بعض معوقات ضمان جودة التعليم العالي في البيئة العربية

د. محمود باكير

 

نشرت هذه الدراسة في مجلة التعريب- المركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر -دمشق(التابع لمنظمة الألكسو), العدد52, حزيران/يونيو 2017

تُعد عملية ضمان الجودة Quality Assurance  في قطاع التعليم العالي على النحو المطروح الآن، جديدة على هذا القطاع، على الرغم من أنّ الإنسان اهتم منذ القدم بموضوع جودة أي عمل يقوم به. وهناك عدة أسباب دعت مؤسسات التعليم العالي في العالم إلى الاهتمام بهذا الموضوع، منها ,على سبيل الذكر لا الحصر، تنوع أهداف مؤسسات التعليم العالي، وظهور أنماط جديدة لهذه المؤسسات، وتنوع مستوى الشهادات والمؤهلات، والاعتراف المتبادل ,وغير ذلك. لذلك أضحت الجودة التعليمية واحدة من أهم تحديات التعليم عموماً، والتعليم العالي خصوصاً ,في عالم متنافس في ظل العولمة. لهذا أصبح هناك وكالات لضمان الجودة في عديد من الدول.

        بدأ مفهوم الجودة في مطلع الستينيات من القرن العشرين في الشركات الصناعية والتجارية أولاً. وهو مصطلح اقتصادي ظهر أساساً بناءً على التنافس بين الدول والشركات. وكان الهدف الرئيس عندها هو الحصول على رضا الزبون , والمنتج الأفضل، وهذا أدى إلى ولادة مراقبة الجودة الشاملة TQC  (Total quality control) في حينها. ويُعد الرياضي إدوارد ديمنج Edward Deming عراّب الجودة الشاملة. وإدارة الجودة الشاملة(TQM) Total quality management, فلسفة إدارية تنظر إلى المؤسسة على نحو شامل لإحداث تغييرات إيجابية.

     وبُعيد ذلك بدأت عملية ضمان الجودة في التعليم العالي تشق طريقها الخاص بها بعد تحريض من إدارة الجودة الشاملة , ومراقبة الجودة الشاملة , وغيرها. وهذا فرضته طبيعة منظومة التعليم, وخصوصيتها. لذلك كان لا بد من تطوير مفاهيم خاصة بها، فضلاً عن تطوير فلسفة تعبّر عن طبيعة هذه المنظومة.

       وتجدر الإشارة إلى أن عملية ضمان الجودة لا تهدف إلى مقارنة كل مؤسسات التعليم العالي بالنسبة إلى “مقياس ذهبي” ,أو بالنسبة إلى بعضها البعض.لأن قطاع التعليم العالي متنوع جداً في كل النواحي. فكل مؤسسة  جامعية لها رسالة خاصة بها, وكل منها يركّز على جانب معين من جوانب التعليم العالي.  

       هذا وثمة بعض الصعوبات العامة التي تعترض هذه العملية في أي منظومة تعليم عالٍ، مثل: ضعف ثقافة الجودة، وضعف البيانات والمعلومات وطرق التقويم، ومقاومة التغيير عند العاملين في المؤسسة ، وصعوبة قياس المعرفة، والخوف من التقويم والأمن الوظيفي عند العاملين . بيد أننا سنتعرض في هذه الدراسة إلى بعض المعوقات التي تعترض عملية ضمان الجودة في التعليم العالي في البيئة العربية. وذلك لأنّ التوقف عند المعوقات أو الصعوبات أمر ضروري قبل البدء بأي مشروع، حتى لا نُفاجَأ بتلك المعوقات أثناء مسيرتنا، ويكون ذلك سبباً في تثبيط العزيمة. ولاسيما أنّ الجودة التعليمية عملية حيّة، بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وهي في هذا تختلف في طبيعتها عن الجودة في المجالات الأخرى. هذا وقبل التطرق إلى تلك المعوقات لا بد من الوقوف قليلاً عند طبيعة عملية ضمان الجودة نفسها في القطاع التعليمي.

