقود التسعة المشهورة على هذه الصورة……). ثم يقول في الصفحة (49): (فاعلم أنّ كل صورة من الصور التسع إذا وقعت في أولى المراتب كانت علامة أحد الأعداد من الواحد إلى التسعة المذكورة، وإن وقعت في المرتبة الثانية كانت علامة أحد العقود التسعة للعشرات التي هي من العشرة إلى التسعين، وإن وقعت في ثالثة المراتب كانت علامة أحد العقود التسعة للمئات، وعلى هذا القياس). نلاحظ كيف استخدم “الصور التسع” على نحو صحيح، إذ عدّها علامةً يُعبر بها عن الأعداد، ولم يستخدم كلمة “رقم” في ذلك. وربما يشير هذا إلى حداثة هذه الكلمة في الإطار العددي، وعدم اعتيادهم عليها بعد. وقد لجأ إلى تعبير “الصور التسع” لكونها تفصح عن طبيعتها أكثر من كلمة “رقم”.
ومما يعزّز هذا الظن أنّ بهاء الدين العاملي(9) ذكر في كتابه الشهير (الكشكول): (ويقال: فضائل الهند ثلاثة: كليلة ودمنة، ولعبة الشطرنج، والتسعة أحرف التي تجمع أنواع الحساب). فقد استخدم تعبير “الأحرف” للدلالة على الأرقام، مع أنّه رياضي وعاش بعد جمشيد الكاشي بحوالي قرنين من الزمان. وقد يكون دافعه في هذا الاختيار هو أنّ هذه الصور (الأرقام) أضحت الحروف أو الأبجدية الجديدة التي تكتب بها الأعداد، بعد التخلي عن حساب الجُمَّل. وهذا يشير إلى عدم استقرار هذه التسمية حتى تلك الحقبة، رغم مضي بضعة قرون على تبني الأرقام الهندية.
هذا ومن منظور لغوي بحت قد يكون من الأصح استخدام كلمة “حرف” أو حتى “صورة” عوضاً عن كلمة “رقم” المتداولة حالياً. وسبب ذلك أن الأعداد – كما أشرنا آنفاً – كانت تدوّن بالأحرف الأبجدية؛ ومن ثم لا يوجد أي نقلة أو انزياح – من حيث التعبير تحديداً– عندما نبقى أمناء لما كان شائعاً. كذلك فإنّ الأعداد، التي هي في حقيقتها “مفردات” رياضية، تتطلب “حروفاً” رياضية، أو أبجدية للتعبير عنها. وهذا ينسجم بل ينبع من وصفنا الشائع “لغة الأعداد”. وبذلك تكون كلمة “الحروف” في هذا الإطار مجازاً، وهذا ما يجيزه اللسان العربي؛ لأنه من المرجح، إن لم نقل من شبه المؤكد، أن اختراع الأبجديات سبق اختراع الأرقام. في حين أن كلمة “رقم” قد أقحمت في هذا الإطار دون الأخذ بالحسبان مدى مواءمتها للنسيج الذي استعيرت له.
نظم العَدّ
ومما يجدر ذكره أنّ نظام العد المألوف المتداول الآن هو النظام العشري. وسمي كذلك لأنّ أساسه عشرة، أي أنّه يستخدم عشرة أرقام أو رموز للتعبير عن أعداده، ومجموعة أرقامه الأكثر استخداماً في العالم هي {9, 8, 7, 6, 5, 4, 3, 2, 1, 0}.
وثمّة أيضاً نظم أخرى للعد، أشهرها نظام العد الثنائي، الذي أساسه اثنان، وهو المستخدم في الحاسوب (الكمبيوتر). ويستخدم فقط الرقمين أو الرمزين {0, 1} لتدوين أعداده. فالعدد سبعة وستون – على سبيل المثال – يكتب في النظام العشري (67)، وفي النظام الثنائي (1000011). ومن الممكن أن يكون عدد مجموعة الأرقام غير ذلك، وهذا يرتبط بنظام العد الذي نحن بصدده، هذا بغض النظر عن شكل الأرقام.
ومما نلاحظه أنّ مجموعة الأرقام محدودة دائماً بمعنى أنّها منتهية، كما هو الحال في أبجدية اللغة؛ فهي تنتهي عند الرقم 9 في النظام العشري؛ في حين أنّ مجموعة الأعداد غير محدودة، لأنّه مهما توغلنا في مجموعة الأعداد فإنّ هناك أعداداً أكبر. وباختصار، فإن علاقة الأعداد بالأرقام، شبيهة بعلاقة اللغة، أو – أكثر تحديداً – علاقة الألفاظ، بالأبجدية التي تكتب بها. فالرقم ليس أكثر من صورة، في حين أن كلمة العدد من اللامعرفات undefined term في الرياضيات. وهو – ببساطة – ما تشترك به المجموعات التي يوجد تقابل (واحد إلى واحد) بين عناصرها. فمثلاً، العدد ثلاثة هو ما تشترك به المجموعات المؤلفة من ثلاث زهرات، أو ثلاثة كتب، أو ثلاثة طيور……. والرقم يدرك بالعين لكونه صورة، في حين أن العــدد كائن ذهني (مجرد). هذا وإذا سلّمنــا بما يقوله الريــاضي الألماني كرونيكر L. Kronecker (1823 – 1891) من أن: (الله قد خلق الأعداد، وفيما عدا ذلك هو من صنع الإنسان)، فإن الأرقام هي من ابتكار الإنسان، وهذا فرق آخر بين العدد والرقم.
بعض الأخطاء الشائعة
وعلى الرغم من بساطة هذه المعلومات من الوجهة الرياضية، بل إنّ جلها لا يتجاوز الرياضيات المدرسية، غير أنّ هناك خلطاً كبيراً في استخدام هاتين الكلمتين. وهذا ولّد عديداً من التعابير الشائعة التي تحمل في طياتها بعض المفارقات اللغوية الرياضية. لذلك كان لا بد من القيام بعملية التقويم هذه انطلاقاً من مقتضيات لغوية ورياضية في آن واحد. ولانبالغ إذا قلنا، حتى الخاصة من الناس لم تسلم من الوقوع في هذه الأخطاء. فأحدهم يتحدث في إحدى مقالاته عن “الرقم” الخيالي الذي يدفع ثمناً لإحدى اللوحات الفنية مع أنّ هذا “الرقم” هو عدد من مرتبة الملايين. وفيزيائي كبير يتحدث في مجلة علمية عن الميكانيك الكوانتي: (واستخدم هايزنبرغ حساب المصفوفات .. والمصفوفة كائن رياضي يتألف من عدد من الأرقام)، والأكثر دقة يتألف من عدد من الأعداد.
وكثيراً ما يرد في أخبار الرياضة أنّ أحد اللاعبين قد حطّم، مثلاً، (الرقم القياسي) في الجري، واستخدام كلمة “رقم” في هذا الموضوع يحمل كثيراً من المغالطات. منها أننا نتحدث عن عد الأمتار المقطوعة، أو عد الزمن (قياسه) المستغرق في ذلك السباق، ومن ثمَّ فالمصدر هنا “العد”. لذلك يجب أن يكون الناتج من طبيعة هذا المصدر، أي أن يكون عدداً، لأن العدد:مقدار مايُعّد ومبلغه. لهذا وجب أن نقول (حطمّ العدد القياسي). ونستخدم كلمة “رقم” عندما يكون المصدر “الترقيم”؛ أي عندما نقوم بعملية الترقيم حصراً. وهذا يكون عندما نقوم ” برسم الأعداد”، أي التعبير عنها باستخدام صورها.
وثمّة مقولة سياسية مفتوحة يلجأ إليها بعض الناس في تأكيد أهمية أثر بعض الجماعات السياسية في ساحة معينة، أو للإيحاء بذلك. ونظراً لأهمية التعابير السياسية وضرورة دقتها، فإنّ ذلك يستلزم إمعان النظر في هذه المقولة. وهي، مثلاً،: (إنّ التنظيم الفلاني هو الرقم الصعب في المعادلة الفلسطينية). إن ما يعد جزءاً أساسياً من المعادلة هو الأعداد لا الأرقام. لأن هذه الأخيرة ليست أكثر من طريقة للتعبير عن تلك الأعداد. كذلك فإنّ قائل هذه العبارة يهدف، أصلاً، من استخدامها إلى تعظيم أثر ذلك التنظيم، في حين هو – في حقيقة الأمر – قد قام بتصغير قيمته المعنوية من خلال القيمة العددية للرقم؛ هذا على اعتبار – كما يظن البعض – أنّ الأرقام هي مجموعة الأعداد من صفر إلى تسعة. وذلك لأنّ مفهوم الرقم الشائع وما يوحي به من بساطة، يترك انطباعاً عند المتلقي يخالف ما تنشده المقولة؛ رغم أنّها تشير إلى أنّ أهمية ذلك التنظيم تكمن في صعوبة هذا (الرقم).
ويقول أحدهم: (إنّ رقم منزلي مائة وعشرون) ونلاحظ هنا التناقض بين طرفي الجملة التي تبدأ بكلمة “رقم” وتنتهي بعدد هو (مائة وعشرون)!. ومنشأ ذلك هو استخدام فعل “رقّم” مع أنّ الناتج عدد. علماً أنّ الترقيم في اللغة – أساساً – لا يحمل هذا المعنى، كذلك فإنّه عار عن أي معنى رياضي. وقد أُطلق على الناتج رقماً انسجاماً مع طبيعة المصدر المستخدم (الترقيم) رغم تعارضه مع الحقائق الرياضية.
ما المخرج؟
ولحل هذا الإرباك اللغوي – الرياضي لا بد من إعادة النظر في فعل “رقّم” على النحو السائد فيه الآن، مع الإبقاء على استخدام كلمتي “رقم” و “عدد” على النحو الرياضي المذكور آنفاً. ولتوضيح مشروعية ذلك لا بد من اللجوء إلى بعض المعارف الرياضية البسيطة، التي ستساعد على توسيع معنى “عَدَّد”.
يستخدم فعل “عدّد” في اللغة العربية للوصول إلى ما يطلق عليه في الرياضيات العدد الأساسي(10) (Cardinal number)، لأنّ العدد – لغوياً – ، كما أشرنا آنفاً، هو مقدار ما يُعَدُّ ومَبْلَغُه. بيد أنّه من الممكن أن نستخدم الفعل نفسه ليعني “الترتيب العددي”؛ أي لإعطاء الشيء المعني عدداً يُستدل منه على موقع هذا الشيء ضمن نظرائه. وهو ما يطلق عليه خطأً الترقيم. وهذا العدد الذي نحصل عليه في هذه الحالــة يسمى في الرياضيات العدد الترتيبي(11) (Ordinal number). ونتيجة لذلك سيكون لفعل “عَدَّدَ” معنيان، نحصل في الحالة الأولى على أحد عناصر مجموعة الأعداد الطبيعية {5, 4, 3, 2, 1، …..}، ونحصل في الحالة الثانية على {الأول، الثاني، الثالث، الرابع، …..}. وفي هذه الحالة ،غالباً، ما يعبر عن عناصرها على النحو الأول نفسه. والمجموعة الأخيرة يطلق عليها خطأً الأرقام، فمثلاً، نقول إن رقم منزلي سبعون.
واستخدام “عدّد” بهذين الشكلين لا ضير عليه من الناحيتين اللغوية أو الرياضية. لأننا في كلتا الحالتين نقوم بتعداد عناصر المجموعة التي هي موضوع الدراسة. والفرق أنّه، في الحالة الأولى، ونتيجة لهذه العملية، نكون قد حصلنا على العدد الإجمالي لعناصرها. أما في الحالة الثانية، وبعد إنجاز المهمة، فنكون قد أعطينا لكل عنصر عدداً للدلالة على موقعه بين عناصر المجموعة. أي أنّه للحصول على العدد الترتيبي (أو ما يطلق عليه خطأً الرقم) لكل عنصر من عناصر مجموعة، فإنّ ذلك يستلزم عد تلك العناصر ضمن ترتيب معين، ومن ثمّ نقرن كل عنصر بعدد ترتيبي. هذا وإن ظن البعض أننا نشحن هذه الكلمة بمعنى جديد من خلال ذلك، ومن ثم أضحت الكلمتان من المشترك اللفظي لاتحاد صورتهما واختلاف معناها؛ فإنّ ذلك قد أجازه معظم اللغويين؛ فكيف إن كان للعمليتين الروح نفسها.
لذلك من الأصح أن نقول: “إنّ العدد الترتيبي لمنزلي هو مائة وعشرون” بدلاً من قولنا ” إنّ رقم منزلي مائة وعشرون”. وبعد الاعتياد على هذا المفهوم يمكن أن يصبح: إنّ عدد منزلي هو كذا، كما هو الحال عندما نقول: إنّ المقال الفلاني ورد في المجلة الفلانية العدد كذا. وهذا يختلف عن قولنا: إنّ عدد منازلي كذا. والفرق بين الحالتين واضح للعيان، إذ يشير العدد في الحالة الأولى إلى العدد الترتيبي لمنزلي؛ في حين يشير في الحالة الثانية إلى عدد المنازل التي بحوزتي، وهو عدد أساسي. هذا فضلاً عن أنّ سياق الكلام يفصح عن طبيعة العدد إن كان ترتيبياً أو أساسياً، لأنّ هناك فرقاً بيّناً بينهما. وهو أنّ العدد الترتيبي يوافق المعدود من حيث كونه مفرداً أو جمعاً. فنقول: ما عدد منزلك؟، حين نسأل عن عدده الترتيبي. أو نقول: ما أعداد منازلك؟، حين نسأل عن أعدادها الترتيبية، عندما يكون هناك أكثر من منزل. في حين يأتي العدد (الأساسي) مفرداً والمعدود جمعاً؛ حيث نقول: ما هو عدد منازلك؟، أو كم عدد أولادك؟، أو ما عدد سكان مدينتك؟
والأمر نفسه ينسحب على (رقم الهاتف)، والأصح (عدد الهاتف)؛ وهو يختلف عن (عدد الهواتف) الذي يشير إلى ما تملكه من هواتف. في حين أن (أعداد الهواتف) تشير إلى الأعداد الترتيبية (الأرقام) للهواتف. ولكن من الممكن أن نقول: (إنّ أرقام الهاتف هي كذا وكذا) وليس (رقم الهاتف)، لأنّ الجملة الأولى تعني مجموعة الأرقام التي يتألف منها عدد هذا الهاتف. كذلك (رقم الملف) و (الرقم العسكري) و (الرقم الذاتي) وغير ذلك كثير. وإجمالاً لا نبالغ إذا قلنا إنّ جُلَّ استخدامات كلمة “رقم” خاطئة ما خلا حالات نادرة، مثل قولنا للدلالة على نسخة معينة من صحيفة ما أو مجلة: العدد كذا.
دراسة مقارنة
وقد يكون من المفيد الاستعانة بإحدى اللغات العالمية، وهي اللغة الإنكليزية؛ لنرى كيفية تعاملها مع “الرقم” و “العدد” في الإطار اللغوي. وعلى الرغم من عدم تعلق ذلك بموضوعنا مباشرة، إلا أنّه قد يساعد في توضيحه.
لنأخذ كلمة (number) التي تستخدم اسماً وفعلاً في آن واحد. وبالعودة إلى معجم (Longman) البريطاني نجدها كفعل:
(الترجمة) للوصول إلى المجموع (الكَمْ). Number (v): 1. To reach as total.
مثال:إنّ الكتب في المكتبة تَعُدُّ 5065 The books in the library number 5065.
(الترجمة) أن تعطي عدداً لـ
. To give a number to.
مثال: أعط الأسئلة عدداً (ترتيبياً)، أو، كما هو شائع: رقّم الأسئلة.
Number the questions
وفي معجم (Webster) الأمريكي نجدها كفعل:
Number (v): 1. To determine the total number of; count
(الترجمة) أن تحدد العدد الإجمالي لـِ، أو أنّ تَعُدّ.
(الترجمة) أن تخصص عدداً لـِ (أي التّرقيم بالمعنى الشائع). 2. To assign a number to
ونلاحظ مما سبق أن لفعل (number) معنيين في اللغة الإنكليزية، يفيد الأول العدّ في اللغة العربية، ويعني الثاني إعطاء عدد ترتيبي لـِ. وهذا ما ننشده من توسيع معنى فعل “عدّد” في اللغة العربية.
وأما معنى الكلمة اسماً، فإنّها في كلا المعجمين تعني عدداً في اللغة العربية.
