د. محمود باكير
نشر في مجلة الدوحة – قطر العدد 115 مايو (أيار) 2017 التي تصدرها وزارة الثقافة في قطر
يصحو العالم وينام على إيقاع الاضطرابات التي أضحت باعثاً أساسياً لقلق الناس. فالعالم مثقل بالمشاكل الداخلية للبلدان, فضلاً عن تلك الخارجية بين الدول. وسبب ذلك, كما يبدو, يكمن في الطريقة التي يمارس بها بعض السياسيين عملهم السياسي. وهذا نابع, كما يُظن, من أن معظم هؤلاء يخالون أن “ذكاء” الرجل السياسي يتجسد في كيف يستطيع أن يؤذي غيره, دون أن يعلم به أحد. أو على الأقل يخطط بعضهم لتحقيق مصالحه, بغض النظر تماماً عن مدى الضرر الذي يمكن أن يلحقه بمصالح غيره, دون الأخذ في الحسبان انعكاس ذلك سلباً على مصالحه على المستوى البعيد. و “الرؤية” المطروحة هنا هي أن طاقة الرجل السياسي يجب أن تتجه نحو: كيف يستطيع تفادي إيذاء غيره. وهذا على خلاف ما يقوم به كثير منهم في ممارستهم السياسية. لأن الرجل السياسي الحاذق, والحكيم, هو من يستطيع مساعدة غيره في الوصول إلى هدفه, وليس في منعه, أو إعاقته في ذلك. وذلك لأن العالم كله عبارة عن “فضاء” واحد متفاعل. وهذا الكلام صحيح منذ القدم, وليس في العصر الحاضر فقط, كما يشير بعضهم. فالعالم كله فضاء متصل منذ أن خُلق الإنسان, والشيء الجديد أن تفاعل سكانه أصبح أسهل, و أسرع, بسبب وسائل الاتصالات الحديثة التي ساعدت على ذلك.
وهذه “الرؤية” التي قوامها: “الحكمة في أن تتفادى إيذاء الآخرين”, إذا لم تصبح منهجاً للجميع, فلن يعيش العالم بسلام, وستبقى الاضطرابات, والحروب, ديدنه, خاصة مع اتضاح مدى “ذكاء” الإنسان التكنولوجي, وعمقه, على حساب “ذكائه” في القضايا الإنسانية, وضحالته, بسبب وضوح مسار الأول, وفوائده الملموسة. وهذا على خلاف غموض المسار الثاني, وفوائده غير المرئية. فالصراعات في تزايد, ويستحيل إيقافها, أو حتى الحد منها, ضمن الذهنية السائدة حالياً في العالم. لأن الحلول التي يطرحها المتصارعون تحمل بذور صراعات جديدة قادمة. و لن يستقر هذا العالم المضطرب حتى يأتي رجل “حكيم” يشتري جهنم كاملة من الأشرار كما في الحكاية الرمزية.
شراء جهنم
تقول الحكاية الرمزية إن شخصاً مخادعاً حضر إلى إحدى القرى, وبدأ يبيع الناس أرضاً في الجنة, ويمنحهم صكوكاً موقعة منه بذلك. وهناك حكيم يعيش في قرية مجاورة عرف بذلك الخبر, وأراد تخليص الناس من شر ذلك الشخص. فذهب إلى تلك القرية, وطلب من المخادع أن يبيعه جزءاً من جهنم. فقال له المخادع: خذها كاملة مجاناً. فرفض الحكيم ذلك, وأصرّ على شراء ربعها. عندها طلب المخادع مبلغاً من المال مقابل الربع. فقال له الحكيم: سأعطيك, إذن, أربعة أمثال هذا المبلغ مقابل جهنم كاملة. فوافق المخادع على هذا العرض “المغري”, وأعدّ له صكاً بملكية جهنم كاملة. و طلب الحكيم أن تتم عملية البيع أمام شهود. لهذا أصرّ على حضور أهالي القرية توقيع صك البيع من قبل المخادع, وأن يوقع بعضهم شهوداً على ذلك. وبعدها وقف الحكيم ليخاطب أهل القرية المجتمعين قائلاً: الآن أصبحت “جهنم” كاملة ملكي الشخصي, ولن أسمح بعد اليوم, لأي شخص بدخولها. لذلك لا حاجة لكم, بعد الآن, لشراء أراض “بالجنة”, لأنه لم يبق أمامكم سوى خيار دخول “الجنة”.