          إنّ عملية ضمان الجودة ليست قائمة من النصائح ,والأوامر ,والتعليمات ,تصدرها إدارة المؤسسة التعليمية، بل هي في جوهرها منظومة  منطقية وفكرية متكاملة  تتسم بالاتساق . وتبدأ عادةً، برسالة mission المؤسسة، وأحياناً تبدأ برؤيتها vision , ورسالتها. و يجب أن تكون “عقيدة” من نوع خاص لمجموع العاملين في هذه المؤسسة. فكل ما يتعلق بمسيرة هذه المؤسسة وبنائها من تصورات، ومفاهيم وسلوك، وقرارات، وأنظمة، وغير ذلك، يجب أن ينبثق من هذه “العقيدة”. أو بمعنى آخر فإنّها بناء منطقي ينطوي أولاً على عقيدة نظرية هدفها بناء الإنسان، وثانياً جملة من المبادئ الأساسية, يُستمد منها الحكم على مختلف مخرجات المؤسسة. ويجب أن نكون محكومين في كل ذلك بقول الرياضي البريطاني هاردي G. H. Hardy (1947 – 1877): “إنّ الأفكار مثل الألوان أو الكلمات يجب أن يناسب بعضها بعضاً بطريقة منسجمة”. لذلك فإنّ الاتساق ضروري جداً، ولا يمكن مجانبته في هذا البناء المنطقي. والمعوقات التي يمكن أن تظهر في البيئة العربية هي التي ربما ستعيق عملية الاتساق تلك. ويبدو أنّ سبب كون عملية ضمان الجودة ذات بناء منطقي هو أنّ الجودة أصلاً ولدت على يد اثنين من الإحصائيين: إدوارد ديمنج(المشار له آنفاً)، ووالتر شيوارت Walter Shewhart, فضلاً عن المهندس جوزيف يوران Joeph Juran . إذ هاجر ديمنج بعد الحرب العالمية الثانية إلى اليابان، وهناك انطلق بمشروعه في الجودة في الصناعة والتجارة. وفي السبعينيات انتقلت الجودة  الصناعية إلى الولايات المتحدة على يد ديمنج وتلاميذه.

         هذا ولكل مجتمع معوقاته في عملية ضمان الجودة التعليمية نابعة من طبيعة ذلك المجتمع, ومن ظروفه, وتركيبته, وطبيعة مؤسساته التعليمية, وعلى نحو خاص ,الفلسفة التعليمية لتلك المؤسسات . والمجتمع العربي له خصوصيته ,كما هو الحال في المجتمعات الأخرى.

        وأولى الصعوبات التي يمكن أن تواجه عملية ضمان الجودة في البيئة العربية هو أنّه ليس هناك اتساق داخلي في أي منظومة من منظومات التعليم العالي العربية، سواء على مستوى القيم الجوهرية core values ,والرسالة ,والأهداف، أو على مستوى الفلسفة التعليمية, أو حتى على مستوى  ذهنية العاملين فيها. إذ يتعايش في مؤسسات التعليم العالي العربية خريجو الولايات المتحدة, مع خريجي بريطانيا, وفرنسا ,وروسيا ,والهند ,وغير ذلك من الدول. وكثيراً من الأحيان لا نجد غَلَبَة لفلسفة تعليمية على أخرى في تلك المؤسسات. بل كثيراً ما يطفو على السطح نوع من التباين و الاختلافات, إن لم نقل خلافات . وفي أحيان أخرى يأخذ هذا التباين شكل الصراع , إن سُمِح له ذلك. وهذا التباين يُعد أحد  المعوقات، لأنّ ثمة اختلافاً في أنظمة, وأولويات,  تقييم ضمان الجودة على المستوى العالمي، على الرغم من أنّ ضمان الجودة (وفق الإعلان الدولي للتعليم العالي الصادر عن الأمم المتحدة) هو مفهوم متعدد الأبعاد يشمل جميع وظائف  التعليم العالي , و فعالياته :  التدريس، والبرامج الأكاديمية، والبحث العلمي، والعاملين الإداريين، والطلاب، والمباني والتجهيزات، والخدمات المساعدة للعملية التعليمية. بيد أنّه في الأعماق تختلف تجارب الدول الناضجة في مقاربتها لهذا المفهوم، وفي التركيز على أحد الأبعاد دون غيره. فبريطانيا، مثلاً ، وتحديداً وكالة ضمان الجودة في التعليم العالي The quality assurance agency for higher education (q.a.a) تعطي الأولوية في نظام تقييم ضمان الجودة لجودة العمليات التدريسية، والبحث العلمي، وإنتاج المعرفة. فهي تركّز على المقارنات المرجعية                      Subject benchmark statement، وعلى آليات وضع المناهج الدراسية، وعلى الممتحنين الخارجيين external examiners. أما الولايات المتحدة فتعطي الأولوية لتقييم الأداء، وأهلية المؤسسة التعليمية، وقدرتها على الاستمرار في تحقيق أهدافها. وربما يكون السبب الكامن في ذلك هو ما يضمره – عادة – المهاجر من عقدة الوجود والقدرة على الاستمرار في بلد المهجر. في حين أنّ اليابان بَنَت تجربتها على المؤشرات الكمية. وقد يكون سبب ذلك هو أنّ تجربتها في الجودة ولدت على يد عدد من الرياضيين, وخاصة أنهم كانوا إحصائيين.