في حين نجد في كلا المصدرين أنّ معنى كلمتي (numeral) و(digit) – اللتين تأتيان اسماً وصفة – هو (بعد الترجمة): نظام الرموز المستخدم في تمثيل الأعداد، سواء كانت رموزاً عربية أو رموزاً رومانية. ومن الأمثلة على ذلك (Telephone number) و (Room number) و (House number)، التي تترجم،عادة،(رقم التلفون) و(رقم الغرفة) و (رقم المنزل)؛ والأصح أن نقول: (عدد التلفون)، و(عدد الغرفة)، و(عدد المنزل). وفي اللغة الانكليزية figure تعني – وفق معجم Oxford- الرموز المستخدمة في الأعداد، وخاصة من 0 حتى 9.
الأرقام والأعداد في القرآن
ومما يجدر ذكره أن القرآن الكريم لم يستخدم كلمة “رقم” على النحو المتعارف عليه الآن، بل هناك العشرات من الآيات التي تتضمن ذكراً للأعداد ولفعل التعداد، ومعظمها تضمَّن أعداداً أساسية، كما في (سورة المائدة: 12) (وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً)، أو في سورة (آل عمران: 124) (ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين). إلاّ أنّ ثمّة بعض الآيات قد تضمنت عدداً أساسياً وعدداً ترتيبياً في آن واحد، بل أضافت العدد الترتيبي إلى العدد الأساسي. كما في سورة (المجادلة: 7) (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم)، أو في سورة (الكهف: 22) (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم).
كلمة أخيرة
وصفوة الكلام أنّ منشأ هذا الخلط لدى البعض هو الاستخدام اللغوي غير المنضبط؛ وهذا خلاف ما يجري في الإطار الرياضي، إذ يخضع الاستخدام لقواعد صارمة تحول دون الوقوع في مثل هذا المطب. وبما أننا نتعامل مع كائنات رياضية، لذا فإنّ للرياضيات حقاً، بل إن عليها واجباً، في أن تدلي بدلوها في هذا المقام: فالأعداد حيثما وجدت، وبغض النظر عن ماهية المعدود، خاضعة لا محالة لنصوص هذا العلم وضوابطه.
الحواشي:
(1) مثال ذلك (شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب) للإمام جمال الدين بن هشام الأنصاري، وغيره من الكتب.
(2) ولد في جرش في الأردن، وتوفي عام 135 م. وترجم الكتاب إلى العربية ثابت بن قرة (221 – 288 هـ/836 – 901 م)، ونشره بعد تصحيحه الأب ولهلم كوتش. من منشورات المطبعة الكاثوليكية (بيروت 1959).
(3) صنفه وعلق عليه د. فايز الداية، الصفحة 223.
(4) “عبقرية العرب في العلم والفلسفة”، د. عمر فروخ، الصفحة 45.
(5) “الأرقام العربية، مولدها، نشأتها، تطورها”، محمد حسن آل ياسين، المجمع العلمي العراقي (بغداد)، 1402 هـ / 1982م.
(6) ولد في الكرخ، وهي ضاحية من ضواحي بغداد في تلك الأيام، وتوفي فيها نحو 420هـ/1029 م.
(7) “تاريخ الرياضيات العربية”، د. رشدي راشد، مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت)، الصفحة 184.
(8) ولد الكاشي الملقب بغياث الدين في كاشان (إيران) في أواخر القرن الثامن الهجري ويظن أنّه توفي عام 839 هـ/1436 م. حقق الكتاب الأستاذ نادر النابلسي، من منشورات وزارة التعليم العالي (دمشق) 1977.
(9) ولد في بعلبك (لبنان) عام 953 هـ/1547 م، وتوفي في أصفهان (إيران) عام 1031 هـ/ 1622 م، وله عديد من المؤلفات الرياضية.
(10) وهو ما تشترك به المجموعات المتكافئة. ونقول عن مجموعتين إنّهما متكافئتان إذا وجد تقابل (واحد إلى واحد) بينهما. أي – ببساطة – هو العدد الدال على عدد عناصر مجموعة دون أخذ الترتيب بعين الاعتبار. وأحياناً يطلق البعض عليه: رئيسي مجموعة.
(11) وهو العدد الدال على الترتيب.
الأبعاد بين اللغة والرياضيات
من الكلمات التي شاع استخدامها حديثاً في اللغة العربية كلمة “أبعاد”، التي تستخدم على نطاق واسع في كثير من أدبياتنا المعاصرة. فقلما نجد مقالاً سياسياً، أو اقتصادياً، أو اجتماعياً، يخلو منها. وقد أضحت من المفردات التي لايمكن الاستغناء عنها في التعبير عن كثير من المواقف والقضايا المختلفة. بل ذهب بعضهم في استخدامها للدلالة على عصرنة الأسلوب، ومواكبته للتطور، على الرغم من أن بعض هذه الاستخدامات تجانب روح هذه الكلمة.
وتنبع أهميتها من أننا قد لانعثر على كلمة أخرى في اللسان العربي تماثلها في المعنى. ثم إنه من الصعوبة بمكان أن نجد مفردة أخرى تتقاطع معها بالمدلول، وتضطلع بالوظيفة المرجوة منها، وهو غير قليل.
وجل ما نرمي إليه بلورة هذا المفهوم، وإغناؤه، انطلاقاً من أرضية رياضية، لتتضح ماهيته، وليتخلّص من ضبابيته؛ معتمدين في ذلك على أن للعلوم، وفي طليعتها العلوم الرياضية، أثراً بيّناً في إغناء دلالات كثير من المفردات اللغوية وتعميقها. فالبيئة الرياضية وسط ملائم لاستنبات معاني بعض المفردات اللغوية، وذلك لتأخذ دلالات أكثر وضوحاً وعمقاً، بعد استعارتها – من اللغة – للاستخدامات الرياضية البحتة. والرياضيات نفسها، ليست مزرعة لغوية لإكثار المجاز اللغوي، بل إن ذلك يأتي محصلةً لاستخدام مفردات اللغة استخداماً صارماً ضمن الإطار الرياضي، ونتيجةً لطبيعة الرياضيات في إيضاح بعض المفاهيم وبلورتها. ولاغرو في كل ذلك إن كان هدفنا هو إغناء لغتنا العربية، وأداتنا في ذلك واحدة من أهم علوم هذا العصر. يقول الدكتور عمر فروخ: (إذا كان من غير الممكن أن نبني دراساتنا في الأدب والفلسفة على أسس المنطق وقواعد العلم بناءً تاماً، فإن من غير المعقول أن نجانب هذه الأسس والقواعد في دراسة الأدب والفلسفة مجانبة تامة. إن العرب لم يألفوا بعد في تاريخهم الحديث معاناة العلوم الرياضية والطبيعية)(1). ويقول في موضع آخر: (إن الدراسات الأدبية والفلسفية التي لا تزال في الشرق العربي متأخرة جداً عما وصلت إليه مثيلاتها في الغرب الأوروبي والأميركي بعاملين أساسيين لاحيلة لنا نحن اليوم فيهما. إن الدراسة الأدبية والفلسفية في الغرب بدأت بعد أن خطا الغرب خُطاً واسعة في العلوم الرياضية والطبيعية والنفسية، فاستفاد الدارسون الغربيون عند معالجة الموضوعات الأدبية والفلسفية من الجهود التي كان علماؤهم قد بذلوها في ميادين العلم الخالص. أما نحن فلم يتح لنا بعد مثل ذلك. من أجل ذلك ترانا نتكئ في دراستنا الأدبية والفلسفية على العنصر الشخصي والأسلوب الإنشائي إلاّ قليلا)(2).
هذا وليس ما نسعى إلى القيام به خلطاً بين الرياضيات واللغة، أو بين لغة الرياضيات الخاصة ولغة الكلام العامة، لأن كلمة “أبعاد” في الأساس مفهوم رياضي، ولم تستخدم قديماً خارج هذا الإطار. ومن ثم سيبقى المفهوم اللغوي- إن وجد – أسيراً “لروح” المفهوم الرياضي. ولكي نحسن استخدامها في المجالات الأخرى لابد أن يكون مفهومها الرياضي واضحاً في ذهننا، وملازماً لنا أثناء ذلك؛ لأن المفهوم الرياضي هو “روح” المفاهيم الأخرى إن لم نقل عينها. ونستطيع أن نقول بصيغة أخرى – من باب التبسيط – إن المفهوم الرياضي هو كل ما تشترك به الاستخدامات “الصحيحة” لهذه الكلمة، أي أنه تجريد منها. ونجد أن استخداماتها الأخرى، خارج الإطار الرياضي، – بعد التدقيق والتمحيص- ليست مجازاً كما قد يُظَنّ للوهلة الأولى، وذلك إذا أخذنا مفهومها المعاصر (المفهوم الجبري) بعين الاعتبار. لأن المجاز اللغوي، كما عرفه البلاغيون، هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي. أي أنه انزياح في استعمال اللفظ عن دلالته الأصلية إلى دلالة أخرى تُدرَك بقرينة. في حين نجد أن المفهوم الجبري (وهو تعميم للمفهوم الهندسي)(3) يسمح لنا باستخدامها في أي إطار، ومن ثم ينتفي الانزياح الذي يسوِّغ المجاز.
بعض الاستخدامات الخاطئة
في إحدى المجلات العربية الراقية والواسعة الانتشار، ورد مقال بعنوان: “حق تقرير المصير: البعد الفلسطيني”. والعنوان يعني ضمن مايعنيه، أن لحقّ تقرير المصير عدة أبعاد، منها البعد الفلسطيني. وهذا يعني أن هناك أبعاداً أخرى لم تذكر لعدم الحاجة، منها مثلاً: البعد الإيرلندي، والبعد الناميبي، وغير ذلك. وهذا يوحي بأن “حق تقرير المصير” مكون من هذه الشعوب المغلوبة، التي تناضل للحصول على حقها في تقرير مصيرها. وحينما ينال أحد هذه الشعوب مايصبو إليه، فإن عدد أبعاد هذه العبارة ينقص واحداً، وهكذا دواليك، مع تحقيق تطلعات هذه الشعوب. وفي نهاية المطاف، وعندما ينتهي القهر والاضطهاد، وتنعم جميع الشعوب المقهورة بحريتها، فإن”حق تقرير المصير” يغدو معدوم البعد. عندئذ سنجد أنه لم يعد لهذا المصطلح السياسي أي وجود، وهذا مخالف لكينونة المفهوم، لأنه على الرغم من أن الدوافع لولادة هذا المفهوم وبلورته، هي وجود شعوب مقهورة، إلاّ أنه كمفهوم باق على مر الزمن، بغض النظر عن بقاء هذه الدوافع أو زوالها. الرق زال وانتفى، إلاّ أن مفهوم الرقّ باقٍ. وإذا أردنا البحث عن أبعاد “حق تقرير المصير”، وتشخيصها، فإن ذلك ليس صعباً على المهتمين به، وهذا يقتضي منا العودة إلى نشأة المفهوم، والبحث في طبيعته ومكوناته، دراسةً وتحليلاً، بمعزل عن الشعب الفلسطيني، أو غيره من الشعوب. وفي كل الأحوال فإننا نجد، أن الشعب الفلسطيني، أحد أبعاد هذه العبارة. وإذا توخينا الدقة، وأردنا إعادة صياغة العنوان، فيجب أن يصبح: “حق تقرير المصير: المفهوم الفلسطيني”. فلربما كان لحق تقرير المصير مفهوم فلسطيني نابع من طبيعة هذه المشكلة الفريدة بتعقيداتها. أويمكن أن يكون: “حق تقرير المصير: الطريق الفلسطيني”. وشتان مابين “مفهوم” أو “طريق” و”بعد”. بل الأكثر من ذلك، وفي التحليل النهائي لهذه العبارة، نجد أن “حق تقرير المصير” هو أحد أبعاد القضية الفلسطينية، وهذا خلاف العنوان.
ومن ضمن الأخطاء الشائعة جداً، في استخدام كلمة أبعاد، استخدامها بمعنى نتائج. ففي إحدى المجلات العربية، التي تحظى باحترام الجميع، ورد مقال بعنوان: “التضخم النقدي وأبعاده الاقتصادية والاجتماعية”. والعنوان يوحي بأن التضخم عبارة عن مجسم ذي أبعاد ثلاثة، أو أربعة (ما فوق الفضاء Hyperspace)، أو أكثر من ذلك. ومن أبعاده: البعد الاقتصادي، والبعد الاجتماعي. وبعد استعراض المقال، نجد أن الكاتب يتحدث عن نتائج التضخم الاقتصادية، والاجتماعية وليس أبعاده. وكان من الأصح والأجدى أن يستخدم كلمة نتائج أو انعكاسات عوضاً عن أبعاد. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الاقتصاد الوطني لبلد ما، يتحرك في فضاء متعدد الأبعاد، أحد أبعاده التضخم، وبعده الثاني الناتج الوطني الإجمالي (G.N.P)، وبعده الثالث البطالة، وغير ذلك من الأبعاد، التي يصفها ويشخصها الاقتصاديون.
وهناك من يستخدم كلمة أبعاد بمعنى خصائص أو سمات، وهذه أيضاً لا تمت للمعنى بأية صلة. وسنورد الآن مثالاً، من بعض الكتب السياسية، ترى أن للنضال القومي عدة أبعاد. فالنضال ضد التخلف بعد من أبعاده، والنضال ضد الهيمنة الأجنبية بعد آخر، والنضال لاسترداد الأراضي العربية المغتصبة بعد ثالث، وهكذا دواليك.
المفهوم الحدسي للأبعاد:
إن أبعاد شيء ما لاتتطابق تماماً مع مكوناته، كما يبدو للوهلة الأولى. فنحن نقول إن مكونات الكتاب هي صفحاته وغلافه، وهذه ليست أبعاده. في حين أبعاد الغرفة هي: الطول والعرض والارتفاع، وهذه بعض مكونات الغرفة، لوجود مكونات أخرى كالسقف مثلاً. وببساطة فإن أبعاد شيء ما هي المكونات التي تعطي الهيكل الأساسي لذلك الشيء مجرداً من التفصيلات. ومن ثم فإن شرط التكوين لأمرٍ ما هو شرط لازم غير كاف ليكون هذا الأمر بعداً في ذلك الشيء. أما الشرط الكافي فإن استبعاده من الشيء يحوّله، أو يختصره إلى أشياء أخرى. والأبعاد تفيد التركيب، ولكن العكس غير صحيح بالضرورة، أي ليس كل مايفيد التركيب يكون بعداً. وهذا ما يوقع بعضهم في سوء الاستخدام. وللتعرف على ما تعنيه كلمة أبعاد، لا بد من الإشارة إلى أن معرفتنا الحقيقية بمفهوم البعد ليست وليدة القراءة، بل هي محصلة لقدرتنا على الحركة في الاتجاهات المختلفة. فنقول إن المنحني أحادي البعد، لأن جسماً ملتصقاً به، يستطيع الحركة في اتجاه واحد، كحركة قطار على سكته (بغض النظر عن الاتجاه). ومن ثم فإن هناك درجة واحدة من الحرية في الحركة. ونقول عن سطح مستو إنه ثنائي الأبعاد، لأن الحركة فيه تملك درجتين من الحرية، كحركة باخرة في البحر. في حين أن الفضاء الذي نعيش فيه، وهو ما يدعى بالفضاء الإقليدي(4)، له ثلاثة أبعاد(5). لأن حركة طائرةعمودية فيه، لها ثلاث درجات من الحرية. هذا وإن النقطة (مفهوماً هندسياً) تدعى صفرية البعد لانتفاء الحركة فيها.
وإذا تناولنا الموضوع ببساطة، وهذا مايعنينا في هذا المقام، فإننا نستطيع أن نقول: إن درجة الحرية في الحركة (مفهوماً مجرداً)، تقرر عدد أبعاد الفراغ. إلاّ أن هذا المعيار لايصح تطبيقه في مجال “الهندسة الكسورية The Fractal Geometry(6)” التي هي خارج إطار هذا المقال.
الأبعاد لغوياً
إن كلمة أبعاد مستحدثة في اللغة العربية، وهي نتاج رياضي، لأنها ولدت وترعرعت في أحضان الرياضيات. وفي عودتنا إلى “لسان العرب” لابن منظور، لانجد لها أثراً، بل نجد أن (البُعد: خلاف القرب. بَعُدَ الرجل، بالضم، وبَعِدَ، بالكسر بُعْداً وبَعَداً، فهو بَعيدٌ وبُعادٌ، عن سيبويه، أي تَباعَدَ، وجمعها بُعَداء. وقوله عزو جل في سورة السجدة “أولئك ينادون من مكان بعيد”. قال ابن عباس: سألوا الرّدّ حين لاردّ. وقيل: من مكان بعيد، من الآخرة إلى الدنيا. وقال مجاهد: أراد من مكان بعيد من قلوبهم يبعد عنها ما يتلى عليهم لأنهم، إذا لم يعوا، فهم بمنزلة من كان في غاية البعد).