و”بنية” هذه الحكاية الرمزية تذكّرنا بالأحجية الشعبية التي تسأل: ما هو سبيل الخلاص للمتهم الذي نصب له القاضي المتحامل عليه فخاً بأن كتب قصاصتين من الورق تنص كلتاهما على عقوبة الإعدام, ووضعهما في كيس واحد, وقال له كذباً: بأن في الكيس حكمين, الأول إعدام, والثاني براءة, وعليك أن تختار إحدى هاتين القصاصتين كي ننفذ ما تحصل عليه. والسؤال: كيف يمكن أن ينقذ المتهم نفسه, بعد أن عرف ما قام به القاضي؟ وسبيل الخلاص الوحيد هو أن المتهم قام بسحب إحدى الورقتين, وبلعها في الحال, ثم قال للقاضي: لقد أخذت نصيبي..والآن أرني الحكم الباقي؟ أي أن الحكمة (البنية) في كلتا القصتين الرمزيتين, أنه عندما لا يوجد أمامنا, في موقف ما, سوى خيارين, أحدهما سيء (شر), والآخر جيد (خير), وكان الحصول على الخيار الجيد صعباً جداً, أو ربما مستحيلاً, فيكفي القضاء على الخيار السيئ. أي أنه ليس من الضروري أن تقاتل, أحياناً, للحصول على الخير, بل يكفي استبعاد الشر من الخيارات المطروحة. لهذا إن لم نكن قادرين على زيادة الاعتقادات الصحيحة, فلنقلّص من الاعتقادات الزائفة.
ومن اشترى جهنم فقد “تملّك” شيئاً يعلم, حقيقة, أنه افتراضي. وهو في هذا على خلاف بقية أهل القرية “المتيقنين” من أنهم اشتروا أرضاً في الجنة. و دافعه في ذلك كي يحل مشاكل غيره, وليس حيازة مزيد من الأشياء. وهذا يذكّرنا بالقصة المعروفة الواردة في الأثر المتعلقة بتقسيم 17 جملاً بين ثلاثة رجال, يملك الأول نصفهم, والثاني ثلثهم, والثالث تسعهم, دون تقسيم أي من الجمال. و تنسب القصة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. وهي تثير معضلة يستحيل حلها دون حل إبداعي. لذلك تقول الروايات إن أمير المؤمنين أضاف جملاً من عنده, لذلك أصبح المجموع 18 جملاً, وهذا العدد يقبل القسمة على 2و3و 9, على خلاف العدد17. أي قابلاً للقسمة وفق الحصص المطلوبة (النصف, والثلث, والتسع), ويبقى جمل بعد التقسيم. لذلك أخذ أمير المؤمنين جمله في النهاية. أي أنه, عملياً, لم يعط الورثة الجمل الإضافي, بل كان شيئاً افتراضياً كي يحل هذه المعضلة. وكثير من مشاكل الحياة تحل بهذا النوع من المقاربات الافتراضية.
“التفكير من خارج الصندوق”
يقول فيلسوف العلم البريطاني كارل بوبر Karl R. Popper (1902-1994) في كتابه “أسطورة الإطار”: “العلم العظيم والعلماء العظام, شأنهم شأن الشعراء, كثيراً ما يستلهمون حدوساً غير عقلانية”. وهذا هو حال الحكيم, لأن الحل المطروح في القصة (شراء جهنم) يبدو للكثيرين أنه حدس غير عقلاني. لأن الحدس “العقلاني”, من وجهة نظر هؤلاء, هو أن تقضي على الشخص المخادع, أو أن تحاربه. لذلك يمكن أن تشكّل هذه “الرؤية”(البنية) صدمة معرفية لبعضهم, لأنها لا تتسق مع المفهوم التقليدي للمعرفة السائدة. فهؤلاء يفكرون ضمن أنساق, ومنظومات, معروفة, وواضحة. ولا يستسيغون أي انزياح في منهج التفكير. فما هو مطروح, كأننا أمام “منظومة منطقية” جديدة, ذات طبيعة خاصة. ومن المعروف – رياضياً – أنه كي نغيّر في أي “منظومة منطقية” علينا تغيير مسلماتها(موضوعاتهاaxioms) التي بنيت عليها. وهذا ما ننشده من نسج “بنية ذهنية” جديدة. فهذه النظرة تتطلب وثبة عقلية, أو على الأقل إعادة صوغ تفكير بعض الناس, وخاصة إذا عرفنا أن الإنسان, من وجهة نظر علم النفس, ليس سيء الخَلق بل سيء التنشئة. ويمكن أن نطلق على مقاربة هؤلاء الحكماء(شراء جهنم, أو المتهم, أو قصة التركة) بأنها من نوع “التفكير من خارج الصندوق” To think outside of the box. وهي استعارة تعني أن تفكر بطريقة مختلفة, وغير تقليدية. أي من منظور جديد, من خارج المنظومة المألوفة, بهدف الوصول إلى حل مبتكر. فما هو مطروح ليس إعادة إنتاج حلول قديمة, بل اصطناع حلول جديدة. و هذا النوع من التفكير يُعبّر عن قول أحدهم عن الحقيقة بأنها نسبية, وأنها تُخلق خلقاً أكثر مما تُكتشف اكتشافاً.