        وهذا يفضي إلى أنّ خياراتنا في الدول العربية لم تُحسم بعد بسبب هذا التباين، فضلاً عن عدم نضج تجاربنا في هذا المجال. لأنّه من المعروف أنّ قطاع التعليم العالي في الدول العربية، بمعناه المعاصر، يُعد حديثاً نسبياً قياساً بغيرنا من الدول الغربية. وفي التجارب الناضجة تكون,       عادة , الخيارات واضحة ومبلورة.

    هذا ومن المفيد الإشارة إلى أنّ هناك مدخلين أساسيين لضمان الجودة:

  1. المدخل الأول :الجودة الجوهرية في التعليم العالي – The intrinsic qualities of higher education:

     يكون التركيز فيه على الجودة الأكاديمية، وذلك بالبحث عن الحقيقة والوصول إلى المعرفة. لذلك تكون الأولوية في هذا المدخل لتعليم الطلاب وإنتاج المعرفة.

  • المدخل الثاني :الجودة العملية في التعليم العاليThe extrinsic qualities of higher education   (1)

    يكون التركيز فيه على خدمة المجتمع المحلي , وتلبية احتياجاته المتغيرة (2)  .

    واختيار أحد هذين السبيلين سيؤثر على طبيعة البرامج الدراسية  في المؤسسةالتعليمية, وحتى على طبيعة المؤسسة ذاتها ,وعلى طريقة التعليم والتعلم,ومحتوى المادة التعليمية(3) .                   

     فضلاً عن ذلك فإنّ السؤال المحوري في عملية ضمان الجودة هو ليس: ماذا يجب أن نفعل؟، بل كيف يجب أن نفعل؟. وهذا، كما هو واضح، له علاقة بالكيفية، أي بالأسلوب المتبّع لتحقيق ما هو مطلوب. أو بمعنى آخر، فإنّ ذلك يرتبط ارتباطاً عضوياً بالإنسان المعني به القيام بتلك العملية، و أيضاً بالإنسان الذي هو هدف لهذه العملية.

             هذا ومن المعروف أنّ التركيز والاهتمام، في المؤسسات التعليمية في العالم، أصبح على عملية التعلّم ,وليس على عملية التعليم. لذلك أضحى الحديث في أدبيات الجودة عن مخرجات التعلّم Learning outcomes ,لا مخرجات التعليم Teaching outcomes. ومن ثم فقد آلَ الاهتمام إلى الطالب، محور العملية التعليمية، لا إلى المدرس. ولهذا عديد من المبررات ,من أهمها تطور العلم المتسارع . لهذا أضحى التركيز على التعلّم مدى الحياةLifelong learning .   وهذا أفضى إلى أن يكون دور المدرس تمكين الطالب في أن يصبح متعلم فاعل, وأن يفهم أنماط تعلمه . لهذا أصبح إحدى المهارات التي يجب على كل خريج ناجح أن يتحلى بها أن يعرف كيف يتعلم , فضلاً عن مهارات عامة Generic skills , ومهارات الاختصاص Subject specific skills . في حين أنّ معظم طلابنا في الدول العربية معتادون على الاتكالية , والاستعانة بغيرهم ,من غير حاجة فعلية لذلك. ويعزى سبب هذا إلى أصول اجتماعية، وثقافية عميقة(4) . علماً أنّ أحد معايير الاعتماد العالمية لأي برنامج دراسي، في عديد من الدول المتقدمة، هو: هل بنية البرنامج الدراسي المعني تعطي فرصة كافية للطالب للدراسة المستقلة من غير اعتمادٍ على المدرسين؟.