نستنتج مما تقدم، أن البعد مصدر؛ والمصدر، كما هو معروف، اسم يدل على حدث مجرّد من الزمن، وهو ما تعنيه هذه الكلمة أصلاً في اللغة العربية، وهو – وفق شرح ابن عباس- ليس مادياً بالمعنى الذي نعرفه. فالبعد الفاصل بين الدنيا والآخرة هو “مسافة” من نوع آخر. فنحن نتكلم عن عالمين مختلفين، غير موجودين في آن واحد، والله أعلم. ولذلك لانعرف طبيعة “المسافة” الفاصلة بينهما، إلاّ أنه لابد من السفر والارتحال – بغض النظر عن طبيعتهما– للانتقال بين هذين العالمين. في حين نستنتج من قول مجاهد، في هذا السياق، أن مفهوم البعد – مصدراً- شكل من أشكال المسافة المعنوية. وهو تعبير عن القدرة على إدراك مايتلى عليهم.
(وقال اللّيث: يقال هو أبْعد وأبعدون وأقرب وأقربون وأباعد وأقارب. والبعدان، جمع بَعيد. ويقال: فلان من قربان الأمير ومن بعدانه. قال أبو زيد: يقال للرجل إذا لم تكن من قُربان الأمير فكن من بعدانه، يقول: إذا لم تكن ممن يقترب منه فتباعد عنه لايصبك شره. والأباعد: خلاف الأقارب، وهو غير بعيد عنك).
ومما تجدر الإشارة إليه، أن مفهوم البعد والقرب في اللغة العربية، لم يتضمن الاتجاه، فهو مؤشر للمسافة فقط. قال الأصمعي: (أتانا فلان من بُعْدةٍ، أي من أرض بعيدة). ولتوضيح مانرمي إليه، نفرض أن شخصاً يجلس في زاوية إحدى الغرف، فإن عدد النقاط، التي تبعد عنه بعداً متساوياً، غير متناه. وهي تشكل سطح ثُمن كرة مركزها زاوية الغرفة، ونصف قطرها البعد المذكور.
وكذلك هناك البعد في النسب وعكسها القرب والقرابة. والبعد: الهلاك، قال تعالى: “ألا بُعداً لِمَدْيَنَ كما بَعِدَت ثمود”، (هود:95)، إلاّ أن هذا المعنى ليس له صلة ببحثنا.
وبَعْدُ: ضد قبل. قال الجوهري: “بَعْد نقيض قبل. وقال اللّيث: بَعْدَ كلمة دالة على الشيء الأخير، تقول: هذا بَعْدَ هذا”. قبل وبعد هنا تفيدان الترتيب، على الرغم من أن هناك فاصلاً بينهما. وجاء في المعجم الوسيط أن “البُعْد: اتساع المدى. ويقولون في الدعاء عليه: “بَعْداً له، هلاكاً. وقالوا إنه لذو بُعد: ذو رأي عميق وحزم، ويقال: بُعْدَك، يحذره شيئاً من خلفه”.
وبعد هذا الاستعراض اللغوي لكلمة “بعد”، لم نعثر على كلمة أبعاد في أمهات الكتب اللغوية القديمة، على الرغم مما حوته، من تثنية، وجمع، واشتقاقات متعددة لهذه الكلمة (7). بل قد نجدها في بعض المعاجم الحديثة، فمثلاً وردت في “المنجد في اللغة والأدب والعلوم” للأب لويس معلوف. يقول: “بعد نقطتين على كرة: أصغر قوسي الدائرة الكبرى المارة بالنقطتين. بعدا المستطيل: طوله وعرضه. أبعاد المتوازي المستطيلات: طوله وعرضه وعلوّه. بعد نقطتين: قطعة المستقيم الواصل بينهما”.
نلاحظ مما سلف، أنه لم يقدم تعريفاً أو فكرة عن “البعد”، مفهوماً مجرداً، وهذا، كما أظن، يستعصي على اللغة، بل عرّفه في سياق حالات معينة. وكلمة “بعد” من الألفاظ المشتركة في اللغة العربية، أو كمايقول بعضهم، من المشترك اللفظي، لأننا قد صادفنا عدة معان لها. والمشترك – تعريفاً – هو ما اتحدت صورته واختلف معناه، ومنشأ ذلك، كما يقول أبو علي الفارسي(8): (اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين ينبغي ألا يكون قصداً في الوضع ولا أصلا، ولكنه من لغات تداخلت، أو أن تكون لفظة تستعمل لمعنى، ثم تستعار لشيء، فتكثر وتصير بمنزلة الأصل(9)). وهذا ماحدث لكلمة “بعد” في الرياضيات، التي جمعت على أبعاد. والسياق هو الذي يعين أحد المعاني المشتركة لهذه اللفظة. وهذا جائز لغوياً، ذلك أن فقهاء اللغة يؤكدون أن الكلمة، يكون لها من المعاني بقدر مالها من الاستعمالات، وتنوع الاستعمال يقتضي تنوع المعاني.
الأبعاد رياضياً
إن مفهوم “البعد” قد شغل حيزاً لابأس فيه من فكر بعض الرياضيين، منذ قرون خلت، كان أولهم اقليدس في كتابه “الأصول – The Elements”. ومن المرجح أن أول من استخدم هذه الكلمة في التراث العلمي العربي الإسلامي هو الفيلسوف الكندي(10)، فقد حفلت رسائله الفلسفية بالمفاهيم بصورتها الجنينية. واستخدمها في كتابه إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى، حيث يقول: “والجرم جوهر طويل عريض عميق، أي ذو أبعاد ثلاثة”(11). وقد حاول الكندي أن يضع مفهوماً للفضاء (العِظَم) على أساس ثلاثة أشياء متباينة ( الخط والسطح والجرم)(12).
واستخدم كلمة “أبعاد”، على سبيل الذكر لا الحصر، أبوحيان التوحيدي في “المقابسات”: “يقال: ما الجرم؟ الجواب ]هو[ ما له ثلاثة أبعاد، طول وعرض وعمق”(13).
هذا وقد استخدمها بعضهم في التراث العلمي بمعنى “مسافات”، وهو عين المعنى اللغوي، ومن هؤلاء حاجي خليفة في “كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون”، حيث يقول عن (علم الأبعاد والأجرام): (وهو علم يبحث فيه عن أبعاد الكواكب عن مركز العالم ومقدار جرمها. أما بعدها فيعلم بمقدار واحد كنصف قطر الأرض، الذي يمكن معرفته بالفراسخ والأميال، وأما أجرامها فيعرف مقدارها كجرم الأرض).
ومن هؤلاء أيضاً غياث الدين الكاشي صاحب كتاب (مفتاح الحساب)، حيث يقول: (مركز المثلث نقطة في سطحه يكون أبعادها عن جميع الأضلاع متساوية….)(14)؛ ويقصد ببعدها “مسافتها”، في حين نقول الآن إن النقطة الهندسية ليس لها أبعاد (عديمة الأبعاد)، أو بالأحرى فإننا نقبل بأن النقطة الهندسية عديمة الأبعاد.
واستخدم الكاشي هذه الكلمة مراراً بمعان مختلفة في المصدر نفسه، فيقول: (الفصل الثاني في مساحة المثلث تعميماً واستخراج أبعاده بعضها عن بعض)(15). ثم يقول: (وأما استخراج أبعاده بعضها عن بعض فمنها استعلام موقع العمود…)(16)، ويقصد بذلك بعض عناصر المثلث. وهذا يشير إلى أنه لم يكن – في تلك الحقبة – ثمة انضباط رياضي صارم في استخدام هذه الكلمة.
وأما ابن خلدون فيقول في مقدمته: (…. وتسمى التعاليم، أولها علم الهندسة، وهو النظر في المقادير على الإطلاق، إمّا المنفصلة من حيث كونها معدودة، أو المتصلة، وهي إما ذو بعد واحد وهو الخط، أو ذو بعدين وهو السطح، أو ذو أبعاد ثلاثة وهو الجسم التعليمي)(17)، وهو بذلك لم يخرج عن الإطار الذي حدده الكندي.
أما الرياضي والفيلسوف الفرنسي “بوانكاريه Poincaré” (1854 – 1912)، فكان أول من نبّه في عام 1912، إلى ضرورة دراسة مفهوم “تعددية الأبعاد Dimensionality” بدقة وبعمق، لما يعتريه من الغموض في الرياضيات. هذا ومن وجهة النظر الرياضية نستطيع أن نفصل بين مفهومي البعد هندسياً وجبرياً، على الرغم من الترابط بينهما. ففي الهندسة، نقول عن شكل ما إنه أحادي البعد، إذا كان له طول فقط. ونقول إنه ثنائي الأبعاد، إذا كان له مساحة فقط، وثلاثي الأبعاد إذا كان له حجم. ولذلك فإن أية نقطة من مستقيم يمكن تحديدها بعدد واحد، وهو بعدها عن نقطة معينة واقعة على المستقيم نفسه. والمستوي يعد مجموعة الثنائيات (س،ع)، حيث س،ع عددان حقيقيان، لأن أية نقطة منه يمكن تعيينها بهذين العددين. ويمكن تمثيل ذلك هندسياً وفق الشكل(1). والفراغ الأقليدي هو مجموعة من الثلاثيات (س،ع،ص)، لأن أية نقطة منه تتحدد بهذه الأعداد الثلاثة. ويمكن تمثيل ذلك هندسياً وفق الشكل(2). ومن ثم فإن عدد أبعاد شكل هندسي، هو عدد الإحداثيات اللازمة لتعيين نقطة ما فيه. في حين أن المفهوم الجبري للبعد، ببساطة، هو تعميم لماسلف، إذ نحصل على فضاءات مجردة (لايمكن تصورها)، أبعادها أكثر من ثلاثة. وفضاء هنا تعني تعميماً وتجريداً لمفهوم الفضاء الذي نعرفه ونعيش فيه. فالفضاء ذو الأبعاد الأربعة مجموعة الرباعيات (س،ع،ص،ق)، حيث س و ع و ص و ق أعداد حقيقية، وهلم جرا. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هناك بعض الفضاءات المعينة، ذات الأبعاد غير المنتهية. وللوقوف على التعريف الرياضي للبعد في الفضاءات الشعاعية لا بد من العودة إلى الجبر الخطي(18). لأنه يكاد يكون من المحال الحديث عنه بحلته الرياضية لأنه يتطلب معرفة مفاهيم رياضية عديدة (قوانين التشكيل الداخلية والخارجية، الزمرة، الفضاء الشعاعي، الارتباط والاستقلال الخطي…) وهذا خارج إطار هذه الدراسة.
وفي الختام لابد من الإشارة إلى أنه ليس من الضروري أن تكون الأبعاد لشيء ما متماثلة، ومن النسيج نفسه. ولتوضيح ذلك نقف قليلاً عند قول بعضهم إن أبعاد الحياة ثلاثة، طول وعرض وعمق. فالبعد الأول (طول الحياة)، هو المدة التي يعيشها الإنسان، وهو مقدار عددي، وقابل للقياس بالسنوات. والبعد الثاني (عرض الحياة)، يتضمن نشاط الإنسان، وحيويته، وصحته، واستمتاعه بالحياة، وإقباله عليها. وعندما نفقد أحد هذه العناصر فإن عرض الحياة يضيق ويصغر. وأما البعد الثالث (عمق الحياة)، فهو تأثير الإنسان في بيئته ومجتمعه. وهذا البعد هو أكثر الأبعاد أهمية لما له من نتائج ملموسة في تطور المجتمعات.
هذا وإذا كنا بصدد دراسة شيء معين، له خمسة مميزات مختلفة، هي موضع اهتمامنا، فإننا نستطيع أن نمثل معلوماتنا عن هذا الشيء على أنه فضاء ذو خمسة أبعاد.
وبوجه عام فإن أي نوع من التغيير يمكن أن يوحي إلى فضاء من نوع ما، ضمن ضوابط معينة.
الحواشي :
(1) “عبقرية اللغة العربية”، د. عمر فروخ، دار الكتاب العربي، بيروت (لبنان)، 1981، الصفحة 255.
(2) المرجع نفسه، الصفحة 268.
(3) سيرد شرحه بعد قليل.
(4) نسبة إلى الرياضي الإغريقي إقليدس، الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد.
(5) النظرية النسبية في الفيزياء ترى أن الزمن بعد رابع لهذا الفضاء.
(6) وهي من الأبحاث المعاصرة في الرياضيات. ويعود عمرها إلى حوالي عقدين من الزمن.
(7) من المعروف أن معاجم اللغة العربية تدون المعاني الأصلية للكلمة والمعاني التي طرأت عليها حتى نهاية القرن الأول للهجرة تقريباً.
(8) هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار، إمام من أئمة العربية، توفي عام 377 ﻫ.
(9) “المخصص” لابن سيده.
(10) هو يعقوب بن اسحاق بن الصباح، أبو يوسف الكندي، ولد في أواخر القرن الثامن الميلادي (حوالي 185 ﻫ) كما يذهب دي بور في “تاريخ الفلسفة في الإسلام”.
(11) “كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى”، تحقيق: د. أحمد فؤاد الأهواني، دار إحياء الكتب العربية (القاهرة)، 1367 ﻫ – 1948 م، الصفحة97.
(12) لمزيد من المعلومات راجع مجلة “المعرفة”، وزارة الثقافة (دمشق)، العدد 382، تموز 1995، “الفكر الرياضي عند الكندي”، للكاتب.
(13) ثلاثة رسمت (ثلثة) في الأصل. “المقابسات”، أبو حيان التوحيدي، تحقيق: حسن السندوبي، القاهرة، 1929 م، الصفحة 313. توفي التوحيدي حوالي 403 ﻫ.
(14) “مفتاح الحساب”، جمشيد الكاشي (المعروف بغياث الدين)، تحقيق الأستاذ النابلسي، وزارة التعليم العالي، دمشق، 1397 ﻫ – 1977 م، الصفحة 197. توفي الكاشي حوالي 1436 م.
(15) “مفتاح الحساب”، الصفحة 197.
(16) “مفتاح الحساب”، الصفحة 198.
(17) “مقدمة ابن خلدون”، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الثانية، 1961، الصفحة 478.
وهو من العلوم الرياضية التي تعود جذورها إلى قرن ونيف، بيد أن الاهتمام به ازداد ابتداءً من العقد الثالث من القرن العشرين. ونجد مبادئه في مناهج نهاية المرحلة الثانوية.
“المعادلة” ودلالاتها اللغوية والرياضية
من المفردات المعاصرة التي شاع استخدامها في عديد من المجالات كلمة “معادلة”. وذلك لأنّها تتمتع بجاذبية كبيرة لشريحة واسعة من الكتّاب. فبريقها يسحر هؤلاء لما تختزنه من اقتصاد لغوي وفكري. وتعد في كثير من الحالات المنجد الوحيد للتعبير عن وضع تنظيمي تعيشه بعض العلائق المتداخلة في ذلك السياق. لأنّها تكثِّف في مفهومها صورة هذه العلائق. بيد أنّ بعض هذه الاستخدمات عشوائية، وأحياناً عبثية، لا يحكمها أي ضابط. وهذا كثيراً ما يفضي إلى تشويش صورة الموقف المعني لدى المتلقي، فضلاً عما يصيب علائقه من تشويه، ولا سيما أنّها تستخدم في بعض الأحايين في مواضيع سياسية تستلزم الدقة في التعبير. وهذا لا ينفي أنّ بعض الأدبيات السياسية – لأسباب خاصة أو موضوعية – تجد في التعابير الضبابية، التي يكتنفها الغموض ضالتها، بل وملاذاً تلجأ إليه. غير أنّ كلمة “معادلة” لا ينطبق عليها ذلك، لأنّ لها مفهوماً نضج وأينع في أحضان الرياضيات. ومبعث سوء الاستخدام هذا يُعزى إلى هلامية مفهومها عند بعضهم، ومن ثم عدم وضوح أبعادها. ومما يعزز ذلك أنّها من السهل الممتنع، لما تتسم به من بساطة في المظهر، ومن عمق واتساع في المعنى. لذلك فلا عجب من سوء الاستخدام هذا.