ونلاحظ أن هذا النوع من تفكير هؤلاء الحكماء مبثوث, ومستتر, في عديد من المجالات المعرفية, ولكن دون أن يبدو منهجاً واضحاً, ومعترفاً به. أي أن هذه “الرؤية” ليست جديدة في منطلقها, بل ثمة أقوال وردت في الأثر حملت ملامحها, ولكن دون حجج تدعمها. من ذلك ما يقوله بعض فلاسفة الإسلام من أن: “الغنى هو عن الشيء, وليس بالشيء”. لذلك ورد في تفسير فخر الدين الرازي في شرح سورة التوبة أن: “الاستغناء عن الشيء أعظم من الاستغناء بالشيء, فإن الاستغناء بالشيء يوجب الاحتياج إليه, إلاّ أنه يتوسل به إلى الاستغناء عن غيره, فأما الاستغناء عن الشيء فهو الغنى التام”. لهذا سميت الغانية كذلك, لأنها المرأة الغنية بحسنها, وجمالها من دون زينة, وهو على خلاف ما هو شائع عند بعضهم. كذلك السياسي الحاذق هو من يستطيع أن يستغني عن إضرار الآخرين, وليس إضرارهم. أي لدينا, تجاوزاً, “مجموعة” خارجة عنا(القدرة على إحداث الضرر, أو امتلاك المال, أو غيره), والسؤال: هل الغنى بامتلاكها, أو بالاستغناء عنها؟ أي ليس المهم دوما أن نمتلك, أو نحوز, أي شيء, بغض النظر عن فائدته, أو ضرره. لذلك نستطيع أن نفهم مغزى ما يقوله الفيلسوف الألماني ايمانويل كانت(1724-1804) من أن:” أفضل سياسة هي الصدق والاستقامة”
و في السلوك اليومي البسيط عند بعض الشعوب, نجد أن الإنسان الإنكليزي, مثلاً, الذي يصادف شخصاً آخر أثناء صعوده (أو نزوله) على الدرج يتوقف, وينتظره حتى يهبط, ثم يتابع صعوده. أي أنه “اشترى” التوقف مؤقتاً من أجل فسح المجال لغيره. ونحن هنا لا نناقش النوايا, فهذه مسألة أخرى, ومعقدة, لا مجال لدراستها, وليست من اهتمام هذه الدراسة, بل نتحدث عن طبيعة الممارسة في كثير من المواقف الحياتية, وكيف يمكن أن تكون أفضل إنسانياً.
الحل يتسق مع طبيعة السياق
وطبيعة هذا النوع من الاعتقادات(إمكانية شراء أراض في الجنة) فرضت على الحكيم ابتكار هذه الطريقة, لأنه لا يوجد طريقة أخرى متاحة لإقناع الناس البسطاء بأن أراضي الجنة ليست للبيع. لهذا “اشترى” كامل الخيار الآخر, ومن ثم نفى إمكانية اختياره من قبل الآخرين. وهذا النوع من التفكير أخذ شكلاً آخر عند الخبير الاستراتيجي الأمريكي(المستشار لدى المؤسسات العسكرية والأمنية) إدوارد لوتواك Edward Luttwak في بحثه المعروف(في مجلة Foreign Affairs في أواخر التسعينيات من القرن المنصرم) المعنون: ” “Give Ware a Chanceحيث يقترح, و إن كان في سياق آخر, من أنه: “يجب أن نعطي للحرب فرصة”. وأضحى هذا البحث معروفاً في دوائر المخططين السياسيين الاستراتجيين في الغرب, ومَعْلماً من معالم تفكيرهم لطرح حلول مشاكل العالم. ومن هؤلاء, على سبيل الذكر لا الحصر, الأكاديمي الكندي ويل كيمليكا Will Kymlicka في كتابه المعروف “أوديسا التعددية الثقافية..سبر السياسات الدولية الجديدة في التنوع”. وغاية لوتواك من “إعطاء الحرب فرصة” – وفق ما يقول – هي: “إن الصراع العرقي العنيف أمر سيء, لكن من المهم بالنسبة إلى كل من الطرفين أن يتعلم بالطريقة الصعبة أنه لا يستطيع هزيمة الآخر, من ثم الحاجة إلى الجلوس إلى المفاوضات للوصول إلى حل وسط”. فنحن أمام حالتين, وعندما ننفي إحداهما فلا يبقى سوى الخيار الثاني. وهذا هو عين حال المتهم والقاضي. ولكن لكل سياق حله المبتكر, الذي يشتق من طبيعته.