أثر العلم والسياسة في الثقافة العربية

(تسييس العلم بدلاً من”علمنة” السياسة)

                وللوقوف على واحدة من أهم العقبات في عملية ضمان الجودة التعليمية في البيئة العربية، لا بد من معرفة أثر العلم والسياسة في الثقافة العربية، لأنّ الدراسات الحديثة تشير إلى أنّ اللحظات الحاسمة والأساسية في تطور الفكر العربي الإسلامي , تاريخياً , لم يكن يحددها العلم، بل السياسة. يشير المفكر المغربي محمد عابد الجابري إلى أنّ الصراع في الثقافة العربية لم يكن بين “الميتوس” و “اللوغوس” (بين الأسطورة من جهة والعلم والفلسفة من جهة أخرى) ,كما كان الشأن في الثقافة اليونانية. ولا كان بين العلم والكنيسة كما كان عليه الأمر في التجربة الأوربية الحديثة، بل كان الصراع في الفكر العربي بين نظامين معرفيين يؤسس كل منهما إيديولوجيا معينة: النظام البياني، والنظام العرفاني. وعندما دخل النظام البرهاني طرفاً ثالثاً دخل ليقوم بوظيفة في ذلك الصراع، وأصبح منذ اللحظة الأولى موجهاً بذلك الصراع محكوماً به (5) . أما العلم فقد بقي على هامش المنظومات الفكرية والإيديولوجية المتصارعة، وبذلك لم تتح له الفرصة ليساهم في تكوين العقل العربي كلاً. هذا وقد صنّف الجابري العلوم وجميع أنواع المعارف في الثقافة العربية الإسلامية إلى ثلاث مجموعات: علوم البيان، من نحو , وفقه , وكلام , وبلاغة، يؤسسها نظام معرفي واحد، يعتمد قياس الغائب على الشاهد، منهاجاً في إنتاج المعرفة. وعلوم العرفان، من تصوف ,وتفسير  باطني للقرآن ,وسحر ,وعلم تنجيم … الخ ويؤسسها نظام معرفي يقوم على “الكشف والوصل”، و”التجاذب والتدافع” منهاجاً. وعلوم البرهان، من منطق , ورياضيات , وطبيعيات (بفروعها المختلفة) , وإلهيات، ويؤسسها نظام معرفي واحد يقوم على الملاحظة التجريبية والاستنتاج العقلي منهجاً. ويشير الجابري إلى أنّ العقل العربي عقل بياني، بمعنى أنّه تكوَّن من خلال تشييده لعلوم البيان التي أبدع فيها إبداعاً كبيراً، وأنّ هذه العلوم قد بلغت قمتها مع بداية تاريخها، وأنّ العقل العربي لم يضف، وما كان ليستطيع أن يضيف جديداً إلى ما أبدعه فيها خلال عصر التدوين. أي أنّه بقي سجيناً لإنتاج هذا العصر(6). ويعني الجابري بالعقل العربي: العقل الذي تشكل داخل الثقافة العربية، في الوقت الذي هو نفسه عمل على إنتاجها وإعادة إنتاجها(7) . وما يؤكد ذلك ما تنص عليه فرضية الحتمية اللغوية (Linguistic Determinism)  التي قال بها الفيلسوف الألماني ولهالم هبولدت W. Humboldt في القرن التاسع عشر الميلادي، التي أعاد طرحها مرة أخرى في النصف الأول من القرن العشرين إدوار سابير E. Sapir: (إنّ الناس تُبَّع في تفكيرهم وإحساسهم ومشاعرهم ونظرتهم إلى الكون، للعادات التي اكتسبوها من خلال ممارستهم للغة قومهم)(8). لذلك انشغل الباحثون في تحديد أثر اللغة في تشكيل الفكر , أو في عملية التفكير. ولهذا لا غرابة في قول بعضهم: إنّ اللغة تصنعنا أكثر مما نصنعها. وأثر اللغة العربية كان بارزاً في تكوين العقل العربي بسبب علوم البيان. وما يؤكد ذلك هو أنّ اللغة، أي لغة، تؤدي وظيفة في نمو التفكير الرياضي، أو في طبيعته. فإما أن تنشّط جانباً معيناً في هذا التفكير، أو من الممكن أن تقوم بخلاف ذلك، وتضعف جانباً آخر. فإذا سلّمنا بما تقوله الدراسات اللسانية حول أنّ اللغات السامية تميل إلى التأليف المتجبرن، فإنّ هذا قد يساعدنا في فهم لماذا طلابنا، عموماً، في المدارس في العالم العربي يجدون الجبر أسهل كثيراً من الهندسة، لكون اللغة العربية إحدى اللغات السامية. يقول الدكتور رشدي راشد: “وفي دراسة حديثة حول الارتداد الدلالي للمفهوم يعرض كيف أنّ اللغات السامية تميل إلى التأليف المختصر والمجرد “المتجبرن” على نقيض الميل “الآري المُهندس”. وبحسب هؤلاء المؤلفين فإنّ البنية الألسنية هي المسؤولة عن تطور “علم البناءات الجبرية” (9) . وبعد كل ذلك بقي العقل العربي في منأى عن تأثير العلم العربي الإسلامي، “فقد ظل العلم العربي، علم الخوارزمي والبيروني وابن الهيثم وابن النفيس وغيرهم، خارج مسرح الحركة في الثقافة العربية فلم يشارك في تغذية العقل العربي ولا في تجديد قوالبه وفحص قبلياته ومسبقاته” (10). لذلك “لم تجد آراء ابن الهيثم ولا منهجيته العلمية “قابلةً” في الثقافة العربية , فلم يتردد لها صدى ولا كان لها أي أثر في تكوين العقل العربي، ولذلك فهي لا تجد نفسها، أعني أننا لا نجد لها معنى وتاريخاً إلاّ داخل ثقافة أخرى هي الثقافة الأوربية بالذات“(11). فالحسن بن الهيثم المتوفى سنة430   هـ كان أثره في الحضارة الأوربية , وفي تشكيل فكرها العلمي أكثر بكثير من أثره في تكوين العقل العربي، فلا نجد لآرائه ومنهجه العلمي من شك منهجي بنّاء أي صدى داخل الثقافة العربية.

