د. محمود باكير
( ورد هذا المقال في كتاب “محطات في تاريخ الرياضيات”, طباعة جامعة دمشق, لصاحب المدونة)
قال الرياضي الألماني كرونيكر ( 1823 – 1891 ) : ” إن الله قد أوجد الأعداد , وما عدا ذلك هو من صنع الإنسان ” . فمنذ أن وجدت مجموعة الأعداد الطبيعية{ 1 ,2 , 3 , 4 , 5 , 6 , ….. } دأب الإنسان , ومنذ القدم , على دراسة خواصها , واكتشاف العلاقات القائمة بينها . بيد أنّ هذا لا يعني أنّ الأعداد وحدها , دون غيرها , محط اهتمام الرياضيين .
بل إنّها أضحت لا تشغل سوى حيز ضئيل في عالم الرياضيات الرّحب. وثمة شريحة واسعة من الناس , تظن أنّ الرياضي , هو ذلك الشخص الذي يستطيع أن ينجز ذهنياً ما تقوم به الآلة الحاسبة . ومنشأ ذلك , أنّ هؤلاء يظنون أنّ الرياضيات, والحساب , صنوان , أو هي الاسم الحديث , لموضوع قديم كان يطلق عليه “الحساب” . وهذا الظن – كما يبدو – هو امتداد لما كانت عليه الرياضيات في أيام الإغريق . فقد عرّف أفلاطون ( 427 – 347 ق . م ) الرياضيات بأنّها “علم خواص الأعداد الفردية والزوجية”. غير أنّ الرياضيات الآن , تتناول كائنات رياضية , ليست بالضرورة أعداداً. ومع ذلك فإنّ بعض الرياضيين يجعلون من عالم الأعداد امتداداً لعوالمهم الشخصية ؛ وهم يتواصلون مع هذه الكائنات المجردة , وكأنّها مخلوقات تعيش معهم , ويستأنسون بها في وحدتهم . كما أنّ ثمة نوعاً من الإلفة قد توّلدت بين بعض الرياضيين وبين الأعداد , وقد آلت تلك الإلفة إلى صداقة شخصية عند بعضهم ؛ كما يقول الرياضي الهندي الفذ سريفيناسا رامانوجان ( 1887- 1920) : ” إنّ كل عدد يبدو لي كأنه صديق شخصي “. فقد ارتبط هذا الرياضي بعلاقة وجدانية خاصة مع الأعداد , يصعب فهم كنهها , أو الوقوف على ماهيتها . ويروي الرياضي الإنكليزي هاردي ( 1877 – 1947 ) أنّه عندما قدم رامانوجان إلى بريطانيا سنة 1914 , لزيارة جامعة كيمبردج , ركب في إحدى سيارات الأجرة , وكان رقمها 1729 . قال هاردي لضيفه الهندي :” إنّ هذا العدد ممل ويبعث على السأم ” . فأجابه رامانوجان في الحال : ” إنّه ليس كذلك يا عزيزي … فهو عدد مثير جداً للاهتمام .. ذلك لأنه أصغر عدد يمكن التعبير عنه كمجموع مكعبي عددين , بطريقتين مختلفتين . فهو يساوي 123 + 13 = 1728 + 1 = 1729 ؛ وأيضاً يساوي 103 +93 = 1000 + 729 = 1729 . وهذا يشير إلى اهتمام رامانوجان البيّن بعالم الأعداد, ومدى تأمله فيها, في الوقت الذي يؤكد على تميزه. وكان هذا اللقاء الأول من نوعه , بين هذين الرياضيين , اللذين وجدا من الأعداد مادة للحديث بينهما . فقد أبدى كل واحد منهما موقفه الشخصي من ذلك العدد. وربما كان هذا ” الحب العددي ” – إن جاز التعبير “, عند بعض الرياضيين, نتيجة ميل فطري , أو ربما نتيجة إعراضهم عن الناس. ومن المرجح أن ثمة عوامل نفسية – من غير إنكار العوامل الذهنية – تفضي إلى هذه الحالة . لأنه على الرغم من أنّ التواصل مع الأعداد , يتطلب مكابدة ذهنية , إلا أنّ هذا نوع من أنواع التحديات العقلية , التي يبحث عنها هؤلاء ليفرّغوا طاقاتهم الذهنية ؛ أو هي ميدان لممارسة اللياقة الذهنية وإظهارها . وفي هذا المعنى يقول آينشتاين في رسالة له إلى الفيزيائي ماكس بلانك : ” ليس كل الذين يعملون في حقل العلوم هو من أجل العلم فقط , بل إنّ هناك من يريد أن يظهر براعته ويختبر نفسه ومقدرته “. فقد تصدى بعض الرياضيين , من منطلقات مختلفة , لعديد من المعضلات , التي هي ليست بالضرورة ذات طبيعة عددية . فمثلاً أمضى الرياضي الإنكليزي هي وود , ستين عاماً من عمره , من أجل برهان واحدة من أشهر المخمّنات في الأدبيات الرياضية . وهي ” نظرية الألوان الأربعة ” , ولكن من غير أن يفلح في ذلك . ومما لاشك فيه أنّ ثمة دوافع علمية , أو عقلية , كان لها الأثر البالغ في مثل هذا النوع من الأعمال . بيد أنّ اهتمام بعضهم بالأعداد لا ينطوي , دوماً على تحديات عقلية , بل يبدو أنّ هناك راحة نفسية , يجنيها هؤلاء من تعايشهم الذهني مع الأعداد . وإلا فكيف يمكن تفسير ما قام به الرياضي الأمريكي فريدريك كول , عندما أوجد العاملين الأوليين لأحد أعداد ” مرسين ” , وهو العدد [ 2 67 – 1 ] , أي العدد 2 مضروباً بنفسه 67 مرة , ثم نطرح من الناتج العدد 1 . وقد استغرق ذلك منه , ما بعد ظهر يوم الأحد من أيام الأسبوع , على نحو منتظم , لمدة عشرين عاماً على التوالي ؛ إذ انتهى منه سنة 1903 م . أي ما يقارب خمسة آلاف ساعة عمل. وهذا يعادل عمل سنتين ونصف في حياتنا العادية . وكل ذلك من أجل تحليل عدد إلى عوامله الأولية . إذ كان معروفاً , ومنذ سنة 1876 م , أنّ هذا العدد غير أولي , ولكن دون معرفة عوامله الأولية .