أي أن ثمة “بنية” خاصة نبحث عنها, قوامها تفادى الأذى, و تظهر في عديد من السياقات. لذلك نجد, بعد التجريد, أن “العلاقات” التي تسود أي من تلك السياقات هي ذاتها. لهذا فإن الفكرة التي تستبطنها هذه “الرؤية”, هي حضور مفهوم “البنية” الرياضي. ونعني “بالبنية” – رياضياً – هي “تقطير” تلك السياقات بغية الحصول على “العلاقات” التي تحكمها, وإهمال ماهية السياق. لذلك ما نقوم به, عملياً, هو البحث عن “قانون” يعبّر عن عديد من الظواهر.
المقاربة الأدبية البنيوية
ولو نظرنا إلى الموضوع من منظور جديد, وقاربناه باستخدام مفاهيم النقد الأدبي الحديث (التفكير الأدبي البنيوي), وتوسلنا ما يقوله الفيلسوف الفرنسي تزفتيان تودوروفTzvetan Todorov ( 1939- ) حول الأدب الفعلي”, و”الأدب الممكن”, نجد أن الحكاية الرمزية تجسيد “للأدب الفعلي”, في حين ما نتحدث عنه هو من نوع “الأدب الممكن”, إن جاز التعبير. يقول آن جفرسون Ann Jefferson في كتابه “النظرية الأدبية الحديثة”(بالمشاركة مع ديفيد روبي) نقلاً عن تودوروف: “يُنظر إلى كل عمل أدبي باعتباره مجرد تجل لبنية مجردة و أكثر عمومية بكثير, و باعتباره واحداً لا أكثر من تجسيدات عديدة ممكنة لها. و إلى ذلك الحد, لا يتعامل هذا العلم مع الأدب الفعلي, و إنما مع الأدب الممكن“. فالبنية نظير “الأدب الممكن”, وأي من السياقات السابقة نظير “الأدب الفعلي”, أي تعبير عنه.
و إذا قاربنا الفكرة فنياً باستخدام خيالنا, نشير إلى أن بلورة هذه “البنية” تنطوي على نوع من “النحت الذهني”, بالمعنى المجازي للعبارة. لأنه كي نصل إلى “رؤيتنا”, ضمن هذا الركام الهائل من المعارف التقليدية السائدة الواقعين تحت تأثيرها, لا بد من التخلّص من كل ما هو زائد عنها, كي تتضح معالم هذه “الرؤية”. والعبارة المجازية أتت من أن هذه العملية تتقاطع – صورياً – مع فن النحت في الفنون الجميلة, حيث يقول بعضهم بأن النحّات يمتلك صورة التمثال في خياله قبل الشروع في عمله, وما عملية النحت سوى إزالة الزوائد في الحجر كي يتضح شكله.
و ليس من الضروري أن يكون منطلق “الرؤية” المطروحة أخلاقياً بحت, بل هو عقلاني بحت, بغض النظر عن طبيعة العلاقة العميقة بين الجانب الأخلاقي والعقلاني. لأن الهدف البعيد منها هو تحقيق مصالح صاحب الرؤية, مع الأخذ في الحسبان مصالح الآخرين. وهذا لا يتناقض مع ما هو معروف في السياسة من أن محركها الأساسي المصالح, وليس المبادئ. ولكن إذا نظرنا للأمور على المستوى البعيد نجد أن المصلحة الشخصية البعيدة ترشح خدمة من تستطيع خدمته, وليس تحقيق مصلحتك دون غيرك, لأن توازن المصالح الضامن الأساسي للاستقرار. لذلك يُقال في علم التفاوض أنه حتى لو كان باستطاعتك الحصول على شيء ما بالقوة, فاحصل عليه بالتفاوض. يقول ويليام أوري في كتابه “فن التفاوض”: “حتى لو كان باستطاعتك الانتصار تفاوض…إن من أفضل النتائج, وأكثرها استقراراً حتى للطرف الأقوى هي النتائج التي تتحقق من خلال المفاوضات”. لأنه من المعروف أن التسوية الإلزامية التي تخدم طرفاً بعينه ليست نهائية, ولن يُكتب لها العمر, بل تحمل في طياتها بذور فشلها.