التلقين … تلك المشكلة المزمنة

                إنّ واحدة من أهم مشاكل التعليم في البلاد العربية هي طريقة التعليم نفسها، ونعني بها عملية تلقين الطالب , وحشوه بالمعلومات، والاعتماد على الذاكرة دون سواها من خلال الحفظ الاستنساخي. وجذور هذه الطريقة ضاربة في أعماق تاريخ التعليم لدينا. لذلك نجد أنّه كان يُطلق على الطالب الذي يحفظ درس شيخه من المرة الأولى “المُعيد”، لأنّه كان باستطاعته أن “يُعيد” دروس الشيخ حرفياً , بعد انتهاء الدرس للطلاب الذين لا يستطيعون حفظه من المرة الأولى. أي أنّ التركيز في عملية التعليم لدينا كان، ومازال، على الإعادة تمهيداً لعملية البصم. ولذلك تسمي كثير من الجامعات العربية الطالب الأول الذي يُعَيَّن في الجامعة بعد تخرجه “معيداً”. لهذا فإنّ هَمَّ الطالب لدينا منصبٌّ على الحفظ بعيداً عن الفهم والإدراك , أو التساؤل والبحث، فاقداً بذلك أي تفاعل إيجابي يمنحه فسحةً للتفكير، وبهذا يُحرم الدارس من النشوة العقلية المرافقة لعملية الفهم. يقول الدكتور هشام شرابي عن الطفل العربي: “يتعلم الطفل باكراً جداً كيف يستجيب طوعاً للتلقين، فما أن يبدأ بالكلام حتى يجري تدريبه على ترديد الأسماء، كأسماء الأهل والأقارب، وينال مكافأة جزيلة على استجاباته الصحيحة، ثم يجد في المدرسة الابتدائية وبعدها، أنّ أسلم طريقة للدراسة وأكثرها إرضاءً للمعلم هي طريقة الصم” (12). لذلك يكثر في مدارسنا استخدام عبارة “التسميع”، وهو الاستظهار الذي يقوم به التلميذ في المدرسة، بعيداً عن أي إدراك لمعنى الموضوعات التي يرددها. كما يقول هشام شرابي: “إنّ حياة العربي تبدأ وتنتهي بالتلقين، أما العنصر المشترك بين التلقين والعقاب فهو أنّ كلاً منهما يشدد على السلطة ويستبعد الفهم والإدراك،أي أنَّ كلاً منهما يدفع إلى الاستسلام ويمنع حدوث التغيير” (13).

