د. محمود باكير
(نشر هذا المقال في المجلة العلمية العربية للفتيان, الألكسو-تونس, العدد27, 2017)
هل لحركة الفراشة أي تأثير على استقرار الكون الذي نعيش فيه؟ أي هل صحيح كما يقال بأنه :” إذا رفّت فراشة جناحيها في أدغال الأمازون في البرازيل فإن إعصاراً سيقع في تكساس بأمريكا “, على الرغم من المسافة الكبيرة الفاصلة بينهما. ثم ما علاقة كل ذلك بالرياضيات؟ أي هل صحيح أن الرياضيات تستطيع التعبير عن ذلك؟ وهل لهذه الفكرة أي أثر في حياتنا الشخصية, أو الاجتماعية؟
وللإجابة على هذا السؤال نشير في البدء إلى أن هناك مصطلحاً, أو عبارة تُستخدم في الرياضيات المبسّطة, تسمى ” تأثير الفراشة ” Butterfly Effect. و يعني هذا المصطلح, ببساطة, أن أي تغييرات تطرأ على بعض المنظومات (مجموعة ما مزودة ببعض العلاقات), مهما كانت طفيفة, وليس لها قيمة تذكر, ستؤدي بعد زمن إلى كوارث كبيرة غير متوقعة. وهذا ربما يشير إلى أن هناك ظواهر في هذه الحياة تكون العلاقة بين أطرافها معقدة, ومتداخلة, ومن الصعب أن نفهم أسبابها, لأن هذا قد يتطلب تفكيك كثير من الخيوط الداخلة فيها, بهدف البحث عن ” البساطة ” الكامنة تحت هذا التعقيد الطافي على السطح. أو بصيغة أخرى, من أجل الوصول إلى عملية الفهم تلك : هل من الممكن نمذجة السلوك الإنساني؟ بمعنى أنه : هل يمكن إيجاد نموذج رياضي يعبّر عن هذا السلوك؟ والجواب يعبّر عن العلاقة القوية, والعميقة, بين الرياضيات والحياة, بل إن ما تنبض به الرياضيات, في حقيقة الأمر, هو وقائع من الحياة. وهذا ما لا يعرفه كثيرون على الرغم من أهميته, لأن اللغة الفنية, الصعبة أحياناً, التي تستخدمها الرياضيات تغطي على تلك الوقائع.
و دراسة ما ينتج عن “تأثير الفراشة” هذا يتصدى له فرع في الرياضيات أصبح يسمى “الشواش” Chaos. وهو نوع من الحركة تَعَرّف عليها علماء الرياضيات, والفيزياء, بعد أن درسوا الحركة في المجالات الأخرى لمدة ثلاثة قرون, وخاصة بعد قوانين الرياضي البريطاني اسحق نيوتن Isaac Newton (1642-1727) في الميكانيك, التي تُدَرّس الآن في المرحلة الثانوية في المدارس. وقد بدأ الوعي بالشواش من قبل هؤلاء العلماء في منتصف السبعينيات من القرن العشرين. وقلّة من الرياضيين, والفيزيائيين, كانوا يألفون وجود هذا النوع من الحركة قبل ذلك الوقت. ومن الأمثلة عليها : الحركة الناتجة من إبريق يغلي, وحركة اصطدام جزيئات الغاز في غرفة , وتغيّرات الطقس, وتغيّرات سوق الأوراق المالية (البورصة). لذلك تعد مثل هذه الظواهر, وغيرها, أمثلة على المنظومات الشواشية.
والشواش, ببساطة, تعبير عن السلوك, أو الحالة, التي تكون إمكانية التنبؤ فيها محدودة. وهو يمكن أن يظهر في منظومات بسيطة جداً. و نحن مهتمون بسلوك هذه المنظومات ضمن نطاق زمني واسع, وليس ضمن نطاق زمني ضيق, كي نستطيع توقع كيف تتطور منظومة معينة مع تقدم الزمن.