ومن هنا أتت أهمية تشريح هذه الكلمة، ودراستها بإمعان، لاستجلاء فضاء معناها، والوقوف على أبعادها. وهذا سيؤدي إلى بلورة مفهومها، ومن ثم اكتساب القدرة على حسن استخدامها. وهذ ما نصبو إليه من خلال محاولتنا هذه: ولتصبح هذه الكلمة عملة رائجة في سوق تداول المصطلحات السياسية، وذات قيمة ومفهوم محددين. وسيكون نبراسنا في ذلك مفهومها الرياضي، الذي لا مناص من العودة إليه.
المعادلة لغوياً
بالعودة إلى (لسان العرب) لابن منظور نجد أن: (العَدْلُ: ما قام في النفوس أنّه مستقيم، وهو ضد الجور. والعَدْلُ: الحكم بالحق. وفلانٌ يَعْدِلُ فلاناً أي يساويه. ويقال: ما يعدِلك عندنا شيء. أي ما يقع عندنا شيء موقعك). وفي (أساس البلاغة) للزمخشري نجد: (فرس معتدل الغُرّة. وغرة معتدلة وهي التي توسطت الجبهة ولم تصل إلى أحد الشقين). وفي (محيط المحيط) للبستاني نجد: (والعَدْل أيضاً السوية والأمر المتوسط بين طرفي الافراط والتفريط والاستقامة). ولم نعثر على كلمة “معادلة” في أي من هذه المعاجم اللغوية، على الرغم من أنّ معجم (محيط المحيط) حديث نسبياً، وذلك لكونها مستحدثة في اللغة العربية. ومعظم معاجم المصطلحات الأدبية قد أغفلتها، ما خلا قلة منها، أوردتها مصطلحاً سيميائياً، ليس له علاقة البتة في دراستنا هذه.
“المعادلة” رياضياً
المعادلة في الرياضيات، هي مساواة بين كميتين، أو هي جملة مفتوحة، ذات متحول (متغير أو مجهول) واحد، أو أكثر، مكونة من طرفين متساويين. تتحقق من أجل قيم محدودة العدد للمتحول. وتسمى هذه القيم – إذا وجدت – حلول المعادلة، لأنّه من الممكن أن تكون المعادلة مستحيلة الحل. أما إذا كانت محققة دوماً فتسمى حينئذٍ متطابقة.
فمثلاً 3 ص + 4 س = 11 هي معادلة بمجهولين تتحقق من أجل القيم ص = 1 وس = 2. أما (س + ص)2 = س2 + 2س ص + ص2 فإنّها تتحقق دوماً (أي أنها صحيحة من أجل أية قيمة عددية لـ س و ص). لذلك فهي متطابقة؛ ويطلق عليها عادةً متطابقة مربع مجموع حدين. أي أنّ المعادلة حالة “تساوٍ” بين كائنات رياضية مثل الأعداد أوالتوابع أو غير ذلك.
إنّ المعادلة – أساساً – مصطلح جبري، ومن المرجح أن تكون ولادتها قد حدثت في علم الحساب قبل ذلك بكثير، أي قبل أن يغدو الجبر علماً على يد الرياضي والفلكي الإسلامي محمد بن موسى الخوارزمي (164 هـ / 780 م – 232 هـ / 874 م) في كتابه الشهير “الجبر والمقابلة”.
ولنر كيف عبّر الخوارزمي في كتابه هذا عن إحدى المعادلات، إذ يقول: (قولك ثلاثة أجذار وأربعة من العدد يعدل مالاً)، وهذا يعني بالمصطلحات الجبرية المتداولة (1)
3 س + 4 = س2 ، لأنّه كان يستخدم لفظ الجذر للدلالة على المجهول س، ولفظ “مال” للدلالة على مربع المجهول أي س2 .
وكلمة “المعادلة” وردت في المؤلفات الرياضية القديمة بالمعنى الذي نستخدمه حالياً، ولكن من غير أن تكتب بالشكل الرمزي الحالي. فقد وردت، على سبيل الذكر لا الحصر، في مؤلفات الرياضي بهاء الدين العاملي (953 هـ / 1547 م – 1031 هـ / 1622 م)، وفي كتاب “مفتاح الحساب” للرياضي جمشيد الكاشي الملقب بغياث الدين، وفي مقدمة ابن خلدون. أما الرياضي والفلكي عمر الخيام (440 هـ / 1048 م – 526 هـ / 1131 م) فقد عرّف الجبر بأنّه علم المعادلات. وهذا كله يشير إلى أنّ كلمة “المعادلة” قد استخدمت في الرياضيات منذ مدة بعيدة. حتى إنّ العرب في الجاهلية عرفوا فكرة المعادلة بشكلها المبسط، وقد تطرقوا في شعرهم إلى ذلك، ومن هؤلاء النابغة الذبياني حيث يقول:
واحكُم كحُكمِ فتـاة الحيّ إذْ نَظَـرتْ إلى حَمــامٍ سِـــــراعٍ وارد الثَّمَدِ (2)
قالت: ألا ليتمـا هذا الحمامُ لنـــا إلى حمامتِنـــــــا مع نِصْفِــه فَقَدِ
فَحسّبــوهُ فألْفَوْهُ كمـا ذكَـــرت تِسعاً وتسعين لم تنقُص ولم تَزِد
فكمّلت مائـــةً فيهـا حمامتُهـــا وأسرَعَت حِسْبـــةً في ذلك العدد
فقد استخدم النابغة مفهوم المعادلة ذات المجهول الواحد، ومن الدرجة الأولى، من غير أن يسميها، أو ربما من غير حتى أن يعي ذلك. ولحل المسألة الواردة في القصيدة بالطرق الحديثة المعروفة نفرض، أنّ الحمام الوارد الثمّد هو س، فيكون نصفه ، وقد تمنّت لو يصبح لها هذا الحمام مع نصفه، ثم إذا أضافت إليه حمامتها سيصبح المجموع مائة حمامة. لذلك تكون المعادلة على النحو:
س + + 1 = 100 ، وبالحل نجد الجواب س = 66 .
تجريد مفهوم “المعادلة”
نلاحظ مما تقدم أنّ “المعادلة” لفظة رياضية، نشأت، وأينعت، في الإطار الرياضي، ولم تستخدم قديماً خارج هذا الإطار؛ وقد يعزى سبب ذلك إلى أنّ علم الجبر لم يكن في العصور السالفة علماً شعبياً أو جماهيرياً – إنّ جاز التعبير – على النحو الذي عليه الآن بعد أن عمّ التعليم. فقد كان مقتصراً على الخاصة من الناس، لذلك بقيت هذه الكلمة حبيسة الإطار الرياضي ردحاً من الزمن.
ونتيجة لطبيعة نشأتها فإنّها تطبّعت بالبيئة التي ولدت فيها؛ ولذلك فإنّ استخداماتها الأخرى ستبقى أسيرة مفهومها الرياضي. ولكي نحسن هذا الاستخدام، لابد أن يكون مفهومها الرياضي واضحاً في أذهاننا، وماثلاً أمامنا أثناء ذلك؛ لأنّ هذا المفهوم، هو روح المفاهيم الأخرى. ومن هنا كانت الحاجة الماسة والضرورية لتجريد مفهومها الرياضي. والتجريد نعني فيه انتزاع هذا المفهوم، أو فكرته، من السياق الرياضي، والنظر إلى خواصه بعيداً عن هذا السياق، مع المحافظة على مورثاته الرياضية. لأنّ هذه الأخيرة هي العوامل الداخلة في تكوينه، وافتقاد أحد هذه العوامل سيشوّه مفهومها العام بفقد أحد أبعاده.
إنّ المعادلة بين شيئين (طرفين)، أو أكثر، في بيئة ما هي علاقة تنظيمية تربط بين هذه الأشياء، ويحكمها نوع من أنواع التوازن الذاتي أو الموضوعي (3). لأنّه من الممكن أن يكون مصدر هذا التوازن طبيعة الأشياء نفسها، أو قوى خارجة عنها تفرضها تلك البيئة. وإذا اختل التوازن فإنّ المعادلة قد تؤول إلى علاقة مجردة من الضوابط التي كانت تفرز هذا التوازن؛ أو من الممكن أن تأخذ نمطاً جديداً من المعادلات بضوابط وموازين مختلفة. أي أنّ المعادلة – باختصار – صورة لوضع تنظيمي يتسم بالاستقرار الذي يمكن أن يكون مرحلياً.
ولمعرفة طبيعة أية معادلة في أي سياق لا بد من استحضار ماهية توازنها، ففيه يكمن سرها.
ومن ذلك نستنتج أنّ كل معادلة – بمفهومها العام – هي علاقة تنظيمية من نوع خاص، غير أنّ العكس غير صحيح بالضرورة، لأنّ العلاقة مفهوم واسع، يحمل في ثناياه أشياء كثيرة، ولسنا بصدد الوقوف عند هذا المفهوم.
“المعادلة” في المجالات الأخرى
سنعرض الآن بعض الاستخدامات الصحيحة لهذه الكلمة من خلال كتابات متفرقة وردت في دوريات وصحف عربية مختلفة؛ ثم يليها الاستخدامات الخاطئة؛ علماً أنّ حُسن الاستخدام كان أقل كثيراً من سوئه. وهدفنا من هذا العرض هو الوقوف عند بعض الأمثلة الحية الخاطئة، ثم تشريحها لتبيان الطريقة الصائبة في الاستخدام.
يقول بعضهم حول مشاكل البيئة في العالم (إنّ الحوار بين الشمال والجنوب يمكن تلخيصه بالمعادلة التالية “الغذاء مقابل الهواء”، فالشمال يعاني من فساد الهواء بينما يعاني الجنوب من قلة الغذاء، والاثنان متكاملان). إنّ المعنى هنا واضح لا لبس فيه، فلدينا طرفان للمعادلة، أحدهما الغذاء والآخر الهواء، ويحكمهما التوازن الناتج عن الأخذ والعطاء، ولا ضير من هذا الاستخدام.
ومن التعابير الصحيحة والمعبرة كثيراً، وبوضوح، عن طبيعة هذه الكلمة، قول أحدهم: (إنّ السياسي الناجح هو من يحسن قراءة المعادلات الإقليمية والدولية). ومما يسترعي الانتباه في هذه المقولة أنّه من الصعب بمكان، إن لم نقل مستحيلاً، أن نستبدل كلمة أخرى بكلمة “معادلة” مرادفة لها – في حال وجودها – من غير تشويه للمعنى.
ويقول آخر: (إن التنظيم الفلاني هو الرقم الصعب في المعادلة الفلسطينية)، وبعيداً عن صحة هذا الإدعاء، فنحن لسنا بصدد ذلك، إلا أنّه تميز بحسن الاستخدام، بغض النظر عن سوء استخدام كلمة “الرقم” في هذا السياق.
ويقول البعض متحدثاً عن سياسته (إنّ الثوابت في معادلتنا السياسية هي كذا وكذا….). وما يميز هذه الجملة أنّها أكثر التصاقاً بمفهوم المعادلة الرياضي، فقد استقت منها مفهومها، وبعض مصطلحاتها، ومن ثم كانت أكثر دقة في التعبير. لأنه من الممكن أن يكون هناك ثوابت في المعادلة، فضلاً عن المتغير، وأحياناً التابع (الدالة)، ومثل هذه المعادلات يكثر في الفيزياء.
وعلى الجانب الآخر من ذلك، نجد أنّ سوء الاستخدام يأخذ أشكالاً مختلفة، وهذا شيء متوقع يفرضه سوء الفهم المتعدد الأشكال للكلمة نفسها. فنجد بعضهم يستخدمها مرادفاً لكلمة علاقة، مع أنّ السياق الواردة فيه خال من أي شكل من أشكال التوازن الذي تنشده المعادلة الذي هو أهم سماتها.
تضمنت إحدى المجلات مقالاً عنوانه: (علاقة الحماة بالكنة: معادلة تبحث عن حلول). وعيب هذا العنوان أنّ استخدام كلمة “معادلة” في هذا الموضوع على هذا النحو غير صحيح. لأننا نتحدث عن علاقة الحماة بالكنة، والمطلوب – وهذا ما يفهم من المقال – البحث عن حلول (ضوابط) لهذه العلاقة لمنع نشوب الخلافات بينهما، ولتفادي المنغصات التي تعتري مسيرتهما. وقد أطلق كاتب المقال على الضوابط المنشودة كلمة “الحلول” مضطراً، ليأتي ذلك منسجماً مع استخدامه لكلمة “معادلة”. وقد كان من الممكن اللجوء إلى كلمة معادلة في هذا الموقف لأنّه لدينا طرفان (الحماة والكنة)، ثم إنّ هناك توازناً منشوداً بين الطرفين يجب إيجاده ليخلّص العلاقة من شوائبها. غير أنّه في هذه الحالة ينتفي مبرر وجود كلمة “حلول” في العنوان، لأنّ الحلول ستكون عندها في إيجاد المعادلة نفسها، أي بإخراجها إلى حيز الوجود من خلال خلق التوازن. لذلك من الممكن أن يكون العنوان، على سبيل الذكر لا الحصر، على النحو التالي: (علاقة الحماة بالكنة: مشكلة تبحث عن حلول) أو (علاقة الحماة بالكنة تبحث عن ضوابط) أو (معادلة الحماة والكنة: كيفية تحقيق ذلك) أو ما كان من ذلك مدانيا.
ويقول ناقد وأكاديمي عربي عن أدب نجيب محفوظ: (كانت شخصيات محفوظ في بداية مشواره نمطية واضحة، ولكنها فيما بعد تحولت إلى شخصيات رمزية وفكرية إذ أصبحت الشخصية معادلة فكرية). إنّه من غير الواضح للمتلقي العادي ماذا يعني الناقد بجملة “أصحبت الشخصية معادلة فكرية”؟. هل يعني بذلك أنّه قد أصبح لكل شخصية من شخصياته رؤية فكرية محددة؟، أي أنّ كل شخصية أصبحت تمثل تياراً فكرياً بعينه. أو أنّه يقصد أنّ لكل شخصية مُعادِلاً فكرياً، أي أنّ الشخصية تعادل تياراً فكرياً، ولكن من غير أن نعي طبيعة هذا التعادل. أو غير ذلك، والله أعلم. ولو أمعنا النظر في هذ الجملة لوجدناها عارية عن أي معنى، حقيقياً كان أم مجازياً. بل إنّ هذا التعبير، وبغض النظر عما يقصده الكاتب، غير صحيح من الناحيتين المنطقية واللغوية. لأنّه وإن أجاز بعضهم للأديب التحرر من بعض القيود التي تعيق عمله الإبداعي، لأنّ هذا من مستلزمات الصنعة الفنية في الأدب، بيد أنّ الناقد يختلف كثيراً عن ذلك. لأنّ للنقد لغة خاصة به، وإن أراد أحد استحداث مصطلح جديد، نقدياً كان أو فكرياً أو غير ذلك، فلا بد من تعريفه قبل الشروع في استخدامه. ومن المحتمل أن يكون الناقد أوجد تعبيره بالقياس على التعبير الدارج “معادلة سياسية” أو “معادلة اجتماعية”. غير أنّ التعبيرين الأخيرين صحيحان ولا غبار عليهما. لأنّ أي مجتمع ينعم بالاستقرار السياسي يحكمه أو يعبرّ عن وضعه السياسي معادلات سياسية؛ وفي أي مجتمع ينعم بالسلام الاجتماعي هناك معادلات اجتماعية تعبر عنه. وهذا خلاف التعبير المستخدم “المعادلة الفكرية”، لأنّ هناك تيارات سياسية في التعبير الأول، وطبقات وشرائح اجتماعية في التعبير الثاني، توجد وتتعايش في مجتمع ما، والتوازن (هنا يمثل الاستقرار) بين هذه التيارات أو بين هذه الطبقات أفرز المعادلتين المشار إليهما. لكن في التيارات الفكرية، ورغم وجودها في مجتمع ما كما في الحالتين السابقتين، ليس هناك “معادلة فكرية” تحكم مجتمعاً ما، بل هناك فكر طاغ، أو مهيمن، على هذا المجتمع أو ذاك. ثم إنّ هذا التعبير – لو صح جدلاً – فإنّه يستخدم لوصف المجتمعات لا الأشخاص. هذا، ولو استخدمناه مجازاً في وصف شخصية ما فهذا يشير إلى أنّ لهذه الشخصية فكراً انتقائياً (جمع فكره من مدارس فكرية مختلفة)، وهذا من جهته أفرز معادلة فكرية أخذت شكلها بعد صراع بين هذه التيارات. بيد أنّه في هذه الحالة ستؤول كل شخصيات محفوظ إلى نسخ مكررة، وقد لا نلحظ أية فروق بينها، وهذا ليس من عالم رواياته في شيء.
