د. محمود باكير
( نشر في جريدة تشرين / العدد 7164 / تاريخ 26/7/1998 )
عرفته عن بعد , وأنا على مقاعد الدراسة في كلية العلوم بجامعة دمشق , وهو لم يزل شاباً يافعاً . فقد كان مدرساً ناجحاً ومتميزاً في قسم الرياضيات , ذا شخصية قوية , ومسيطرة على جو المحاضرة . وكان محباً للانضباط والنظام , صارماً في تطبيقه , ودقيقاً في كل شيء . يلقي علينا محاضراته بلغة عربية سليمة , ولا يضن بشيء من علمه الغزير . ولم أزل أذكر عبارته ( ونحن طلاب في السنة الأولى ) والتي أرددها دوماً بعد أن اتضح لي عمق فحواها مع الأيام , بأن ” الرياضيات معاناة شخصية “, فهي تكثف كيفية تعلم الرياضيات . وعرفته كهلاً عن قرب وحتى وفاته . عرفت فيه أشياء لم أكن أعرفها من قبل . فهو رجل وديع , لطيف المعشر , دمث الأخلاق , متواضع .. كان يسألني دوماً ( عندما كنت ألتقيه في مكتبه في المعهد العالي للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا حيث كان نائباً لمدير المعهد ) عن أعضاء الهيئة التدريسية في قسم الرياضيات في الجامعة ويطمئن عن صحتهم وأخبارهم . فهم طلابه سابقاً , وزملاؤه حالياً .
هذا هو المرحوم الأستاذ الدكتور صلاح أحمد الذي فجعت الأوساط العلمية في القطر بوفاته يوم الثلاثاء
7 / 7 / 1998 وهو يعالج في أحد مشافي باريس . والمرحوم الدكتور صلاح أحمد يعرفه القاصي والداني, لما حباه الله من علم وخلق وتواضع وأدب . إنه من الصعب التحدث عن كل جوانب شخصية هذا الأستاذ الكبير, أو حتى مجرد مقاربة كل تلك الجوانب . ومما لاشك فيه أن هذا الوطن أنجب وسينجب من أمثاله , لكنهم قلة . بل نحن أمام حالة نادرة لا تتكرر كل يوم . لذلك ولدواع أخلاقية وتربوية وأيضاً وطنية , يجب علينا تسليط الضوء على بعض جوانب شخصية هؤلاء العظام , ليكونوا نبراساً لأجيالنا الصاعدة في حثهم على سلوك الحياة الجادة البناءة والنزيهة . وفي الحقيقة فإنني لم أجد كلمة واحدة تسعفني في وصف المرحوم , وتعبر عن مكانته الرفيعة , سوى كلمة أستاذنا الفاضل الدكتور موفق دعبول ( وكيل جامعة دمشق ) عندما سارعنا يوم الأربعاء 8 / 7 / 1998 في الذهاب إلى منزل المرحوم في دمشق . حيث قال مخاطباً ابنه المهندس ياسر أحمد : “إن الدكتور صلاح كان صرحاَ كبيراً “. فهذه الكلمة خير تعبير عن واقع الحال . فقد كان – رحمه الله – صرحاً في الرياضيات , ضليعاً في العديد من فروعها , بل إنه رياضي متميز له مساهماته الخاصة . كما أن له العديد من الكتب والمؤلفات . وهو أحد رواد تحديث الرياضيات في جامعات القطر ومدارسه . كما أن هذا الأثر امتد ليشمل بعض الدول العربية عندما أعير المرحوم إلى الكويت في مطلع السبعينيات . وقد ساعده في ذلك متابعة تحصيله العلمي في فرنسا في الخمسينيات , حيث حصل على دكتوراه دولة في الرياضيات في مطلع الستينيات . وكان يحظى باحترام شريحة كبيرة من رياضيي فرنسا المرموقين . وقد اطلعت على بعض رسائل كبار الرياضيين الفرنسيين له . ومن