و نستحضر ما يقوله ونستون تشرشل(رئيس وزراء بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية) في كتابه “أزمة العالم”: “إنه ليس هناك أحد يكسب الحرب, هناك فقط من يخسرونها”. كذلك الحال مع الحكاية الرمزية, ليس هناك من يشتري (يكسب) الجنة, هناك فقط من يخسر المال. لذلك نستطيع القول إن التقسيم المعروف للصراعات في “نظرية المبارزة” Game Theory (وهي طريقة لدراسة صناعة القرار في حالات الصراع, معنية بدراسة السلوك الأفضل لكل طرف معتمداً على قدرته على توقع ما سيقوم به الطرف الآخر. و هي تقوم على نوع من التفسير العقلاني الذي يجمع بين الرياضيات, و المنطق) بين الصراعات الصفريةzero-sum game , والصراعات غير الصفرية non-zero-sum game فيه جزء من التعسف. وهو صدى للتفكير الثنائي القيمة(الصفر والواحد) المنتشر بين معظم الناس. وهذا نابع من الثنائيات اللغوية المعروفة(الفضيلة والرذيلة, الكبير والصغير, الخير والشر,…). وعلى الرغم من أهمية اللغة في التفكير الإنساني إلا أنها تحمل في طياتها كثير من التضليل, والزيف, نتيجة لما تحفل به من ثنائيات متضادة. وأول من أشار إليه الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه 1844)Friedrich Nietzsche-1900). وقد تكون هذه الثنائيات السبب في أن قيم الحقيقة في المنطق الصوري ثنائية القيمة. لأنه من المعروف أن القضايا الصحيحة(الصادقة) تأخذ القيمة واحد، والقضايا الخاطئة(الكاذبة) تأخذ القيمة صفر, ولا وسط بين ذلك. وهذا التفكير ثنائي القيمة طبع عقول كثيرين منا بمنهجه، وما زال, على الرغم من قدمه, وعدم تعبيره عن الواقع. وهذا أدى إلى ولادة منطق تكون قيم الحقيقة فيه متعددة. من ذلك المنطق العائمFuzzy Logic. ففي هذا المنطق تكون قيم الحقيقة مساوية لأية قيمة بين الصفر والواحد, بما في ذلك الصفر والواحد. ومن فائدة ذلك في الإطار الاجتماعي, أو السياسي(كمنهج في التفكير), أنه من الخطأ القول: “إن من ليس معي فهو ضدي”. وهذه المقاربة تمتح من الآية الكريمة: “ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً”( البقرة :269). فلم يرد في التنزيل الإلهي: من يؤت القوة, أو المال, أو العلم, أو غير ذلك. فالمال, أو العلم, مثلاً, قد يضران بصاحبهما إذا استخدما على نحو خاطئ. بيد أن الحكمة لا تحمل في ثناياها إلاّ الخير المطلق لصاحبها أولاً, ولمن حوله تالياً. لذلك أتت الآية الكريمة على نحو الإطلاق. و قد تكون الحكمة القيمة الوحيدة التي تتصف بهذه السمة المطلقة. لهذا ارتبطت مع الخير ارتباطاً عضوياً. وكثيراً ما نجد أن الإنسان يطلب, أو يبحث, عن القيم التي يكون مردودها مباشراً, و مرئياً. أما تلك القيم غير المرئية, أو التي تعطي نتائج على المستوى البعيد, فيتثاقل الإنسان في السعي إليها. و قد يعزى ذلك إلى عدم الشعور بقيمتها المباشرة. و خاصة إن كان إدراكها يتطلب قدراً من التجريد. لذلك نجد أن الناس تحسد الآخرين على كثير من الأشياء باستثناء الحكمة. لهذا يقول نسيم طالب Nassim Nicholas Taleb(رياضي أمريكي من أصل لبناني, و كاتب مرموق): “إنهم سوف يحسدونك على نجاحك, و على ثروتك, و على ذكائك, و على هيئتك, و على مركزك, و لكن نادراً من أجل حكمتك”.