       وواقع  الحال في التعليم العالي لا يختلف عنه في مرحلة التعليم ما قبل الجامعي. لذلك :”أصبح كثير من الطلاب الجامعيين العرب يجنحون إلى الاعتماد على الذاكرة في دراستهم, ويميلون إلى تقبل ما يتلقونه أو يقرأونه في الكتب من  دون نقد أو تحليل أوتمحيص. وتحوّل التعليم العالي بشكل عام إلى مجرد استذكار, وحفظ, وتكرار آلي للحقائق المحفوظة,بدلاً من أن يكون أداة لتنمية الذكاء والتفكير العلمي “(14) . وهذا النسق من التعليم يولّد نوعاً من التفكير النمطي عند الطلاب, الذي ينتشر كثيراً في مؤسساتنا التعليمية في مختلف مراحلها.

       ومن المشاكل التي تعانيها المجتمعات العربية , والتي لها أثر سيّئ في عملية ضمان الجودة التعليمية , هي عملية “المسايرة” في مجتمعاتنا. لأنّه من المعروف أنّ: “العائلة العربية توجه الفرد منذ طفولته نحو الأشخاص أكثر مما توجهه نحو الأشياء، فأول تدريب يتلقاه الطفل هو فن المعاشرة”(15). ” والتدريب على فن المعاشرة هو في الواقع تدريب على المسايرة” (16). لذلك فإنّ طرائقنا التربوية  تساعد على نمو الروح الاجتماعية عند الطفل أكثر مما تساعد على نموه الفكري. “والمسايرة أكثر من مجرد سلوك تقليدي، فهي تفترض موقفاً ذهنياً يتهرب من المواجهة المباشرة ومن معالجة المشكلات في جذورها، موقفاً يفتش عن الحلول في تسويات مؤقتة” (17). وبغض النظر عن الفوائد الإيجابية التي يجنيها الفرد من تعلمه فن المعاشرة إلاّ أنّ ذلك يكون على حساب جودة العمل. وذلك لأنّ “الميل إلى المعاشرة يجمع بين الناس في علاقات التسلية ويفرق بينهم في علاقات العمل”(18) .

 استقلال الجامعات

       وواحدة من أهم عقبات ضمان الجودة في البلاد العربية (وربما في عديد من دول العالم الثالث )هو عدم استقلال الجامعات الحكومية عن السلطة السياسية, والجامعات الخاصة عن المالك. لهذا نلاحظ أن رسائل عديد من الجامعات العربية(في حال وجودها) تكون ذات عبارات إنشائية عامة خالية من أي مغزى , أو قيمة حقيقية. لذلك ليس لهذا النوع من الرسائل أي تأثير فعلي في حياة المؤسسة, وفي تطورها , ونموها. لأن أهم دور لرسالة الجامعة ,أي جامعة, هو تعزيز استقلالها, وبلورة شخصيتها ,التي يصعب تحقيقها بعيداً عن الاستقلالية. ومن ثم يصعب أن تملك هذه المؤسسات ثقافة مؤسساتية خاصة بها. فضلاً عن أن الاستقلالية تنقل الجامعات من النمطية إلى التنوع, و الخصوصية. كما أن ارتباط الجامعة في السلطة السياسية كثيراً ما يعيق حريتها الأكاديمية التي تعد الرئة التي تتنفس بها الجامعة.

