الرياضيات… منهجاً للتفكير

د. محمود باكير

(نشر هذا المقال في مجلة العربي- الكويت, العدد689, أبريل/نيسان 2016)

   يقول الرياضي الأمريكي (الهنغاري الأصل) الفذ جون فن نيومان john von neawmann  (1903 – 1957) الذي كانت إنجازاته علامة فارقة على المستوى العلمي في القرن العشرين, في الرياضيات (البحتة والتطبيقية), وفي الفيزياء النووية,وفي الحاسوب,وفي الاقتصاد (أحد مؤسسي نظرية المبارزة Game theory ), وأحد المساهمين الرئيسيين في القنبلة الهيدروجينية, في أحد المؤتمرات التي كان متحدثاً رئيسياً فيها: “إذا كان الناس لا يقتنعون بأن الرياضيات بسيطة, فإن السبب الوحيد لذلك هو أنهم لا يدركون كم هي الحياة معقدة”. وهذا الكلام لا يعني أن الرياضيات بسيطة, لأنها في واقع الأمر غير ذلك تماماً, ولكن صعوبتها نسبية. فعندما نقارنها بتعقيد الحياة نجد أنها بسيطة. أما أولئك الذين يستسهلون الحياة, وعلى خلاف ما هي عليه حقيقة ً, فلربما يجدون صعوبة في الرياضيات. والسؤال, ببساطة, إذا سلّمنا بصحة مقارنة الرياضي نيومان, فأين يكمن تعقيد الحياة؟ وهل التعقيد في ماهية الحياة نفسها, أو هو سوء فهم من قبل الإنسان؟ وهذا السؤال يمكن الإجابة عليه, جزئياً, بالاستفادة من روح الرياضيات نفسها, أي من خلال التفكير الرياضي الحديث. فإذا كانت الرياضيات قد أوحت بالسؤال, فإنها يمكن أن تجيب عنه أيضاً, وهنا ربما يسأل بعضهم : ما    علاقة الرياضيات بذلك ؟

التناظر بين الرياضيات والطبيعة

     في البدء لابد من الإشارة إلى أن قسماً كبيراً من الرياضيين يؤمنون بأن الرياضيات “هبة إلهية” , بمعنى أن وجودها أزلي, ومستقل عن الإنسان, لذلك – من وجهة النظر هذه – هي تُكتشف, ولا تخترع. وجُلّ ما نقوم به هو اختراع اللغة اللازمة للتعبير عن تلك المعطيات وصوغها, إضافة إلى ذلك فإن : “النماذج التي تكون الرياضيات قد اختارتها فإن الطبيعة تكون اختارتها سلفاً” , وفق ما يقوله الفيزيائي بول ديراك Dirac  Paul. ونتيجة لهذا التناظر الكبير بين تفكير الإنسان (الرياضي على الأقل) والطبيعة بمعناها الواسع, فإن الرياضيات, و فكرها, يساعداننا على فهم عديد من القضايا المغلقة أو المبهمة. لذلك أضحت الرياضيات, في رأي كثيرين, تشكل “برمجيات” software  (بالمعنى الاصطلاحي) العلوم, وسنحاول الآن أن نجعلها “برمجيات” لبعض القضايا الإنسانية.                         

 ولتوضيح الأمر أكثر لابد من الإشارة إلى أن كبار علماء الرياضيات بذلوا جهوداً مضنية, عبر العصور, كي يتوصلوا إلى جواب مقنع حول السؤال: أيهما أكثر أهمية طبيعة مكونات الرياضيات أم العلاقة بين هذه المكونات؟ وبعد قرون عدة, ومخاض كبير ذي طبيعة فلسفية لا مجال للتطرق إليه, تبيّن للرياضيين, وفي مقدمة هؤلاء الرياضي الألماني ديفيد هيلبرت David Hilbert  (1862- 1944 م) أن : “طبيعة الكيانات المدروسة في الرياضيات لا أهمية لها, وأن العلاقات الموجودة بين هذه الكيانات هي وحدها المهمة”.