و إن إحدى المميزات الأساسية لنظرية الشواش في الرياضيات هي ما تسمى “الاعتماد الحساس على الشروط الابتدائية”. وتشير هذه العبارة إلى خاصية أنه إذا كان لدينا زوج من النقاط قيمتاهما قريبة من بعض على النحو الذي نختاره, فإنهما (أي القيمتين) ستصبحان بعيدتين عن بعضهما لدرجة غير متوقعة بعد فترة زمنية. وهذه الميّزة كثيراً ما تسمى, تبسيطاً, “تأثير الفراشة”, كون لا أحد يتوقع أن يكون لحركة الفراشة هذا التأثير في الطبيعة. وقد وضع هذه التسمية الباحث في تنبؤات الطقس إدوارد لورينز Edward Lorenz من معهد ماساشوستس التقني MIT في الولايات المتحدة الأمريكية في الستينيات من القرن الماضي. وقد قال عنه الرياضي البريطاني المعاصر إيان ستيوارت Ian Stewart : “إنه رياضي في الصميم”, لأن اختصاصه العلمي لم يكن الرياضيات ذاتها, ومع ذلك كان تفكيره رياضياً. وتعني هذه العبارة أنه عندما ترف فراشة جناحيها اليوم سينتج تغييراً ضئيلاً في حالة الطقس؛ ولكن بعد فترة زمنية فإن ما يحصل من تغييرات في الطقس يبتعد عما كان يمكن أن يكون لولا هذه الرّفة.
وإذا أردنا ربط هذه الفكرة بالحياة فنجد أنه في مسيرة حياة كل شخص هناك نوع من “تأثير الفراشة”, ولكن دون أن يشعر بها هذا الشخص؛ لأنه بإمعان النظر في بعض الأوضاع الحالية التي يعيشها سيجد أنها كانت نتيجة, غير مباشرة, لحوادث قديمة جداً بدت بسيطة, أو طارئة, في حينها, ولكنها تطورت مع الأيام إلى حالة مختلفة تماماً غير متوقعة. لذلك كثير منا لا يعطي انتباهاً في الحياة لأحداث بسيطة في حينها, وتبدو شبيهة “بتأثير الفراشة”, بسبب عدم اهتمامنا بكثير من تفاصيل هذه الحياة, حيث يعدّها بعضهم لا قيمة لها. و هذا نابع من أن الناس كثيراً ما تتطلع إلى النتائج دون النظر إلى المقدمات, وفق ما يقوله ابن النديم في كتابه “الفهرست” المعروف في التراث العربي- الإسلامي: “من أن النفوس تشرئب إلى النتائج دون المقدمات”. لذلك من الواجب الانتباه إلى خياراتنا الحالية, مهما كانت بسيطة, لأنه سيترتب عليها نتائج كبيرة فيما بعد لا يمكن توقعها منذ الآن.
وهذا كله أدى إلى ولادة فرع (اختصاص) جديد في الرياضيات هو نظرية ” النظم (الجُمَل) الدينامية “Dynamical System Theory؛ وهو مجموعة من المبادئ التي تعمل على توحيد كثير من الظواهر المختلفة. وفيه تلتقي بعض النظريات الرياضية, وعلى نحو خاص نظرية الشواش, ونظرية الكوارث Catastrophe Theory. و نظرية الكوارث في الرياضيات هي دراسة السلوك الذي يحصل لديه انزياح مفاجئ, أو تغيّر في السلوك. و هدف النظم الدينامية في الرياضيات هو إيجاد نموذج رياضي يعبّر عن التغيّرات التي تقع في منظومة ما, وقياسها مع تغير الزمن. لذلك فإن هذه النظرية تستخدم المعادلات الرياضية لتحديد خواص المنظومات المعتمدة على الزمن, والتنبؤ بها. وقد قام الحاسوب (الكومبيوتر) بدور كبير في ذلك, لأنه يسمح للتحليل النظري بأن ْ يُتابَع جنباً إلى جنب مع البحث العددي. وتُستخدم النظم الدينامية الآن لنمذجة الظواهر البيولوجية, وفي الجغرافيا, والاقتصاد, والهندسات, والفيزياء, وغيرها.
ومن بعض الأمثلة البسيطة جداً على النظم الدينامية عملية النمو السكاني. فمن المعروف أن النمو السكاني, سنوياً, يسمى “معدل النمو السكاني”؛ وهو الزيادة التي تطرأ على سكان بلد ما سنوياً, قياساً بالنسبة إلى تعدادها العام. فإذا كان المعدل ثابتاً عبر السنوات السابقة, نقول عن قانون النمو إنه خطي linear, أي ليس أسياً exponential (وللتوضيح فإن أبسط مثال على النمو الخطي المتوالية العددية…2,4,6,8,10,12, وأبسط مثال على النمو الأسي المتوالية الهندسية… 2,4,8,16,32,64). فإذا كان معدل النمو, مثلاً, خمسة بالمئة, فإن تعداد السكان يتضاعف تقريباً كل أربعة عشر سنة.