الشفاهية والكتابية

                من المعروف أنّه تم الكشف في السنوات الأخيرة عن فروق أساسية في طرق تحصيل المعرفة والتعبير بالكلام، وذلك بين الثقافات الشفاهية الأولية (ثقافات بلا معرفة بالكتابة على الإطلاق) والثقافات عميقة التأثر بالكتابة(19). وقد كان هذا موضوع كتاب تُرجم إلى اللغة العربية بعنوان: “الشفاهية والكتابية” (Orality and Literacy). وقد أشير في الكتاب إلى أنّ كثيراً من الدراسات أكدت انتماء الأدب العربي بشكله الفصيح والشعبي إلى دائرة الأدب الشفاهي المتحول في بعض أحواله إلى الكتابة(20). وهذه الدراسة تشير إلى أنّ ثمّة عقلاً كتابياً وعقلاً شفاهياً. ومن السمات التي تميز الفكر والتعبير الشفاهيين الإطناب. وهذه الأخيرة تتناقض مع روح العلم ومع جودته، لأنّ العلم ، كما هو معروف، اقتصاد في التفكير. ونتيجةً للثقافة الشفاهية نجد أنّ المجتمعات العربية تنمّي الكفاءات الكلامية عند الأطفال وتعززها من خلال وسائلها التربوية في البيت وفي المدرسة. يقول هشام شرابي: “إنّ الطفل الذي يلقي قصيدة إلقاءً ناجحاً ينال الإطراء والتشجيع أكثر مما يناله الطفل الذي يحل مسألة صعبة أو يرسم صورة جميلة“(21). وهذه البيئة تشجع على نمو المقدرة الكلامية لدى الطفل على حساب المقدرة العقلية. لذلك نجد أطفالنا ينفرون من الفكر العلمي ويعانون منه، وعلى نحو خاص الفكر الرياضي , الذي يعد قوام الفكر العلمي. وهذه عقبة كأداء أمام عملية الجودة التعليمية، لأنّ الفكر العلمي أضحى الآن يؤثر في معظم فروع المعرفة الإنسانية، هذا بغض النظر عن أثره في الاختصاصات العلمية. حتى أنّ المفهوم المعاصر للعقل , على أنّه “لعب وفق قواعد”، وشيوع النزعة الموضوعاتية( axiomatic)، أي الفرضية – الاستنتاجية , في كثير من العلوم حديثاً قد انطلقت من تعريف المنطقي والفيلسوف البريطاني برتراند رسل Bertrand Russel (1872-1970) للرياضيات على أنّها جملة القضايا q التي تنتج من القضاياP.

 

الهوامش:

  1. “الجودة الشاملة في التعليم”، تحرير: رشدي أحمد طعيمة، دار المسيرة (عمان) ، 1426/2006.
  2. المعنى الحرفي (المعجمي) للعبارة هو الجودة العرضية (غير الجوهرية) في التعليم العالي, بيد أن هذه الترجمة لا تفي بالغرض في اللغة العربية. وارتأينا أن تُترجم إلى “الجودة العملية”, و المهم هو المقصود من العبارة أكثر من الكلمات المستخدمة.
  3. وهذا ليس مستغرباً, فحتى الرياضيات ,أكثر العلوم موضوعية, كانت تختلف بعض موضوعات الدراسة في أوربا الغربية عن أوربا الشرقية, حيث كانت تركّز هذه الأخيرة على الجانب التطبيقي(النفعي).
  4. 4-  “مقدمات لدراسة المجتمع العربي”، هشام شرابي، الأهلية للنشر والتوزيع (بيروت) 1977 ، الصفحة48 .

   5- “تكوين العقل العربي”، د. محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت) ، ط-9 2006، الصفحة 345.

   6- المصدر نفسه، الصفحة 339.

   7- المصدر نفسه، الصفحة 5.

   8- مجلة “عالم الفكر”، “الكويت، مج 28، العدد 3– يناير/مارس 2000، الصفحات 28–9.

   9- “تاريخ الرياضيات العربية”، رشدي راشد، ترجمة: حسين زين الدين، مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت) 1989، الصفحة 64.

      هذا ويقصد رشدي راشد بهؤلاء المؤلفين الكاتبين L. Massignor & M. Arnaldz.

   10- “تكوين العقل العربي”، الصفحة 347.

   11- “تكوين العقل العربي”، الصفحة 350.

   12- “مقدمات لدراسة المجتمع العربي”، الصفحة 41.

   13- المصدر السابق، الصفحة 41.

   14-“السلطوية في التربية العربية”, د.يزيد عيسى السورطي,عالم المعرفة(الكويت),2010,       الصفحة 17.

   15- “مقدمات لدراسة المجتمع العربي”، الصفحة42 .

   16- المصدر السابق، الصفحة 43.

   17- المصدر السابق، الصفحة 43.

   18- المصدر السابق، الصفحة 45.

   19 – انظر “الشفاهية والكتابية”، والترج أونج، ترجمة: حسن البنا عز الدين، عالم المعرفة (182)، الكويت، الصفحة 47.

   20- المصدر السابق، الصفحة 44.    21- “مقدمات لدراسة المجتمع العربي”، الصفحة 146.