     ومن روح هذه الرؤية يمتح الرياضي البريطاني (اللبناني الجذور والحاصل على لقب النبالة البريطانية) مايكل عطية Michael Atiyah  (1929 –    م) في خطبة الوداع التي ألقاها عند انتهاء فترة رئاسته للجمعية الملكية البريطانية: “وتمضي الرياضيات بهذه الطريقة, حيث يتم تجاهل هوية اللاعبين, والتركيز على درس علاقاتهم المشتركة”. وهذه “الفكرة” – المفتاح (البسيطة في مظهرها والعميقة في مغزاها), وبعد تبلورها في الرياضيات,على نحو واضح وراسخ, انتقلت إلى بعض العلوم الأخرى, وأصبح من الجلي, أنه في العلاقات الإنسانية, المهم هو العلاقة مع الآخرين لا طبيعتهم, على الرغم من أن معظمنا يركّز على دراسة فهم الآخرين, على حساب إهمال دراسة طبيعة العلاقة معهم . لذلك نلاحظ أن الوقت المصروف على فهم الناس أكثر مما يصرف في بلورة العلاقة معهم. وهذا لا يعني أن طبيعتهم ليست مهمة, ولكن أكثر ما يهمنا, من تلك الطبيعة, هو تأثيرها على العلاقة بيننا, أكثر من طبيعتهم ذاتها, التي يصعب فهم كنهها, أو حتى أحياناً مقاربتها, هذا عدا عن أن فهم الآخرين يتطلب قدراً كبيراً من التجريد. هذا وربما لاحظ بعض العاملين, في الحقول المعرفية الأخرى, هذه الفكرة من قبل, بيد أن الرياضيين هم أول من بلورها على أساس علمي واضح وأبرزوا مكانتها. وإن صح هذا الظن فإنه يؤكد على أن الرياضيين يذهبون بعيداً في محاكاتهم. فهم لا يحاكون الطبيعة, فحسب, بل يحاكون كل ما يقال لهم على طريقتهم الخاصة. وفي هذا المعنى يقول الشاعر والفيلسوف الألماني غوته J.W.W Goethe  (1749- 1832): “إن الرياضيين مثل الفرنسيين, أي شيء تقوله لهم يترجمونه إلى لغتهم, وبعد ذلك يصبح هذا الشيء أمراً مختلفاً تماماً”.

مهارات التواصل

      إن تطبيقات هذه الفكرة أصبحت كثيرة, وفي مختلف المجالات, بل إنها آلت إلى نوع من المرجعية العامة. ففي علم الجمال عندما يقول بعضهم إن الجمال, أو الكمال, يكون في الاعتدال, نجد أن هذا “الاعتدال”, هو تجسيد للعلاقة بين المكوّنات التي نتحدث عنها (الوجه أو الجسم أو غير ذلك), ومن ثم فإن اهتمامنا أصبح, ضمناً, في العلاقة. وعندما ندرس “النسبة الذهبية”Golden ratio  المعروفة في العمارة, أو في الفن, أو في علم الجمال, نجد أن مفهوم “النسبة” هو حالة خاصة من العلاقات, لأن كل نسبة هي علاقة, لكن العكس غير صحيح بالضرورة. ومنظري السياسة يقولون إن الدولة الحديثة قامت على مفهوم “المنافع المتبادلة بين أفرادها”, أي إننا من هذا المنظور, نجد أنها قامت على العلاقات بين أفرادها, وليس على فهمهم لبعضهم.