و النظم الدينامية خاضعة لعملية من نوع خاص تسمى “التكرار”, أو “المعاودة” التي لها فوائد كبيرة يصعب حصرها, وهي أحد التقنيات المهمة في عملية البرمجة في علوم الحاسوب. حيث يدعى الهدف, ببساطة, “تعاودياً” إذا احتوى نفسه. وتصادف الظواهر “التعاودية” في الطبيعة فضلاً عن مصادفتها في الرياضيات. وأبسط مثال عملي على ذلك عندما نشاهد بثاً تلفزيونياً مباشراً, يعرض جهازاً تلفزيونياً (في الإستديو) ضمن بث البرنامج نفسه. وبذلك تتكرر الصورة نفسها عدة مرات. و مثال آخر على ذلك, ما أوردته مجلة العلوم (التي تصدر في الكويت), ضمن مقال عن “مبرهنة النقطة الثابتة” في الرياضيات, صورة علبة الجبنة الفرنسية المعروفة “البقرة الضاحكة”, حيث أن هناك تطبيقاً (دالةً) function مكرراً يحوّل علامة “البقرة الضاحكة” إلى قرط معلق في إحدى أذنيها.
وهذه الرؤية الرياضية التي عبّرنا عنها ليست بعيدة عن الواقع, كما تبدو, بل تحمل في طياتها جزءاً كبيراً منه دون أن نشعر بذلك, لأنها أصلاً مأخوذة منه. لكن اللغة المستعملة في التعبير عنه هي البعيدة عن هذا الواقع, كونها لغة رياضية.
وبالعودة إلى كثير من الظواهر الاجتماعية, أو الإنسانية, الخاضعة لقانون “تأثير الفراشة” نجد أننا لا نشعر بهذه “الآلية” التي تتحكم بها. و يعود السبب في ذلك إلى أن نظرتنا, غالباً, ما تكون ذات طبيعة ذرية, أو جزئية؛ ونعني بذلك أنها آنية, أو مؤقتة, وذلك لسهولتها. لهذا لا نربط كل الظواهر, التي أمامنا, مع الظواهر السابقة, واللاحقة المتوقعة (إن استطعنا ذلك), وهذه قد تطول أحياناً, وتتطلب يقظة دائمة. لذلك تبقى نظرتنا “متقطعة” (محطاتها منعزلة), وليست شاملة لما قبلها, وما سيأتي بعدها. أي أننا ننظر إلى كل محطة على حدة, بمعزل عن أنها ناتجة عن شيء سابق, وستُعطي شيئاً لاحقاً. وهذا لا يعني أنه يجب إهمال الجزء كي نرى الكل, بل يجب وضع هذا الجزء ضمن الصورة الكلية التي تصنعها كل هذه الأجزاء لنرى الكل الناتج عنها. لذلك لا تستحوذ عملية التفاعل بين تلك الأحداث (المحطات) أي اهتمام.
يقول بعضهم بأن هناك أحداثاً كبيرة, وأخرى صغيرة, و كثيراً ما توصف هذه الصغيرة بأنها تافهة. و لكن في حقيقة الأمر معظم الأحداث كبيرة, إن لم نقل كلها كذلك. والفرق بين هذه وتلك هو طول الفترة الزمنية اللازمة لتوضيح أنها كبيرة. أي أن الأحداث الكبيرة تولد كبيرة, ولكن الأحداث الصغيرة سرعان ما تصبح كبيرة, دون أن ندرك ذلك بالضرورة؛ لأننا لا نلاحظ عملية نموها, بسبب افتقادنا للقدرة على التفكير الكلي, خلال فترة زمنية طويلة نسبياً؛ أي بسبب عدم استطاعتنا التقاط “الكل” الناتج عن مجموعها. فكلما طالت هذه الفترة اتضحت الصورة الكلية أكثر, بشرط ربط محطات الأحداث مع بعضها. وهذا يشير إلى أنه لا يوجد شيء تافه في هذه الحياة, بل هناك “نظرة” تافهة. ونحن بذلك لا نقصد ما يعنيه الشاعر أبو الطيب المتنبي من قوله:
لا تحقرن صغيراً في مخاصمة إن البعوضة تدمي مقلة الأسد