ومما يجدر الإشارة إليه هو أن تحليل عدد إلى عوامله الأولية , من الأعمال الرياضية التي لا تتطلب جهداً ذهنياً خاصاً , أو حتى مهارة رياضية , بل هو عمل روتيني قوامه عملية القسمة العادية . ويستطيع أي شخص ملم بمبادئ الحساب , إنجاز ذلك ؛ إن توفر لديه العزم والتصميم . فلولا العلاقة الخاصة التي تربط هذا الرياضي بالأعداد , لما تحمل عناء هذا الجهد الكبير ؛ رغم أنّ ذلك يشير إلى صبره دون شك .
ويجب التمييز بين هؤلاء الرياضيين , وبين بعض الأشخاص الذين يتصفون بموهبة خاصة في إجراء العمليات الحسابية ذهنياً . فثمة أشخاص , تظهر لديهم قدرة فائقة , ومدهشة , على إجراء تلك العمليات ,كما هو الحال عند الإنكليزي بكستون ( 1772- 1707 م) , ومواطنه بيدر ( 1878 – 1806م ) , والأمريكي كولبرن ( 1840- 1804م) , والألماني ديس ( 1861- 1824 م ) وغيرهم . وهذه الموهبة وحدها , ليست مؤشراً على الإبداع الرياضي , أو الملكة الرياضية . بل إنّ هؤلاء ليســوا أكثر من ” حسّابين ” – إن جاز التعبير -. كما أنّ معظمهم كان ذا قدرات عقلية عادية في المجالات الأخرى , وحتى إنّ بعضهم كان أمياً . وقد يشاطر هؤلاء – في هذه الموهبة – بعض الرياضيين ؛ بيد أنّ معظم علماء الرياضيات لم يكن معروفاً عنهم هذه السمة . فقد ظهرت عند الرياضي والفيزيائي الألماني غاوس (1855 – 1777 م) , وعند العالم أمبيـر ( 1836 – 1755م) , والفلكي الأمريكي ســافورد ( 1901- 1836م ) . غير أنّ هؤلاء لم ينموا هذه الموهبة , ولم يعوّلوا عليها ؛ ولو كانوا قد فعلوا ذلك , لانعكس سلبياً على ملكاتهم الرياضية . في حين نجد أن الأعداد قد سيطرت على أذهان هؤلاء ” الحسّابين ” , وتحكمت في آليات تفكيرهم . وكان الجانب العددي هو الجانب المضيء في كل ما ينظرون إليه . فأحدهم , مثلاً , إن حضر عرضاً مسرحياً , ينصب جلّ اهتمامه على عدد خطوات الممثلين , وعلى عدد كلماتهم , وكل ما يمكن عدّه , غافلاً عن كل ما يحفل به العرض المسرحي من جوانب فكرية وفنية . والرياضيون لا يهتمون كثيراً بالعمليات الحسابية الذهنية , بل إنّ جل اهتمامهم ينصب على العلاقة القائمة بين الأعداد .
ويجب التمييز بين ” الحب العددي ” عند بعض الرياضيين , وبين موقف الفيثاغوريين من الأعداد. والفيثاغوريون – كما هو معروف – هم أتباع الفيلسوف والرياضي الإغريقي فيثاغورث , الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد . فقد بنى هؤلاء فلسفتهم النظرية على العدد , بل كان العدد جوهر فلسفتهم . إذ رأوا أنّ للأعداد صفات وخصائص معينة . وأضفوا على الأعداد قيماً أخلاقية , وسحرية . غير أنّ الرياضيين يدرسون الأعداد , وخواصها , بعيداً عن أي معانٍ فلسفية . وصفوة الكلام أن صداقة بعض الرياضيين مع الأعداد – كما يبدو – ذات دوافع نفسية في المقام الأول , مع الإقرار بأنّها تتم في إطار ذهني , لأنّها تتناول كائنات مجردة . وحتى الآن لا يوجد دراسات علمية – وفق ما أعلم – قد تناولت هذا الموضوع , أو بحثت في أبعاده المختلفة , إلا أنّه من المرجح أنّ يكون البعد النفسي هو أحد أهم الأبعاد . وقد تكون دوافع لجوء بعض الرياضيين إلى ” صداقة الأعداد ” شبيهة باهتمام بعض الناس بالحيوانات الأليفة والعيش في منزل واحد .