         لذلك انتشر في معظم جامعات العالم, حالياً, تدريس مقرر “مهارات التواصل” لكل الاختصاصات, أكثر من تعليم علم النفس, وأضحى متطلباً جامعياً. ويبدو أن السبب في ذلك هو أنه من الممكن أن يكون للمتلقي دور في مهارات التواصل, لأنه طرف أساسي في العلاقة, وله مساهمة في نسجها. في حين أن فهم الآخرين ليس من المؤكد نجاح الفرد في هذه المهمة الشاقة, إن لم نقل المستحيلة, لأن الإنسان لغز صعب, بل هو صندوق مغلق. ثم من يضمن, أو يؤكد, صحة النتائج التي يمكن استخلاصها, أو انتزاعها عن طبيعة الآخرين؟ أي إن هذين الأمرين (الخيارين) ليسا على قدم المساواة من حيث الأهمية, أو من حيث إمكانية الحصول عليهما. والحل الأكثر منطقية هو اختيار المتاح والتركيز عليه. لذلك نجد أن الديانات السماوية لا تركّز على فهم طبيعة الإنسان, بل ينصب معظم تركيزها على علاقة الفرد بنفسه, وبربه, وبالآخرين. ولهذا يقال إن “الدين المعاملة”, أي إن حجر الأساس في الدين هو العلاقة. كما أن لهذه الفكرة تطبيقات كثيرة في الحياة, تساعدنا على فهم كثير من مناحيها. ومن ذلك على سبيل الذكر لا الحصر, أنه ورد في الأثر: “رب أخ لك لم تلده أمك”, أي إنه حتى في القرابة, هناك شيء أكثر أهمية منها, هو العلاقة مع الآخرين, وقد تتفوق على رابطة الدم. كذلك نجد من تطبيقاتها أن سوء التفاهم المزمن بين الرجل والمرأة في المؤسسة الزوجية, يعزى إلى أن كل منهما يحاول أن يفهم الآخر دون جدوى, وربما يصعب أن ينجحا في ذلك لأسباب عديدة, أو على الأقل, فإن ذلك يستغرق زمناً طويلاً. بيد أن الحل المتاح, والبسيط, هو في التركيز على العلاقة بينهما. هذا وقد كان لهذه الفكرة أثر بيّن, ليس على المستوى الاجتماعي فحسب, بل حتى على الفكر المعاصر في عديد من الحقول المعرفية, حتى أن الفكر العلمي الحديث بدأ ينحو المنحى نفسه. يقول جون ليشته في كتابه (خمسون مفكراً أساسياً معاصراً من البنيوية إلى ما بعد الحداثة) : “إن باشلار (فيلسوف علم فرنسي) في مجرى حديثه عن الفكر العلمي الحديث يقول: إنه يتجه أساساً إلى رؤية الظواهر باعتبارها علاقات, وليست جواهر أو أشياء, أو أنها تمتلك صفات أساسية في ذاتها”.

السرائر ومناهج التفكير

     لقد أثمر ذلك ولادة علم خاص, ومستقل, للعلاقات, أو العلامات بكل أنواعها, يسمى علم السيميولوجيا (أحياناً هناك تسميات أخرى له قريبة من ذلك), ولن ندخل في تفصيلاته لأنه خارج اهتمامنا, ويتطلب شرحاً مطولاً, وبخاصة ما يربط “العلاقات” مع “العلامات”, وربط كل ذلك بالبنيوية كمنهج للتفكير. وفي ظلال ما تقدم نستطيع أن نفهم ما ينطوي عليه الحديث النبوي الشريف المعروف الموجه لأسامة بن زيد: “هلاّ شققت عن قلبه؟ “. لأن القاعدة المعروفة في الفقه والأصول هي أن ” الأحكام يحكم فيها بالظاهر, والله تعالى يتولى السرائر”. والظاهر يشير, من دون شك, إلى الممارسة, أي إلى العلاقة, وليس إلى طبيعة الآخرين, وما في سرائرهم. وهذا نظير, أو تعبير عن أن هناك عالم الشهادة, وعالم الغيب. فالعلاقة مع الآخرين يمكن أن تندرج في عالم الشهادة الذي في متناول الإنسان, أما طبيعة الإنسان, فهذا يندرج – إن جاز التعبير- في عالم الغيب. والفكرة الجنينية لأهمية “العلاقة” موغلة جداً في القدم في الرياضيات, وكان يكتنفها كثير من الغموض, بيد أن اكتشافها, وبلورتها على هذا النحو, كانا مع بدايات القرن العشرين. وما يؤكد قدمها هو أن مفهوم “العدد”, المألوف للجميع, تولّد أصلاً من فكرة “العلاقة”. فنحن نعرف أن العدد “ثلاثة”, مثلاً, هو ما تشترك فيه المجموعات المؤلفة من ثلاث زهرات, أو ثلاثة كتب, أو ثلاثة طيور… أي إن هذا “المشترك” بين هذه المجموعات قاد إلى تشكيل مفهوم “الثلاثية”. وهذا المشترك هو تجسيد للعلاقة بينهما. فالمهم العلاقة بين تلك المجموعات, وليس طبيعة عناصرها. وكذلك الحال في العدد أربعة, أو خمسة أو غير ذلك من الأعداد.

       وفي الختام, لابد أن نشير إلى أن الرياضيات ليست علماً يقتصر على الحسابات, وحل المسائل, كما يخال بعضهم, بل إنها, باختصار, منهج للتفكير, وطريقة للوصول للحقيقة, أو على الأقل مقاربتها.          

          * هو فيلسوف علم فرنسي معاصر .