هؤلاء الرياضي الفرنسي الكبير رينيه فريشيه . كما أنه لعب دوراً بارزاً في ترجمة بعض العلوم الرياضية الحديثة إلى العربية بعد أن تم ادخالها في المناهج الجامعية . وساعده في ذلك أنه كان ضليعاً في اللغة العربية .. وهذا ليس مستغرباً عليه فهو سليل أسرة عريقة في العلم والأدب . فوالده المرحوم العلامة الشيخ كامل الصالح , وخاله الشاعر الكبير بدوي الجبل , ووالدته الشاعرة فتاة غسان , وأخوه الشاعر المحامي محمد كامل الصالح .. وأتذكر دوماً عبارة الأستاذ الدكتور شاكر فحام ( رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق ) أمد الله في عمره – عندما التقيته في مكتبه في المجمع منذ عدة شهور , ودار الحديث حول مقال نشر في مجلة المجمع هو ” الرقم والعدد بين اللغة والرياضيات “. وقال لي الدكتور فحام بأنه كان يرغب في اطلاع الدكتور صلاح أحمد على المقال لأخذ رأيه فيه قبل نشره. وأضاف – بالعامية – : ” لأن الدكتور صلاح معمّم ومخوّل “, ولكن وضعه الصحي منعني من ذلك . لأن المرحوم كان مصاباً بالشلل منذ اثني عشر عاماً . وروى لي وقتها الدكتور فحام كيف أن وزير التعليم العالي الجزائري عندما زار القطر منذ عقدين ونيف , وطلب من المسؤولين أن يطلعوه على تجربة تعريب العلوم . وكانت رغبته في الوقوف على تعريب الرياضيات خاصة.. فتم اصطحابه لحضور محاضرة في التبولوجيا والتي كان يدرسها في حينها المرحوم الدكتور صلاح أحمد وقد حرص يومها – رحمه الله – على اعطاء المصطلح الأجنبي ثم العربي . وقد أعجب هذا الوزير أيما اعجاب باللغة العربية السليمة والدقيقة التي أعطيت بها المحاضرة . وقد ذكر لي المرحوم الدكتور صلاح أحمد فيما بعد بأن هذه المحاضرة قد ولدت صداقة شخصية مع ذلك الوزير. ومن الجدير بالذكر أن مرض المرحوم لم يمنعه من ممارسة نشاطه العلمي . فقد حد فقط من نشاطه الجسمي , وعلى العكس من نشاطه الذهني الذي بقي متوقدا . حتى أنه أشرف على العديد من رسائل الماجستير في الرياضيات ( بالمشاركة مع الأستاذ الدكتور بشير قابيل ) . وهو المشرف على أول رسالة دكتوراه في الرياضيات في جامعة دمشق . وقد تم ذلك بناء على طلب رئيس قسم الرياضيات في حينها عام 1993 الأستاذ الدكتور موفق دعبول حينما قال له في بيته : بأن قسم الرياضيات يتشرف بأن تكونوا المشرف الأول على أول رسالة دكتوراه في الرياضيات .. لأن في هذا مكسباً كبيراً للجامعة ولقسم الرياضيات ولصاحب الرسالة. وكان – رحمه الله- يضع بنفسه مخطط هذه الرسائل , لذلك كانت تتضمن مواضيع حيوية وحديثة , وذات أهمية خاصة في الرياضيات .
ويكفي للاشارة إلى المحبة والتقدير اللذين كان يتمتع بها المرحوم بين طلابه وزملائه , ان أحد هؤلاء ( وهو من المقربين والمخلصين له ) قد أدى مناسك العمره عنه في العام الماضي دون تكليف من أحد .
رحم الله الأستاذ الدكتور صلاح أحمد , وأسكنه فسيح جناته وأنزل الصبر على آله وذويه وأصدقائه ومحبيه . وإنا لله وإنا إليه راجعون .