وهناك من يستخدم كلمة “معادلة” مرادفاً لكلمة “مساواة”، على اعتبار أنّ المعادلة شكل من أشكال المساواة. إلا أنّ هناك اختلافاً كبيراً بينهما. فالمساواة تضم في طياتها شكلاً من أشكال العدالة، في حين المعادلة – ورغم أنّ جذرها اللغوي عَدَلَ – ليست بالضرورة أن تكون كذلك عموماً. وأوضح مثال على ذلك أننا عندما نتحدث عن (المعادلات الإقليمية أو الدولية) فإنّ هذا لا يتضمن، ولا يوحي، بأنّ هذه العلاقات تتسم بالعدالة. لأنّه من الممكن أن يشوب هذه المعادلة نوع من الإجحاف، وهذا هو معظم الحال. غير أنّها تحوي نوعاً من التوازن الذي يضبط حركة أطرافها، حتى وإن كان هذا مصطنعاً، ومرحلياً، وغير مقبول أحياناً لبعض الأطراف. وبعضهم يستخدم كلمة “معادلة” بمعنى “مشكلة”، وقد يكون مبعث ذلك أنّ كلتيهما تبحثان عن حلول. وعلى الرغم من اشتراكهما في هذه التطلعات نظرياً، وأنّ كلتيهما تضمان أطرافاً عدة، إلا أنّ “المشكلة” تفتقد للتوازن الذي هو أهم سمات المعادلة، كما أشرنا آنفاً. بل قد تكون المشكلة حالة انتقالية بين معادلتين.
وربما الأسوأ من سوء الاستخدام هو أن بعض الكتّاب يزج هذه الكلمة في النص على الرغم من أن طبيعة الموضوع المطروق لا تتطلب ذلك. ولاندري إن كان الدافع عند هذا الكاتب هو اصطياد بعض التعابير الحديثة، وحشوها في النص، بغض النظر عن مدى مواءمتها للسياق، أو لدواعي البلاغة، أو ربما نتيجةً لعدم سيطرته على الألفاظ. وهذا يدفع القارئ إلى أن يعيد قراءة النص أكثر من مرة ليتعرّف على “المعادلة” التي يشير إليها الكاتب ضمن ذلك الموضوع، ويجهد نفسه في البحث عنها بغير جدوى. وبهذا يضع الكاتب عبئاً كبيراً على عاتق القارئ، الذي يتحتم عليه فرز الكلمات الضرورية في النص عن تلك الفائضة. وكأن مهمة القارئ أصبحت إعادة إنتاج النص مرة أخرى كي يستطيع فهمه. وخاصة أن هذا يجري في العديد من الدراسات “الأكاديمية”.
وصحيح أنه لدواعٍ جمالية، أو فكرية، على الكاتب ألاَّ يقتصد في التعبير، أكثر من اللازم، بيد أن الإسراف فيه مبعث إرباك كبير؛ لأن الإسراف إن لم يُضِع الفكرة الأساسية في النص، فسيضعفها عندما ترد ضمن محلول ممدد من الألفاظ. وقد تكون هذه سمة عامة لكتابات بعض الكتّاب في إطار ما يسمى “الثقافات الشفاهية”(4)، ومن الممكن غض الطرف عن بعض الألفاظ والعبارات التي تعطي مزيداً من الشرح والتفصيل. بيد أنه في حالة كلمة “المعادلة”، التي نحن بصددها، و “أخواتها” من حيث الفاعلية والتأثير، فالأمر مختلف تماماً. لأنها قد تكون إحدى الأدوات الأساسية في التعبير عن الموضوع المدروس.
ففي إحدى الدراسات حول “الشعراء الصعاليك” لإحدى المتخصصات في الأدب العربي التي تتبوأ موقعاً أكاديمياً تقول: (كانت القبيلة وحدة الحياة الأولى في المجتمع الجاهلي تجمع بين أبنائها رابطة تقوم على مرتكزين أساسيين هما: (وحدة الجماعة) و(وحدة الدم). في ظل هذه المعادلة كانت جميع القوانين تنظم العلاقة بين الفرد والجماعة….). والسؤال الآن: أين المعادلة في هذا الموضع؟ فهل تقصد بها الرابطة التي تجمع بين أبناء القبيلة الواحدة؟ أم المرتكزين اللذين تقام عليهما هذه الرابطة (وحدة الجماعة) و (وحدة الدم)؟ أم غير ذلك؟ وبالقراءة المتأنية، والتي تتطلبها الدراسات الأكاديمية، وفي ضوء ما شرحناه حول المعادلة، لانعثر على أية معادلة في هذا النص. وربما تظن كاتبة الدراسة أن ثمة معادلة تحكم هذه الرابطة أو تعبّر عنها طالما أن لهذه الرابطة مرتكزين، وللمعادلة طرفين. وصحيح أن تلك الرابطة علاقة تنظيمية تربط أفراد القبيلة، إلا أنها تفتقد للتوازن، الذي هو أهم سمات المعادلة. وأخيراً قد يكون ثمة معادلة من نوع ما كامنة في النص، ولكن من الصعوبة بمكان العثور عليها.
وصفوة الكلام أنّ “المعادلة” مصطلح رياضي، ولد، وتبلور، في رحاب الرياضيات، واكتسب شكلاً واضحاً لا لبس فيه ولا غموض. ولا ضير من استخدامه في حقول المعرفة الأخرى، بل من الممكن أن يتبوأ مكاناً مرموقاً في عالم المصطلحات السياسية إن أُحسن استخدامه. ومما يعزز ذلك أنّه في الاستخدامات غير الرياضية يتسم بمرونة كبيرة لم نعهدها منه في الرياضيات. وهذا هو شأن كل مصطلح رياضي استخدم في المجالات الأخرى. غير أنّه يجب ألا تكون هذه المرونة إجازة للاستخدام العشوائي.
الحواشي:
- لم تظهر المصطلحات الجبرية المتداولة الآن إلا في بدء القرن السادس عشر الميلادي، ولم تدخل في برامج المدارس المتوسطة إلاّ في القرن التاسع عشر الميلادي.
- الثَّمد: الماء.
- ” أو” في هذ الجملة هي “أو” الإباحة، وهي الواقعة بعد الطلب وقبل ما يجوز فيه الجمع، نحو “جالس العلماء أو الزهّاد”.
لمزيد من المعلومات حول الشفاهية والكتابية انظر: “الشفاهية والكتابية”، والترج. أو نج، ترجمة: د. حسن البنا عز الدين، عالم المعرفة (الكويت) 182.
التتميم ودلالاته اللغوية والرياضية
تستخدم أحياناً بعض المفردات في اللغة العربية من غير أن تكون معرفتنا بها عميقة، بل قد تكون سطحية وعامة جداً، وأحياناً ضبابية، وتعوزها معرفة بأبعاد الكلمة. وبعضهم يعتقد – وهذا ما نلحظه من خلال عديد من الكتابات – بهلامية بعض المفردات في اللسان العربي. إنّ عدم معرفتنا بأحد أبعاد كلمة ما لا ينفي وجود هذا البعد، هذا فضلاً عن التشوه الجمالي، والمعنوي، الذي سينالها من سوء الاستخدام. وبعضهم يظن أنّ مبعث ذلك ماهية اللغة نفسها. أو أنّ هناك بعض المفردات مصابة بالتشوه الخَلقي. وهذا التبرير يسوقه بعضهم لإضفاء الشرعية على قصورنا في معرفتنا اللغوية.
إنّ مسيرة حياة أية كلمة تبدأ بلفظة بسيطة، وقد تحمل في طياتها بذور مناحي تطورها، أو قد تكتسب ذلك لاحقاً. والاستخدام المتواصل يوضح معناها، ويعمقه، إلى أن يتبلور ضمن إطار مرن، يخضع لبعض أشكال التقلص، والتمدد، طبقاً لبعض المتغيرات. وتعزز هذه المسيرة بعض الضوابط اللازمة لحسن الاستخدام هذا. بيد أنّ ثمّة كلمات لم تكتشف بعد القواعد الناظمة لاستخدامها، أو لم تتبلور على نحو واضح. وقد يعزى سبب ذلك لعدم وجود الفكر اللازم لهذه العملية، أو لعدم توفر أدوات الاكتشاف. والفكر الرياضي من حيث هو أداة قد يساهم مساهمة فاعلة في القيام بهذه المهمة في بعض الحالات. ومما يعزز ذلك أن مثل هذه المحاولات لا تخضع للعامل الذاتي، أو أكثر تحديداً، للمزاج الشخصي، لأنّ الرياضيات معرفة موضوعية. بل إن العامل الذاتي يتجسد في عملية الربط بين هذين المجالين، من خلال انتقاء الأدوات الرياضية المناسبة، ومن غير أن يمس ما تحمله الكلمة من معنى.
ومما لا شك فيه أنّ معنى أية كلمة يتلون وفق الوسط المعني، ويستمد اللون من طبيعة ذلك الوسط. و لكل كلمة معنى لغوي ومعنى اصطلاحي، وهذا يقتضي اختلاف معنى الكلمة في السياق اللغوي عنه في الرياضيات، أو في غير ذلك من العلوم. وهذا لاخلاف عليه ولسنا بصدده. بل نحن أمام محاولة البحث عن ضابط يعصمنا من سوء الاستخدام لبعض المفردات اللغوية.
من هذه المفردات التي كثيراً ما تعاني في الاستخدام من عدم الدقة والوضوح كلمة “تتمة”. فنقول إنّ هاتين الفكرتين متتامتان، أو إنّ هذا الشيء يتمم ذلك، أو إنّ للنظرية كذا تتمة في النظرية كذا، وهكذا دواليك. ولتوضيح ما نرمي إليه، لنتوقف قليلاً عند واحد من الكتّاب العرب المتميزين الذين يكتبون عادة في مجالي الفكر والفلسفة، حيث يتحدث في إحدى المجلات العربية الرصينة عن تأرجح المشروع الحضاري العربي بين نموذجين فلسفيين: النموذج النهضوي المبني على مسألة “لماذا تأخرنا؟ ولماذا تقدموا؟”، والنموذج التحريري الاستقلالي المبني على مسألة متممة للأولى “لماذا احتلوا أرضنا؟ وكيف نقاومهم؟”. إلا أنّ الكاتب لم يوضح عملية التتميم هذه، أو بالأحرى، ما هو الإطار المعتمد أو المرجعية، لتقرير أنّ المسألة الثانية متممة للأولى. وعلى الرغم من جدية الطرح، والمعالجة الفكرية الرصينة، إلا أنّ الصورة الموجودة في ذهن الكاتب حول طبيعة التتميم هذه، غائبة عن ذهن المتلقي المدقق، أو – في أحسن الأحوال – ضبابية، وعرضة للتأويل، وللتفسير، الباعثين للتناقض. ثم إن عديداً من الطروحات لدى شريحة واسعة من الكتّاب التي تستخدم مفهوم التتميم بأشكاله المختلفة تكون غير معتمدة لأي إطار أو مرجع؛ وكأنّ للتتميم إطاراً مطلقاً يعيه الجميع، مسبقاً ومتفقاً عليه.
ومما لا شك فيه أنّه من غير الممكن أن تكون لغة ناضجة ومتمكنة كاللغة العربية لا تعبأ بمفرداتها، وأن تترك إحدى هذه المفردات على غاربها من غير أن تحدد إطارها بدقة. والأرجح هو قصورنا في سبر معاني بعض الكلمات، وتعاملنا السطحي معها، مما يحرمنا التحليق في فضاء المعنى الواسع وتعرف أبعاده عن كثب.
التتميم لغوياً
بالعودة إلى (أساس البلاغة) للزمخشري نجد: (وذهبت فلانة إلى جارتها تستتمها أي تطلب منها تِمَّة وهي ما تُتِم به نسجها من صوف أو شعر أو وبر. وهذه الدراهم تُمام المائة وتتمتها. واجتمعوا فتتامُّوا عشرة. وولدت لِتَمام وتَمام).
وفي معجم (محيط المحيط) للبستاني نجد: (وتمَّ على أمره أمضاه، ومنه الحديث تِمَّ على صومك أي أمضِهِ. التام ضد الناقص. التّتِمَّة التَّمامة يقال هذه الدراهم تتمة المائة أي ما تتم بها. التتميم يرد على الناقص فيتممه والتكميل يرد على المعنى التام فيكمله. إذ الكمال أمر زائد على التمام، والتمام يقابل نقصان الأصل، والكمال يقابل نقصان الوصف بعد تمام الأصل).
ومما يجدر الإشارة إليه إلى أنّ مفهوم التتميم في مواصفات كتاب الرسائل هو أن يؤتى بجميع المعاني التي تتم بها جودة الكلام كقول عمر ابن الخطاب رضي الله عنه في صفة الوالي: “يجب أن يكون معه شدة في غير عنف ولين في غير ضعف”، وهذا معنى اصطلاحي ليس له علاقة بموضوعنا هذا.
التتميم رياضياً
يُعَد مفهوم التتميم واحداً من أبرز المبادئ البسيطة في مقدمة نظريات المجموعات، التي أضحت جزءاً أساسياً من المناهج المدرسية في مختلف المراحل. ونجد هذا المفهوم في أي كتاب مدرسي يتضمن مبادئ هذه النظرية، في باب العمليات على المجموعات.
إنّ فرق المجموعتين س و ع – تعريفاً – هو مجموعة العناصر التي تنتمي إلى المجموعة الأولى ولاتنتمي إلى المجموعة الثانية. وينتج من ذلك أنّ الفرق بين س و ع يختلف عن الفرق بين ع و س. وتتمة مجموعة ما بالنسبة لمجموعة شاملة نسبياً (1)، هي الفرق بين المجموعة الشاملة نسبياً وبين هذه المجموعة، أي هي مجموعة العناصر الموجودة في المجموعة الشاملة نسبياً، ولا تنتمي إلى المجموعة المفروضة. ومن ثم فلإيجاد تتمة مجموعة لا بد من وجود مجموعة شاملة نسبياً نعدها الإطار أو المرجع لذلك، وإلا أضحت العملية عارية عن أي معنى. هذا وليس من المستغرب غياب الإطار أو المرجع عند عديد من الكتّاب في بعض الأحايين، لأنّه كان مفقوداً، حتى في الرياضيات، حينما كانت نظرية المجموعات في طور التكوين في مطلع القرن العشرين، فلم يكن مفهوم المجموعة الشاملة نسبياً قد شرع في استخدامه في ذلك الوقت، وقد تولد عن ذلك بعض المحيرات المنطقية، التي كادت أن تنسف نظرية المجموعات برمتها. ومن أشهر تلك المحيرات ما يسمى محيرة رسل (Russel Paradox) (2)، وهذا ما أفضى إلى حتمية وجود إطار للتحرك.
ويمكن الاستنتاج بسهولة أن متممة متممة مجموعة يساوي المجموعة نفسها، أي أنّ القيام بعملية التتميم مرتين متتاليتين على مجموعة ما يعود إلى المجموعة نفسها.
من الشكل نلاحظ أنّ أهم ما تتسم به هذه العملية هو أنّه لا وجود للعناصر المشتركة بين المجموعة المعطاة س والمجموعة المتممة لها(3)؛ وكذلك فإنّ اتحاد (اجتماع) (4) المجموعة س ومتممتها يساوي المجموعة الشاملة نسبياً ك. وهاتان الصفتان تحكمان عملية التتميم وتضبطانها. وهما معيار للتأكد من صحة عملية التتميم نفسها.
المجموعة المخططة تمثل متممة المجموعة س بالنسبة للمجموعة الشاملة نسبياً ك.
ومما يجدر الإشارة إليه أننا نقول، في الهندسة المستوية، عن زاويتين إنّهمامتتامتان إذا كان مجموعهما يساوي تسعين درجة. وهذا التعريف ليس له علاقة البتة بما نحن بصدده، بل هو مجرد اصطلاح لا يفيد ولا يغني الاستخدام اللغوي.