لأن هذا البيت يتحدث عن الأشياء التي تبدو صغيرة في مظهرها, لكن تأثيرها كبير آنياً, وليس لاحقاً فيما بعد. في حين أن ما نتحدث عنه هو حالة لا تتضح إلاّ بعد مسيرة طويلة زمنياً. ويبدو أن هذا هو السبب الذي يجعل كثيراً من الناس ينكرون دور نظرية الشواش في الحياة. لذلك يجد بعض هؤلاء من الأسهل عليهم رفض بعض الأفكار الجديدة بدلاً من محاولة استيعابها, و التكيّف معها. لأن عملية التكيّف كثيراً ما تتطلب من الإنسان إعادة النظر بالكثير من معارفه, و مسلماته. مع أن علاقة العلوم الاجتماعية بالعلوم الطبيعية قوية جداً, ولهذا أصبحت محط اهتمام بعض الباحثين. ومن هؤلاء فيلسوف العلم البريطاني (نمساوي الأصل) كارل بوبر Karl R. Popper (1902-1994) الذي بيّن التماثلات, والتباينات, بين هذين المجالين. فكما أن هناك قوانين فيزيائية تتحكم بالطبيعة, منها قانون الجاذبية ,وغيره, كذلك هناك بعض القوانين التي تتحكم بالمجتمعات. لكن كشفها – كما يبدو – ليس سهلاً. فضلاً عن ذلك فإن بعضها نظير للقوانين الفيزيائية, وبعضها الآخر ليس كذلك. ولما كان الكون نفسه, كما يبدو, يتضمن كثيراً من الاقتصاد؛ ونعني بذلك أن عدد القوانين التي تتحكم فيه ليس كبيراً, لذلك لا بد من اكتشاف تلك القوانين بصيغتها الموحّدة, حيث يغطي كل قانون كثير من الظواهر التي تبدو مختلفة. وهذا هو هدف الرياضيات بعينه, حيث هي ” فن إعطاء الاسم نفسه لعدة أشياء مختلفة ” وفق ما يقول الرياضي الفرنسي هنري بوانكاريه Henri Poincare (1854- 1912).
وأخيراً لا بد من الإشارة إلى “تأثير الفراشة” في الرياضيات ذاتها كعلم, أي كيف تطورت بعض نظرياتها المهمة من قضايا كانت تبدو بسيطة جداً, منذ عهد بعيد. أي لم تكن بداية هذه النظريات أكثر من ” رفة فراشة ” عابرة. و أوضح مثال على ذلك هو المسيرة الطويلة, و المضنية, لما يسمى “تناقض الكذاب”, أو “محيّرة الكذاب”. وربما كانت أقدم محيّرة من هذا النوع تم تناقلها هي ما طرحه إبيمندس Epimenides (فيلسوف من جزيرة كريت عاش في القرن السادس قبل الميلاد), حيث يقول :”إن جميع الكريتيين دائماً يكذبون”. و هذا القول ينطوي على تناقض (محيّرة), لأن قائله كريتي, فلا نستطيع البت بصحة القول, أو بخطئه. ولمزيد من التوضيح نستعرض القول الذي يردّده بعضهم من أن: “حلاق القرية يحلق لجميع رجال القرية الذين لا يحلقون لأنفسهم”. كذلك لا نستطيع تبيان صحة القول, أو خطئه؛ لأنه إذا كان الحلاق لا يحلق لنفسه كأحد أفراد القرية, فإنه كحلاق للقرية سيحلق لنفسه, وهذا يناقض القول. وإذا كان يحلق لنفسه, كبعض أفراد القرية, فهذا يناقض القول أيضاً لكونه يحلق للذين لا يحلقون لأنفسهم. وصدى ذلك كان يتردّد في أهزوجة شعبية يرددها أطفال غلاسكو في اسكتلاندا: “من حلق للحلاق؟… الحلاق… الحلاق…من حلق للحلاق؟ الحلاق حلق لنفسه”. إلى أن انتهى الحال بهذه المحيّرة, بعد دراسات عديدة معمّقة استغرقت عدة قرون, إلى فكرة البرمجة في الحاسوب, مروراً بنظرية الرياضي و عالم المنطق الأمريكي (النمساوي الأصل) كورت غودل Kurt Godel (1906- 1978), و الرياضي البريطاني آلان تورينغ Alan Turing (1912- 1954) الذي صمم أول حاسوب ألكتروني عندما كان يعمل في مانشستر في بريطانيا, وسميت هذه الآلة Ace, وذلك في نهاية الأربعينيات من القرن العشرين. أي أن قولاً بسيطاً ذا طابع مسلّي ظاهرياً تتطور بفعل ما يمكن تسميته “تأثير الفراشة” إلى واحد من أهم الاختراعات, وهو الحاسوب. والنتيجة التي وصل إليها, بفعل جهد كبار الرياضيين, لا يبدو أن لها أي علاقة بالقول الأصلي. ( لمزيد من المعلومات انظر للكاتب : ” الرحلة من “كذبة أبريل ” إلى الحاسوب”, مجلة العربي (الكويت), عدد 696- نوفمبر 2016 ).