رؤية جديدة للمفهوم اللغوي
إنّ في اللغة إقراراً بأنّ ثمة ما يشبه المجموعة الشاملة نسبياً، وإن لم نسمها صراحة. فعندما نقول: (وهذه الدراهم تمام المائة وتتمتها)، فإنّ المجموعة الشاملة نسبياً في هذا المقام هي المائة درهم، لأننا نبحث عن تتمة (هذه الدراهم) بالنسبة إلى المائة. وقد تكون هذه التتمة بالنسبة إلى العشرة أو الخمسين أو غير ذلك؛ وعندها تتغير المجموعة الشاملة نسبياً طبقاً للحالة المعنية. وعندما نقول: (ولدت لِتمام)، فهذا يعني أنّ الحامل أتمت مدة الحمل المقررة، والمجموعة الشاملة نسبياً هي مدة الحمل المعروفة عند المرأة. وقولنا: (واجتمعوا فتتاموا عشرة)، فالمجموعة الشاملة نسبياً وضوحاً عشرة، وأية مجموعة جزئية منها ومتممتها يساويان عشرة. وقولنا: (تمِّم الموضوع)، أي تمّمه إلى ما يجب أن يكون عليه، والمجموعة الشاملة نسبياً هي الصورة المثلى لما يجب أن يكون عليه هذا الموضوع. والتمام في اللغة، وفق (محيط المحيط) يقابل نقصان الأصل، فالمجموعة الشاملة نسبياً هنا تمثل الأصل.
وبعد التدقيق والغوص في أعماق معنى الكلمة نجد أنّ بذور الاستخدام الصحيح كامنة ضمن المعنى نفسه، ومن ثم فإننا نشحنها بطاقة معنوية جديدة. هذا ونحن لا نهدف إلى تطويعها بما ينسجم مع المفهوم الرياضي، بل إن غاية ما نقوم به هو استخدام المفهوم الرياضي أداةً في إضاءة الجوانب المظلمة في معنى الكلمة. لأننا قد لاحظنا مما سلف أنّ المعنى اللغوي لم يخرج عن روح المعنى الرياضي، وأنّ الرياضيات قد ضبطت الاستخدام الصحيح من خلال القاعدتين الآنفتي الذكر (اجتماع المجموعة ومتممتها يساوي المجموعة الشاملة نسبياً، وتقاطعهما يساوي المجموعة الخالية).
وصفوة الكلام أنّه على الرغم من بساطة فكرة التتميم في الرياضيات إلا أنّها تقوم بدور كبير في إغناء المفهوم اللغوي وبلورته. وحينما يكون المفهوم الرياضي ماثلاً في ذهننا فإننا لا نجد أية صعوبة في استخدامها في بقية المجالات، بل ونقي أنفسنا الوقوع في شرك سوء الاستخدام.
الحواشي:
- المجموعة الشاملة نسبياً هي التي تتضمن جميع العناصر المدروسة، ويطلق عليها أحياناً المجموعة الكلية.
- نسبة للفيلسوف والمنطقي الإنكليزي برتراندرسل.
- ونعبر عن ذلك بلغة نظرية المجموعات بقولنا: إن تقاطعهما يساوي المجموعة الخالية. وهذه الأخيرة هي المجموعة التي لاتحوي أي عنصر.
- اجتماع مجموعتين يساوي مجموعة العناصر التي تنتمي إلى إحداهما على الأقل.
الإسقاط ودلالاته اللغوية والرياضيات نحو بلورة مصطلح نقدي جديد
من الكلمات المستحدثة في اللغة العربية، ويُحتكر تداولها بين النخبة، في أدبياتنا المعاصرة، كلمة “الإسقاط”، وهي كلمة وليدة، لم تزل في طور النضج والتبلور. واستخدامها، لم يزل، ضيق الانتشار، لأسباب عديدة، سيرد ذكرها. لذلك، قلما نجد سوء استخدام لها، كما يحصل مع غيرها من الكلمات المستحدثة في اللغة العربية، التي انتشر تداولها على نطاق واسع(1). وتنبع أهمية هذه الكلمة، من أننا لانجد، كلمة مفردة أخرى، في اللغة العربية، تماثلها في المعنى. بل، والأهم من ذلك،أنه من الصعوبة بمكان، أن نجد كلمة أخرى تتقاطع معها بالمدلول، وتؤدي الوظيفة المرجوة منها نفسها وهي غير قليلة. ومما يزيد هذه الأهمية، أنها مفهوم ثري، يمكن توظيفه في عديد من القضايا الفكرية، والفلسفية، والأدبية، وغير ذلك، هذا فضلاً عن إغناء المحصول اللغوي نفسه، بل والأكثر من ذلك فإنه وفي بعض المواضع، قد لانجد جملة كاملة في اللغة، تعبر بدقة عنها، أو يمكن أن تقوم مقامها.
وجلَّ ما نرمي إليه، هو بلورة هذا المفهوم وتجسيمه، انطلاقاً من أرضية رياضية، لتتضح ماهيته، ومن ثمَّ أبعاده، ليتخلص من ضبابيته، ويشيع استخدامه، واضعين نصب أعيننا، أنَّ مفردات أية لغة، يكتب لها الحياة أو الموت، طبقاً للتداول أو عدمه. وسلاحنا في ذلك، أنَّ للعلوم، وفي طليعتها العلوم الرياضية، أثراً بيّناً، في إغناء دلالات كثير من المفردات اللغوية وتعميقها.
الإسقاط لغوياً
وبالعودة إلى (لسان العرب، لابن منظور)، نجد في مادة “سقط” ما يلي: (السَّقْطَة: الوقعة الشديدة. سقط يسقط سقوطاً، فهو ساقط وسَقوط: وقع. والمَسْقَط، بالفتح: السقوط. وسقط الشيء من يدي سقوطاً. ومَسْقِط الشيء ومَسْقَطُه: موضع سقوطه (الأخيرة نادرة). وقالوا البصرة مَسْقَط رأسي ومَسْقِطه. وتساقط على الشيء أي ألقى نفسه عليه، وأسقطه هو. والمَسْقِط مثال المجلس: الموضع. يقال: هذا مسقط رأسي، حيث ولد، وهذا مسقط السوط، حيث وقع، وفلان يحن إلى مَسْقِطِه أي حيث ولد. ويقال: سقط الولد من بطن أمه، ولايقال وقع حين تلده. وأسقطت المرأة ولدها إسقاطاً، وهي مُسْقِط: ألقته لغير تمام. والسَّقَط والسَّقَاط: الخطأ في القول والحساب والكتاب. وأسقط وسقط في كلامه وبكلامه سقوطاً: أخطأ. السَّقْطَة: العثرة والزّلة).
هذا وهناك معان أخرى، ليس لها علاقة ببحثنا. كماأنَّ المعنى في معاجم أخرى، كتاج العروس للزبيدي، وأساس البلاغة للزمخشري، وغير ذلك من المعاجم اللغوية، لايخرج عن السياق المذكور آنفاً. وبالعودة إلى بعض معاجم المصطلحات الأدبية(2). فإننا لانجد أثراً لهذه الكلمة، وسبب ذلك كما أشرنا، أنها لم تزل في طور التكوين. وهذا هو الدافع، وراء هذه المحاولة. وما تجدر الإشارة إليه أنَّ جلَّ المعاجم الفلسفية لم تتضمن هذه الكلمة، بيد أنها وردت في (الموسوعة الفلسفية العربية) الصادرة عن معهد الإنماء العربي في لبنان على أنها مصطلح نفساني. وقد نقلت إلى اللغة العربية مع ترجمة نصوص فرويد وتدريس النظرية التحليلية في علم النفس في الجامعات العربية. وهذا المصطلح النفساني قد وضعه فرويد، وليس له أية علاقة بالمفهوم الذي نحاول بلورته.
الإسقاط رياضياً
إنَّ الإسقاط، في الأساس مفهوم رياضي، ولم يستخدم خارج هذا الإطار قديماً. وهدفنا الآن، ليس تقصي وتحديد بداياته، في عمق التاريخ الرياضي. بل ستكون وقفتنا معه ضمن المنظور الرياضي، لتحديد ماهيته، ومن ثمَّ استخدامه أداة لتكوين وإنضاج مفاهيمه في الأطر الأخرى.
ومن الجدير بالذكر، أنَّ كتب الرياضيات، عند الأقدمين من العرب، لاتخلو من هذه الكلمة. فقد استخدمها، على سبيل الذكر لا الحصر، بهاء الدين العاملي في كتابه الشهير (الكشكول)، الجزء الثاني، في إحدى المسائل الهندسية.
إنَّ الرياضيات، هي السبّاقة في توليد هذا المفهوم، لذلك سيبقى المفهوم اللغوي، أسير المفهوم الرياضي. ولكي نحسن استخدامه في المجال اللغوي، لا بد أن يكون المفهوم الرياضي، واضحاً وماثلاً في ذهننا أثناء ذلك، لأنَّ المفهوم الرياضي، هو روح المفاهيم الأخرى. وأي محاولة لفهم معنى الكلمة وبلورتها خارج هذا الإطار، هي نوع من العبث غير المجدي.
وللوقوف على مفهومها الرياضي، لا بد من استعراض ذلك في عدة مناح من الرياضيات، ونبدأ رحلتنا هذه بالهندسة. نقول، إنَّ المسقط القائم لنقطة ما في الفضاء على مستو هو موقع العمود النازل من هذه النقطة على المستوي.
أي هو أقرب نقط هذا المستوي إلى هذه النقطة. ويمكن الحصول عليها برسم المستقيم المار من النقطة ب، العمودي على المستوي ك، ونقطة تقاطع المستقيم مع المستوي هي المسقط القائم. نسمي المستوي ك مستوي الإسقاط. ومن ثمَّ، فإنَّ مسقط شكل هندسي ما، هو مجموعة مساقط نقاط هذا الشكل. فمثلاً، مسقط قطعة مستقيمة على مستو معين، هو القطعة المستقيمة الواصلة بين مسقطي نقطتي، بداية القطعة المستقيمة الأصلية ونهايتها، على هذا المستوي. وإنَّ عمليات تمثيل المجسمات الفراغية على مستويات ما يطلق عليها عمليات إسقاط هذه المجسمات على تلك المستويات.
وعلى الرغم من أنَّ الإسقاط القائم، المعرّف آنفاً، حالة خاصة من الإسقاط المائل في الهندسة(3)، إلا أنَّ هذا بعينه، ما يعنينا في هذا المقام. وذلك لأنه كاف، من حيث هو أداة لتوضيح مانصبو إليه. والإسقاط العمودي على مستويين متعامدين يسمى إسقاط مونج، نسبة للعالم الفرنسي جسبار مونج “Gaspard Monge” (1746 – 1818)، الذي يعد أول من وضع أسس الهندسة الوصفية على نحو مترابط. وهذا النوع من الإسقاط أكثرها شيوعاً وأبسطها، لأنّ هناك أنواعاً أخرى لاحاجة لنا بها.
وتجدر الإشارة إلى أن، بعض الكتب الهندسية، تستخدم كلمة “الارتسام”، عوضاً عن الإسقاط، ومرتسم عوضاً عن مسقط.
والإسقاط يصون بعض خواص الشكل الأساسي، فيورّث هذه الصفات إلى المَسْقَط. وعندها نقول عن هذه الخواص، إنها صفات إسقاطية. فمثلاً، الأشكال المتقاطعة، تبقى كذلك بعد الإسقاط. فالتقاطع صفة إسقاطية، وكذلك توازي المستقيمات، وغير ذلك. وليس من الضروري، أن يختلف المَسْقَط عن الأصل بالقياس فقط، بل من الممكن أن يختلفا بالنوعية أيضاً. فمثلاً، المسقط الأفقي، لمستقيم شاقولي، على مستو أفقي، هو نقطة في هذا المستوي. وليس ضرورياً أن يكون مسقط دائرة هو دائرة أخرى، بل، من الممكن، أن يكون قطعاً ناقصاً، أوقطعاً زائدة، أوغير ذلك. والمسقط الجانبي لمربع أفقي، هو قطعة مستقيمة توازي خط الأرض، والمسقط الأفقي، لمربع واقع في مستو أفقي، هو مربع آخر يساويه.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ الإسقاط يختلف عن الخيال ضمن سطح عاكس.
ويوجد معنى آخر، لمساقط نقطة في الهندسة التحليلية، وعلى الرغم من صلته بالمفهوم الهندسي الآنف الذكر، لن يزيد الوقوف عنده الموضوع وضوحاً. ويوجد أيضاً تعميم لمفهوم الإسقاط التحليلي، نجده في الجبر المجرد، وهو خارج اهتمام هذا المقال.
هذا وهناك فرع في الرياضيات يدعى “الهندسة الإسقاطية – “Projective geometry ، يعنى بدراسة خواص الأشكال، التي تصمد ولايغيرها الإسقاط(4).
المفهوم الحدسي للإسقاط
يمكن أن نفهم الإسقاط، من خلال ما يسمى ” الفانوس السحري”، وذلك عندما نرى الصورة المُسْقَطة (المَسْقَط) على شاشة مقابلة للفانوس.
والإسقاط، ببساطة، يعني كيف نرى الشيء المُسْقَط من خلال مركز الموقع الذي نريد أن يتم الإسقاط عليه. وتعدد مواقع الإسقاط، يفضي إلى تعدد واختلاف شكل المَسْقَط. ومفهوم الإسقاط، في نفسه، لايتضمن مايشير إلى عدد إمكانيات ذلك. سقط الشيء (في اللغة): وقع من أعلى إلى أسفل، أي أنه يتم في منحى واتجاه واحد. وهذا مرتبط ومحكوم، بالجاذبية الأرضية. في حين في الرياضيات، يكون الإسقاط، في مختلف الاتجاهات. وهذا نابع من أن الرياضيات، تتميز عن غيرها من العلوم، في أنها تنعم بدرجة أكبر من الحرية في كثير من الأحايين.
عزلة هذا المفهوم
هذا ومن الأسباب الكامنة، وراء إحجام البعض عن استخدام هذه الكلمة، هو أنها غير مألوفة خارج الوسط الرياضي، واستخدامها على نحو صحيح يتطلّب فكراً هندسياً. وقد يكون هناك حاجز نفسي، أمام بعضهم، يحول دون استخدامهم لها. ومبعث ذلك، عدم الثقة والاطمئنان لسلامة مفهومها الرياضي عندهم. ومن المحتمل، أن يكون المانع، عند القلة، هو افتقارهم للملكة الفضائية (الفراغية)، ومن ثمَّ القدرة على التصور. ومعظم هذه الأسباب، تعود عند البعض، إلى موقفهم السلبي من الهندسة عامة، والهندسة الفراغية خاصة، نتيجة عدة عوامل مختلفة، تعود جذورها، إلى المراحل الدراسية. وهذا في نفسه، محطَّ اهتمام التربويين، في عديد من بلدان العالم. لأن تكوين الفكر الهندسي، من القضايا التربوية، التي تستحوذ على اهتمام المؤسسات التربوية، لأهمية ذلك في عديد من المجالات العلمية.
تجريد الإسقاط
إذا حاولنا بلورة، المفهوم المجرد للإسقاط، انطلاقاً من المفهوم الرياضي، ومحكومين بضوابطه، بحيث يكون المفهوم الثاني روحاً للأول ومرجعيته، فإننا نستطيع أن نقول: إن الإسقاط، لشيء ما في إطار معين، هو صيرورة (مآل) هذا الشيء، ضمن ذلك الإطار. وهذا الأخير، هو موقع، بالمفهوم المجرّد للكلمة، ومن الممكن أن يكون: الزمانَ أو المكانَ المراد الإسقاط عليهما، أو المستويَ الفكري، أو غير ذلك. وفي هذا المفهوم المجنّح، نتمتع بدرجة الحرية نفسها التي عشناها في رحاب الرياضيات، ومن ثمّ، لم نعد أسرى للجاذبية الأرضية.
ومجال توظيف هذا المفهوم، في مجال الأدب عامة، والنقد الأدبي خاصة، رحب جداً. ولا سيما أنه، يعبِّر عن كثير من المواقف، بدقة تصويرية متناهية، تعجز أبلغ العبارات عن القيام بها. ومما يعزّز هذا التوجه هو (……. أن لغة النقد – وقد ارتبطت كما رأينا بالمفهومات – بخلاف لغة الإبداع – تتعامل مع المصطلحات المحددة، أكثر من تعاملها مع المفردات المطلقة، أوهي بكلمة أدق لغة مصطلحات في نفسها تتطلب كما تتطلب أية مصطلحات علمية أربعة أمور هي: تثبيت ألفاظها، وتحديد مفهوماتها، وإدراك السياق الثقافي لنشأتها وتطورها، والوعي التام برحلتها…..)(5).
ففي إحياء، كثير من الأعمال التراثية، وخاصة التي لها بعد سياسي، “إسقاط” معاصر لهذه الأعمال. ثمة كثير من الإبداعات الأدبية الحديثة، والمغلفة بلباس التاريخية، لها “إسقاطات” معاصرة، نحصل عليها، بإسقاط مكونات هذا العمل المختلفة، (الزمن، والحوار، والحوادث، والأشخاص، وغير ذلك)، على مستوي الحاضر. و”إسقاط القناعات الفكرية على نص ما، هي محاولة تطويع هذا النص بما ينسجم مع روح هذه القناعات، أوهي استنطاق هذا النص، بلغة هذه القناعات.
ومما يجدر الإشارة إليه، أنَّ هذا المفهوم يختلف تماماً، ولايتقاطع مطلقاً مع مصطلح الارتسام الأوليّ لـ (جيمس جويس)، الذي يدلُّ على النتف والانطباعات السريعة، التي تتعلق بالحياة السيكولوجية للكاتب. وهو يختلف أيضاً عن الارتسام الذي يهدف إلى تحديد الطابع الانفعالي، وإظهاره، من خلال اللغة. وكذلك يختلف تماماً عن مصطلح الترسيم في علم اللسانيات.
ومما نلاحظه، أنَّ في استخدام هذا المفهوم، اقتصاداً فكرياً ولغوياً كبيراً، وهذا مايرشحه، في يوم من الأيام، لأن يتبوأ مكانة خاصة بين مصطلحات النقد الأدبي الحديث.
الحواشي:
- من هذه الكلمات، على سبيل الذكر لا الحصر، كلمة أبعاد.
- (معجم المصطلحات الأدبية)، د. سعيد علوش، دار الكتاب اللبناني، 1985، و(المعجم الأدبي)، د. جبور عبد النور، دار العلم للملايين، لبنان، 1979، و(معجم المصطلحات الأدبية)، إبراهيم فتحي، المؤسسة العربية للناشرين المتحدين، تونس، 1986.
- نجد تعريف الإسقاط المائل، وما يتعلق به من نظريات، في كتب الهندسة الفراغية في المرحلة الثانوية.
- من أبرز من ساهم فيها الرياضي الفرنسي “بونسيليه – Poncelet” (1788 – 1867)، عندما كان أسير حرب في روسيا عام 1813.
- مجلة “المعرفة” السورية، العدد 347 آب “أغسطس” 1992، الصفحة 97.
التقاطع و دلالاته اللغوية والرياضية
من مفردات اللغة العربية التي طرأ تطور على استخدامها في حياتنا المعاصرة كلمة “تقاطع”. ونجدها في متن معظم أمات الكتب اللغوية بدءاً من( لسان العرب ) لابن منظور وانتهاء بـ (محيط المحيط)للبستاني، ومروراً بغير ذلك من عيون المعاجم العربية. بيد أن الشيء المستحدث واللافت للانتباه هو طريقة استخدامها. ورغم أن هذا أمر طبيعي مع تعاقب صروف الزمان، لم يزل المزاج الشخصي يلقي بظلاله على طريقة الاستخدام هذه. وذلك لعدم وجود معيار لغوي أو ضابط فكري يلجأ إليه المستخدم ليقيه الوقوع في شرك سوء الاستخدام. ومما يجدر ذكره أننا قد، لانجد كلمة في اللغة العربية تؤدي الوظيفة نفسها التي تقوم بها كلمة “تقاطع”. بل هي تؤدي وظيفة إن أُحسِن استخدامها ،كانت في غاية الروعة والدقة اللغوية. ومما يعزّزه في ذلك الصورة التي ينسجها مفهومها الحديث في مخيلة المستخدم والمتلقي على حد سواء. ومفهومها الحديث هذا قوامه الأساسي مفهومها الرياضي، بل هو بعينه. ومن ثم فاستيعاب مدلولها الرياضي يساعد كثيراً على استجلاء أبعادها، ويوضح الوظيفة الذي يمكن أن تناط بها، وكيفية استخدامها.
التقاطع لغوياً
وبالعودة إلى (لسان العرب) لابن منظور نجد أن (القَطْع :إبانة بعض أجزاء الجِرْم (الجسد) من بَعْض فصلاًً. قطعه يقطعه قطعاً وقطيعة وقطوعاً .وتقَاطَع الشيء: بأن بعضه من بعض).
وفي (محيط المحيط)للبستاني نجد (القَطْع: إبانة بعض أجزاء الجسم فصلاً).
ومما نلاحظه أن طبيعة التقاطع في الاستخدام اللغوي لم يغادر الإطار المادي :فهناك دوماً تأكيد على الجانب المادي، يتضح من خلال قولهم تقاطع الشيء: بان بعضه من بعض .
وهذا حال معظم الكتب اللغوية، قديمهاوحديثها، فقد بقي المفهوم حبيس إطار المحسوسات. بيد أنه من الممكن تجريده واستخدامه في إطار المعنويات، وأداتنا في ذلك المفهوم الرياضي. وهذا أمر مشروع لأن التجريد يتجسد في تقويم الصفات العامة للأشياء، بغض النظر عن الوقائع العينية: فنقوم بعزل الخصائص والصفات بِعَدِّها أفكاراً خالصة. ولتطوير مفهوم الكلمة، وتجريدها، نأخذ فكرتها بمعزل عن الشيء، أو الموقف الذي ولدت فيه. لأن الألفاظ المجردة في اللغة هي التي تدل على صفة غير محسوسةٍ، أو علاقة معنوية بين الكائنات، مثل الشجاعة، والشرف، ولا تدل على موجودات محسوسة كالحجر، والورق، وغير ذلك ؟.
التقاطع رياضياً
منذ القدم استخدمت كلمة التقاطع في مجالي الهندسة المستوية، والهندسة الفراغية. فنقول عن مستقيمين إنهما متقاطعان إذا اشتركا في نقطة واحدة، ونقول عن مستويين إنهما متقاطعان إذا اشتركا في مستقيم. وهذا مفهوم هندسي يمكن إدراجه في إطار المحسوسات لأنه لم يبارح الأشكال الهندسية، على الرغم من أن بعضهم يعد الأشكال الهندسية ضرباً من التجريد. إلاّ أنه مع ولادة نظرية المجموعات وتبلورها في مطلع القرن العشرين على يد الرياضي جورج كانتور(1) (G.Cantor)، أضحى للتقاطع مفهوم آخر، بل وطبيعة أخرى. ويمكن عد هذا المفهوم الوليد تجريداً وتعميماً للمفهوم الهندسي .
إن تقاطع مجموعتين من العناصر، وبغض النظر عن طبيعتهما، يساوي مجموعة العناصر المشتركة بينهما .
فتقاطع المجموعتين : { أ،ب،جـ } مع { ب،جـ،د،هـ } هو المجموعة { ب،جـ }. وتقاطع مجموعة حروف كلمة “ورد” مع مجموعة حروف كلمة “دوران” هو المجموعة {د،و،ر}، من غير مراعاة الترتيب، لأنه ليس بذي بال في المجموعات. ومما يجدر ذكره أنه ليس من الضروري أن تكون المجموعة في الرياضيات مقتصرة على الكائنات الرياضية، بل من الممكن أن تكون أي شيء آخر: طيوراً أو أقلاماً أو أفكاراً، ….. ويمكن تعميم مفهوم التقاطع على أكثر من مجموعتين، بحيث يشمل أي عدد منته من المجموعات ويساوي في هذه الحالة حصراً مجموعة العناصر المشتركة بين جميع المجموعات الداخلة في عملية التقاطع بلا استثناء. وقد يكون تقاطع عدد من المجموعات خالياً، وذلك عندما لا تشترك هذه المجموعات كلّها بأي عنصر. ونعبر عن ذلك بقولنا إن التقاطع يساوي المجموعة الخالية (2).
تجريد التقاطع
إن علماء فقه اللغة يقولون إن اقتصار أية لغة على الحسيات مؤشر على بدائية هذه اللغة، وعلى عجزها عن التجريد، ويرجحون في دراساتهم بأن المفردات الحسية أسبق في الوجود من المفردات المعنوية المجردة. وهذا يفضي إلى أن الاتجاه الطبيعي لتطور المعاني بالانتقال من المعاني المحسوسة إلى المعاني المجردة. وحينما انكب اللغويون، قديمهم وحديثهم، على دراسة أسباب تطور معاني الألفاظ، تطرقوا إلى الأسباب الداخلية، (النابعة من داخل اللغة)، وإلى الأسباب الاجتماعية، والأسباب النفسية، وحتى تأثير اللغات الأجنبية. غير أنهم أغفلوا تأثير الأسباب العلمية، وقد يعزى سبب ذلك إلى عدم وضوح هذا التأثير و تبلوره حتى الآن. إلا أنه ومما لاريب فيه أن للرياضيات أثراً بيناً على تطور معاني بعض المفردات في اللغة العربية، رغم عدم دراسة ذلك حتى الآن .
وإذا عدنا إلى المفهوم اللغوي للتقاطع، فإننا نجد أنه باستطاعتنا أن نقوم بتجريده، وذلك باستخدام مفهومه الرياضي، ليشمل كل الأشياء المجردة. فلم يعد تقاطع الشيء: إبانة بعضه من بعض فحسب، بل أضحى تقاطع شيئين هو البحث عن العناصر المشتركة بينهما، حتى وإن كانا شيئين مجردين. وفائدة هذا المفهوم تظهر في عديد من المناحي، فقد نجد تقاطع فكرتين أو أكثر، أو تقاطع منهجين، أو تقاطع معنى كلمتين أو أكثر، أو غير ذلك. فإذا نظرنا إلى الكلمات التالية: درج وحبا وحجل وخطر ودلف وهدج ورسف واختال وتبختر وتخلج وأهطع وهرول وتهادى وتأود(3) ، فإننا نجد- رغم الفروق بين معانيها – أن تقاطعها غير خال، وتحديداً هو المشي. فكل منها تدل على نوع معين من المشي: فدرج للصبي الصغير، وحبا للرضيع، وحجل الغلام أن يرفع رجلاً ويمشي على أخرى، إلى غير ذلك إلا أن العنصر المشترك بينها جميعاً هو الانتقال من موضع إلى آخر، بغض النظر عن طبيعة هذا الانتقال. ولو نظرنا إلى الجذل والابتهاج والاستبشار والارتياح والفرح والمرح والغبطة والطرب(4) ، فإننا نجد – رغم الفروق بين المعاني أن تقاطعها السرور. والأمثلة على ذلك كثيرة. وفي الفلسفة نجد تقاطع بعض المدارس الفلسفية قد يكون خالياً، ونجد ما يسميه بعضهم الفكر الانتقائي يتقاطع مع جميع خطوط المدارس الفكرية . ومن الاستعمالات البسيطة لهذه الكلمة ، التي كثيراً ما نصادفها : تقاطع طرق، وتقاطع معلومات .
الحواشـــي :
- عاش بين (1845-1918)، وينحدر أصله من الدانمارك، وولد في روسيا ، وقضى معظم حياته في ألمانيا .
- المجموعة الخالية هي المجموعة التي لا تحوي أي عنصر، أي أن عدد عناصرها صفر.
- من (فقه اللغة) للثعالبي، الطبقة الأولى، صفحة 151 .
- المصدر السابق.
خطأ لغوي من منظور رياضي الدخل المحدود
كثيراً ما نستخدم عبارة “ذوي الدخل المحدود”، في أدبياتنا السياسية والصحفية المعاصرة، لوصف شريحة واسعة من الناس، تعيش بتماس مع خط الفقر، وهي تتراوح بين دونه أو فوقه بقليل. وعلى النقيض من ذلك، فإن ذوي الدخول غير المحدودة – كما يوصفون – هم من كانت دخولهم كبيرة، وتفيض عنهم، بحيث يفضي ذلك، إلى تراكم كمي في ثرواتهم.
والدخل، لغوياً، ضمن هذا الإطار، يعني: المنفعة الناتجة عن رأس المال أو العمل. والترجمة العصرية، “للمنفعة”، أضحت “عدداً” معيناً، هو محصلة عدة عوامل، منها تأهيل الفرد، وطبيعة المجتمع والعمل، وغير ذلك. ومن ثم، فالدخل الفردي، وبغض النظر عن سويته، هو عدد. وهذا ينسحب أيضاً على متوسط الدخل الفردي في مجتمع ما، ومجموع الدخل الوطني (إجمالي الناتج الوطني). وبما أننا نتعامل مع كائنات رياضية (أعداد)، لذا، فإن للرياضيات حقا، بل إن عليها واجباً، في أن تدلي بدلوها في هذا المقام. فالأعداد، حيثما وجدت، وبغض النظر عن ماهية المعدود، فإنها خاضعة، لا محالة، لنصوص هذا العلم وضوابطه.
وبالعودة إلى رحاب الرياضيات، فإن الأعداد – ببساطة-، منتهية أو غير منتهية، أو بصيغة أخرى، محدودة أو غير محدودة. فأي عدد، ومهما بلغ من الكبر، ضمن المقاييس التي نعهدها أو نتصورها، فإنه يعد، من وجهة النظر الرياضية، عدداً منتهياً (محدوداً) كما أشرنا سابقاً.
ومما يعزّز هذا الموقف الرياضي، أنه في جوهره، ينسجم مع المعنى اللغوي لكلمة محدود. فجذر هذه الكلمة، حَدَدَ، وحدّدَ الأرض: جعل لها حدوداً، وكذلك حدّ الأرض: جعل لها حدوداً، فهي محدودة. وهذا، بغض النظر عن، كبر أو صغر الأرض. ومن ثم فمحدود في اللغة هو كل ما يمكن رسم أو تعيين أو تصور حدود له، بغض النظر عن اتساعه. ومن ثم، فإن كل الدخول، وبغض النظر عن كبرها وصغرها، توصف بأنها محدودة. وهذا يشمل حتى دخول أثرى أثرياء العالم. بل، والأكثر من ذلك، فإن مجموع كل هذه الدخول، عدد محدود. فاللغة صاغت اللفظة، ولم تضبط استعمالها، ضمن الإطار العددي، ثم أتت الرياضيات، لتقوم بهذه المهمة لاحقاً؛ على الرغم من أن المعاني، في اللغة العربية، تحكمها في بعض الأحايين، ضوابط عددية، إن جاز التعبير. فمثلاً، النيّف: من واحد إلى ثلاثة، والبضع: من الثلاثة إلى التسعة، والنفر (من العدد): ما بين الثلاثة إلى العشرة، وغير ذلك.
ومن الجدير بالذكر أننا نستطيع القول: “حب غير محدود” أو “عاطفة غير محدودة”، لأن كل ما هو إنساني لايمكن ترييضه (نسبة إلى الرياضيات)، بمعنى أنه لايمكن التعبير عنه رياضياً، أو أن يخضع إلى منطق الرياضيات أو لغتها. وهذا على خلاف “الدخل” الذي تنطبق عليه قواعد الرياضيات كونه عدداً. فقوانين الأعداد تنطبق عليها جميعها بغض النظر عن طبيعة المعدود؛ كما هو الحال في قواعد اللغة العربية في مسألة مطابقة العدد للمعدود في التذكير والتأنيث أو عدمها.
هذا ومن المحتمل،أن يكون سبب هلامية هذه الكلمة يعود إلى أن، مفهوم المنتهي واللامنتهي، قد تبلور رياضياً، في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، رغم أن البدايات، تعود إلى الحضارة الإغريقية. ومعرفة العرب والمسلمين، بهذا المفهوم، كانت ضبابية، وأسيرة النطاق الفلسفي والديني إلى حد كبير.
وقد يذهب ظن بعضهم، إلى أن هذا الاستخدام، مجازي للكلمة. والمجاز، انزياح في استعمال اللفظ عن دلالته الأصلية، إلى دلالة أخرى تدرك بقرينة. وهنا استخدمنا كلمة محدود، لوصف عدد؛ وكل الأعداد، التي قيد التداول، حتى الفلكية منها، توصف بأنها محدودة، ضمن الدلالة الأصلية للمعنى. ومن ثم، لا وجود للانزياح في هذا المقام.
وقد يكون، مبعث هذا الخطأ، الترجمة من اللغة الانكليزية، في بادئ الأمر، لأن هذا التركيب مستحدث في اللغة العربية، بل ربما كان مستورداً برمته. والكلمة في اللغة الإنكليزية هي (Low income)، والترجمة الحرفية لها: الدخل المنخفض، أو الدخل الضعيف، وهي الأصح. ومن المحتمل أن يكون، المترجم الأول لهذه الكلمة، قد استحسن كلمة محدود، وفضلها على بقية المعاني الأخرى، لسبب ما، ثم شاع هذا الاستخدام غير الصحيح.
ويبدو أن هذا الاستخدام الخاطئ أدى إلى إشاعة استخدام كلمة “محدود”، في عديد من السياقات، بمعنى منخفض أو ضعيف على خلاف معناها المعجمي والرياضي. فنقول، مثلاً، إن تفكير فلان محدود، للدلالة على انخفاض مستوى ذكائه. ونقول إن تأثير هذا الدواء محدود، أو إن تأثير الزلزال كان محدوداً، بمعنى ليس له قيمة، وغير ذلك كثير من الأمثلة. حتى أضحى معناها المتداول يطابق إلى حد كبير كلمة منخفض، أو ضعيف، والذي لا تعنيه أصلاً في المعجم. وإذا أردنا أن نجد كلمة في اللغة العربية تدانيها في المعنى، فربما كلمة “منته” هي الأقرب لها. وهذه الأخيرة تختلف تماماً عن معنى كلمة منخفض أو ضعيف الذي أُلبس كلمة “محدود”. والمشكلة أضحت أنه لم يعد هناك كلمة في اللغة العربية تقوم مقام كلمة “محدود” بالمعنى المعجمي لها. أي أنه أصبح يصعب أن نجد كلمة في اللغة العربية لوصف شيء ما بأن له حدوداً دون أن يعني ذلك،ضمناً، أن كميته منخفضة أو أن تأثيره ضعيف. وهذا يعد إفقاراً للغة العربية، عندما نطابق بين معنى كلمتين مختلفتين، من غير أن يكون هناك بديل عن الكلمة، التي هَجَرَت معناها المعجمي أو هُجّرت منه.
هذا ولا بد من الإشارة إلى أن سوء الاستخدام هذا حديث العهد في اللسان العربي. وبالعودة إلى كتب التراث نجد، على سبيل الذكر لا الحصر، في مؤلفات الفيلسوف يعقوب أبو يوسف الكندي (توفي في القرن التاسع الميلادي): “والأزمنة متتالية زمان بعد زمان، فإنه كلما زيد على الزمان المتناهي المحدود زمان، كانت جملة الزمان المحدود المزيد عليه محدوداً. فإن لم تصر الجملة محدودة، فقد زيد شيء محدود الكمية، فاجتمع منها شيء لا نهاية له في الكمية….”(1) نلاحظ كيف أنه استخدم كلمة “محدود” على النحو الصحيح لغوياً ورياضياً. ويقول الكندي أيضاً: “ولكل زمان محدود نهايتان: نهاية أولى، ونهاية أخرى”(2)، وذلك بغض النظر عن طول هذا الزمن، ومهما طال.
الحواشي:
- “كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى”، تحقيق: د. أحمد فؤاد الأهواني، دار إحياء الكتب العربية (القاهرة)، 1367 ﻫ / 1948 م، الصفحة 99.
- المرجع السابق، الصفحة 100.
المسافة ودلالاتها اللغوية والرياضية
يقول الكاتب إيتالو كالفينو: (كي يكون المرء مرتبطاً حقاً بالآخرين، يجب عليه أن يكون على مسافة منهم). أي أنّه كي يكون المرء على علاقة وثيقة مع الآخرين (قريباً منهم)، يجب أن يبقى بعيداً عنهم. نلاحظ كيف أنّ الكاتب استخدم “نوعين” من المسافة في الجملة نفسها. فالنوع الأول هو “مسافة وجدانية”، و هذا ما يقصده من عبارة “مرتبطاً بالآخرين”، والنوع الثاني هو “مسافة عِشْرَة”. وقوام النوع الأول الشعور، وقوام النوع الثاني الاختلاط الفعلي. وهذا محتوى قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه) حينما حضّ الأقارب على أن يتزاوروا وألاّ يتجاوروا. وهذه المفاهيم المتعددة للمسافة تستخدمها اللغة على نحو عفوي؛ وهي تجريد لمفهوم المسافة المألوف الذي نستخدمه في حياتنا اليومية. فعندما نعرّف التورية، وهي إحدى المحسّنات المعنوية، في علم البديع(1)، على أنّ الأديب يُورد لفظاً مفرداً له معنيان: بعيد خفي، وهذا ما يقصده الأديب، وقريب غير مراد، وهو ما يخيل إلى القارئ بالدلالة الظاهرة. أي أنّ التورية تستخدم مفهوماً معنوياً للمسافة، أو أكثر تحديداً، فإنّ قوام المسافة في هذا السياق هو “المباشرة، أو غير المباشرة،” في تحصيل المعنى لدى المتلقي. والأمثلة في القرآن الكريم على استخدامات المفهوم المجرد للمسافة كثيرة جداً. من ذلك، على سبيل الذكر لا الحصر (… وأن تعفوا أقرب للتقوى …) (البقرة:237). أي أنّ “المسافة” الفاصلة بين التقوى والعفو أقل من تلك التي بين اللاعفو والتقوى.
المسافة لغوياً
وفي العودة إلى “الصحاح” للجوهري نجد: (سوف – سُفْتُ الشيء أسوفه سَوْفاً، إذا شممته. والاستياف: الاشتمام. والمسافة: البُعْدُ، وأصلها من الشم. وكان الدليل إذا كان في فلاةٍ أخذ التراب فشَّمه ليعلم أعَلى قصدٍ هو أم على جَوْرٍ. ثم كثر استعمالهم لهذه الكلمة حتى سمَّوا البعد مسافة). أي أنّ المسافة، أصلاً، في اللغة العربية، تفترض البعد، وإلاّ لما كان هناك حاجة للاستياف (الاشتمام).
وفي “لسان العرب” لابن منظور نجد، أنّ (القُرب نقيض البعد. وفي الحديث: من تقرّب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً؛ المراد بقرب العبد من الله، عز وجل، القرب بالذّكر والعمل الصالح، لا قُرْب الذات والمكان، لأنّ ذلك من صفات الأجسام، والله يتعالى عن ذلك ويتقدس. والمراد بقرب الله تعالى من العبد، قرب نعمه وألطافه منه .. الليث: القربان ما قرَّبت إلى الله، تبتغي بذلك قربة ووسيلة. وفي الحديث: الصلاة قربان كل تقي، أي أنّ الأتقياء من الناس يتقربون بها إلى الله. والقُربان، بالضم: ما قُرِّب إلى الله، عز وجل وتقربت به).
نلاحظ في الحديث النبوي الأول، أنّه لم يتعرض إلى ماهية القرب، أو طبيعته، في الحالتين: قرب العبد من الله، عز وجل؛ وقرب الله تعالى من العبد؛ على الرغم من أنّه قد عُبِّر عنهما على نحو مادي ملموس، باستخدام الشبر والذراع. بيد أنّ الاختلاف هو في الطريق المسلوك، لتحقيق هذا القرب أو ذاك. وفي هذا تجريد لكلمة “قرب” المستخدمة للذات أو للمكان. كما ورد في “الصحاح” للجوهري: (الأبعَدُ: الخائن). وفي هذا تجريد آخر لمفهوم البعد أو المسافة، إذ يعدون الخيانة، التي هي خروج عن الجماعة، نوعاً من البعد عنها. هذا ومن الجدير بالذكر أنّه في كل لغة قدراً من التجريد. بل ويعد التجريد اللغوي أبسط أنواع التجريد. وعالم بلا مجردات، أو مفاهيم مجردة، لا يختلف كثيراً عن عالم بلا أعداد (ككائن رياضي مجرد).والتجريد أحد مؤشرات ارتقاء العقل البشري. وعلى خلاف ذلك فإنّ الارتباط بالواقع الحسي دليل على بدائية العقل. لذلك فلا عجب إذا عرفنا أنّ بعض علماء النفس يعرّفون الذكاء على أنّه القدرة على التفكير المجرد. وللتجريد نشوة عقلية خاصة به لا تدانيها نشوة أخرى. ومن ذلك نستطيع فهم قول أحد كبار الرياضيين الفرنسيين عندما عنون كتاباً له: “التجريد موسيقى العقل”.
ومن الجدير بالذكر أنّ ما يعوق عملية التجريد، أو أكثر دقة، اكتساب القدرة على التجريد عند الإنسان، هو استسلامه للغته، واعتبار مفاهيمها مطلقة. أو بمعنى آخر، إذا كان هذا الإنسان من النوع الذي تصنعهم اللغة، بدلاً من أن يصنعوا اللغة. فكلما قلّ تأثير اللغة فيه، وخاصة الجانب المحسوس منها، أصبحت قدرته على التجريد أكبر.
المسافة رياضياً
لقد اهتم الرياضيون، ومنذ القدم، بمفهوم المسافة بين مكانين أو نقطتين. وهذا قاد، كما أشرنا سابقاً، إلى “اكتشاف” المستقيم أو القطعة المستقيمة، الذي كان علامة فارقة، وربما نقطة تحوّل، في تاريخ الفكر الإنساني عموماً، وفي تاريخ الفكر الرياضي خصوصاً. وأضحى هناك عديد من النظريات الرياضية التي تتعاطى مع هذا المفهوم. وبعد تراكم المعارف الرياضية، أتى مفهوم ما يسمى اليوم الفضاء المتري metric space، الذي عرّفه الرياضي الفرنسي رينيه موريس فريشيه Frèchet 1973 – 1878)م) في أطروحته للدكتوراة عام 1906 م. والفضاء المتري ليس أكثر من مجموعة عناصرها مجردة (قد تكون نقاطاً هندسية، أو سطوحاً، أو توابع، أو مصفوفات …). وهذه المجموعة مزودة بمفهوم للمسافة بين عناصرها، يسمى مترك metric، أو تابع (دالة) مسافة distance function (2). وهذا الأخير هو تجريد وتعميم لمفهوم المسافة المألوف، هذا بغض النظر عن أنّ التعميم والتجريد يستلزم أحدهما الآخر. وهذا التابع يحقق شروطاً محدّدة. ولا بد من الإشارة إلى أنّ المفهوم الرياضي لتابع المسافة هو نوع من “المحاكاة” لمفهوم المسافة المتداول لغوياً. وهذا يذكّرنا بقول الشاعر غوته، المشار له آنفاً: (إنّ الرياضيين مثل الفرنسيين: أي شيء تقوله لهم، يترجمونه إلى لغتهم، بعد ذلك يصبح هذا الشيء أمراً مختلفاً تماماً). وهذا المفهوم الأخير (المترك) قد خضع لتعميم وتجريد جديدين (مفهوم التبولوجيا topology)(3)، بحيث أصبح يتعثر على الدارس معرفة الجذور الأصلية لهذه المفاهيم لإيغالها في التجريد. وهذا يؤكد أنّه على الرغم من أنّ الرياضيات، منذ عدة آلاف من السنين، قد تولدت من مشكلات منبثقة من العالم الحسي، إلاّ أنّها سرعان ما طفقت تطور أفكار ومفاهيم ما وراء الخيال الإنساني الفعلي. والتجريد، الذي هو عماد الرياضيات، ليس اختراعاً من اختراعات العقل، بل هو أداة معرفية، ونتيجة “لسمو” تفكيره. فالبياض موجود أصلاً ولم يخترعه العقل أو قام بصنعه. وهو ما تشترك به مجموعة من الأشياء التي نطلق على لونها ” أبيض”. وقد أطلق العقل هذه التسمية “البياض” على صفة موجودة، أو تصورها العقل. وهذا هو الحال عندما نتحدث عن “الوطنية”، أو”الفضيلة”، أو”الشرف”، فهذه كلها مفاهيم مجردة، ولا وجود فيزيائياً لها. ولكن هناك مواقف وطنية، أو أشخاصاً وطنيين. ونحن الكبار، نتعامل مع هذه المفاهيم بإلفة بالغة، على الرغم من أنّها مجردة، وليس لها وجود مادي. ويعزى سبب ذلك إلى كثرة الاستخدام، خلال مدة طويلة من الزمن. هذا ومن المعروف أنّ اللغة من أول المهارات التي يتعلمها الطفل، ومن خلالها يبدأ اكتساب القدرة على التجريد، أو أكثر تحديداً، التجريد اللغوي. والإنسان لا يعاني عادة مع هذا النوع من التجريد، لأنّ اكتسابه يبدأ منذ نعومة أظفاره، وتدريجياً، ودون أن يشعر بذلك. (إنّ أحد اكتشافات علماء القرن العشرين، الذي توصل إليه كل على حدة مونتيسوري Montessori وبياجيه Piaget وفيكوتسكي Vygotsky، يتمثل في أنّ البالغين ينسون التدرج واستهلاك الزمن اللذين تتسم بهما عملية التعلم على التفكير المجرد)(4) .
المجاز اللغوي
ويعرّف اللغويون، المجاز اللغوي، كما أشرنا سابقاً، على أنّه اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي. والعلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي قد تكون المشابهة، وقد تكون غيرها، والقرينة قد تكون لفظية، وقد تكون حالية. وربما هناك من يقول إنّ استخدام كلمة “مسافة” أو “بُعْد” في السياقات الأخرى يعد مجازياً، وليس حقيقياً. وهذا الكلام صحيح، ولا جدال في ذلك، على اعتبار أنّ المسافة حقيقةً، هي بين كائنين لهما وجود فيزيائي، وجُلّ الاستخدامات الأخرى يمكن أن تُعَد مجازية. وهذا ينسجم مع ما يرجّحه اللغويون من أنّ الأشياء المادية الحسية أسبق في الوجود من الأشياء المعنوية المجردة. والعلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي في حالتنا هي “المشابهة”. وهذه الأخيرة مجسدة في “المفهوم المجرد” للمسافة، وهو ما يشترك به الاستخدام الحقيقي لهذه الكلمة مع الاستخدامات المجازية الأخرى. وهذا هو أحد أهداف التجريد، إذ يهدف إلى عزل ما هو مشترك ومتشابه في عدد من الأشياء.
الحواشي:
(1) وهو علم يبحث في محسّنات الكلام: اللفظية والمعنوية.
(2) لمزيد من المعلومات انظر أي كتاب حول الفضاءات المترية، مثلاً:
“Metric Spaces”, Victor Bryant, Cambridge University Press, 1985.
أو على الشبكة العالمية للمعلومات (الإنترنت)، إذ يوجد آلاف المواقع.
(3) لمزيد من المعلومات انظر أي كتاب حول “الفضاءات التبولوجية”، مثلاً:
“Introduction to Topology and Modern Analysis”, G.F. Simmons, McGraw – Hill Book Company, 2003
أو “التبولوجيا العامة (1)”، د. عبد الواحد أبو حمدة، د. محمود باكير، منشورات جامعة دمشق، 2005/2006.
أو على الشبكة العالمية للمعلومات (الإنترنت)، إذ يوجد آلاف المواقع.
(4) “العدد: من الحضارات القديمة حتى عصر الكمبيوتر”؛ جون ماكليش، ترجمة: د. خضر الأحمد، د.موفق دعبول، عالم المعرفة (الكويت)، 251، الصفحة 18.
السيرة الذاتية
الدكتور محمود أحمد باكير
- دكتوراه في الرياضيات البحتة (التحليل التابعي).
- خريج جامعتي دمشق وشفيلد في إنكلترا.
- عضو الهيئة التدريسية في كلية العلوم – (قسم الرياضيات) بجامعة دمشق.
- أحد مؤسسي جامعة القلمون الخاصة في دير عطية (سورية)، وعميد كلية العلوم التطبيقية فيها ثم نائباً لرئيس الجامعة ,ورئيساً للجامعة من 1/8/2011 حتى 31/7/2014 .
- ألّف وترجم بعض الكتب الجامعية في مجال الرياضيات.
- مهتم بعلاقة الرياضيات بالعلوم الإنسانية.
- له عديد من الدراسات اللغوية من منظور رياضي منشورة في عديد من المجلات العربية المحكّمة والثقافية، فضلاً عن دراسات منشورة في الفكر الرياضي، وفي تاريخ الرياضيات.
- وله اهتمامات في مجال ضمان الجودة والاعتمادية في قطاع التعليم العالي، وقد حضر عدة ورشات عمل ومؤتمرات في داخل سورية وفي ألمانيا والنمسا وبريطانيا بهذا الشأن.
عضو هيئة تدريسية حالياً في جامعة اليرموك الخاصة (كلية هندسة المعلوماتية والاتصالات) .
السلام عليكم هل يمكن الحصول على هذا الموضوع القيم؟
تحية طيبة للجميع موضوع ممتاز ونحن بحاجة لهذا التكامل بين العلوم والمعارف حتى يزدهر العلم وتزدهر المعرفة في بلداننا.