د. محمود باكير
مما لاريب فيه أن الرياضيات أضحت تطول العديد من جوانب عالم “الشهادة”، بيد أن حالها خلاف ذلك تماماً بالنسبة إلى عالم “الغيب”، وستبقى كذلك وفق طبيعتها. غير أنه لاضير من استخدام الفكر الرياضي أداةً “لتبسيط” بعض الصفات الإلهية أو أكثر دقة لمحاولة مقاربتها أو فهمها، على الرغم من أن رب العالمين تنزَّه عن التمثيل بأي شيء سواء كان محسوساً أو مجرداً لأنه ليس كمثله شيء. فطبيعة عالم الغيب تفضي إلى انعدام الوسائل الكفيلة بالتعبير عنه، لذلك لامناص أثناء محاولة مقاربته، من البحث عن وسائل بديلة بين ظهرانينا. ونحن بذلك لن نتعرض “لطبيعة” الذات الإلهية التي يستحيل فهمها، بل سنحاول مقاربة فهم “فكرة” الخالق. خاصة ومن المعروف أنه قد أضحى : (ويرى عدد من الفلاسفة أن أيام تفسيراتنا القائمة على الفطرة والبديهة ……. قد انقضت )(1).
وقد ورد في القرآن الكريم : (وهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم)(الحديد : 3). يقول ابن كثير في تفسيره لمعنى هذه الآية: (وقد اختلفت عبارات المفسرين في هذه الآية وأقوالهم على نحو بضعة عشر قولاً)، وهذا الاختلاف ليس مستغرباً في تفسير هذه الآية الكريمة. كذلك يقول أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في كتابه (نهاية الاقدام في علم الكلام) (2): (……… فهو الأول والآخر إذ ليس وجوده سبحانه زمانياً، الظاهر والباطن إذ ليس وجوده مكانياً). في حين أن سيد قطب صاحب الظلال يقول: (الأول فليس قبله شيء والآخر فليس بعده شيء. والظاهر فليس فوقه شيء. والباطن فليس دونه شيء. الأول والآخر مستغرقاً كل حقيقة الزمان، والظاهر والباطن مستغرقاً كل حقيقة المكان).
إن الله هو الأول، لابداية له، موجود قبل الوجود، وهو الآخر، لانهاية له، وسيستمر بوجوده بعد زوال الوجود، وبذلك فقد تضمن الوجود. وهذا نابع من أن الذات الإلهية تخالف الأشياء المألوفة : (ولم يكن له كفواً أحد)(الإخلاص : 4)، كذلك (ليس كمثله شيء)(الشورى : 11). أي أن هناك عدة وجهات نظر لتفسير تلك الآية الكريمة (الحديد :3)، ولكن كلها تنطلق من المعنى اللغوي ، وتدور حول ماورد في الآية الكريمة ذاتها. أو بصياغة أخرى فقد قام المفسرون “بنثر” الآية – إن جاز التعبير- الآية وذلك بتحويلها من نصها القرآني إلى اللغة المستخدمة وذلك باستبدال كلمة مرادفة بكلمة، وهذا وفق ما نعتقد أنه ليس كافياً للتعبير عن معنى تلك الآية، فكيف روحها. وماسنقوم به في هذه الدراسة هو محاولة استخدام وسائل عقلية لمقاربة معناها بعيداً عن الوسائل اللغوية البيانية التي لاتقدم شيئاً جديداً في هذا السياق. أي أننا سننتقل من المستوى اللغوي إلى الفضاء الفكري. ولتوضيح أبعاد فضاء المعنى لهذه الآية الكريمة، سنلجأ إلى بعض المعارف الرياضية لمساعدتنا في ذلك.
مقدمة رياضية
(سنحاول أن نقدم معارف رياضية بسيطة وبعيدة عن الدقة العلمية المعهودة عنها الرياضيات، لأنه من المعروف أن البساطة والدقة لا يجتمعان، ولا بد من التضحية في إحداهما للحصول على الأخرى).
يقول الرياضي الألماني المعروف ليوبولد كرونيكر (L.Kronecker)(1823-1891) في اجتماع عقد في برلين، ضمن سياق حديث له عن الإنجازات البشرية في حقل الرياضيات : (إن الله قد أوجد الأعداد، وفيما عدا ذلك هو من صنع الإنسان).
إن أبسط مجموعة للأعداد هي مجموعة الأعداد الطبيعية }1،2،3،4،5،6،7،8،……..{ أو ما تسمى أحياناً مجموعة العد، ومن الواضح أنها “أوسع” أو “أكبر” من مجموعة الأعداد الزوجية }14،12،10،8،6،4،2،……..{، وذلك لأن المجموعة الأولى تحتوي على المجموعة الثانية كمجموعة جزئية تماماً منها (3). فهناك عناصر في المجموعة الأولى ليست في المجموعة الثانية، مثال ذلك : كل الأعداد الفردية 5،3،1……… ليست عناصر من المجموعة الثانية. والحدس والفطرة يقودان – ببساطة – إلى أن مجموعة الأعداد الزوجية،”تساوي” نصف مجموعة الأعداد الطبيعية بأكملها وذلك لأن مجموعة الأعداد الطبيعية تتألف من مجموعة الأعداد الزوجية ومجموعة الأعداد الفردية. بيد أننا إذا قمنا بمقابلة كل عدد طبيعي بضعفه (أي بمقابلة كل عدد من المجموعة الأولى بضعفه من المجموعة الثانية)، كما هو مبين في الشكل،
س = { 1، 2 ، 3 ، 4، 5، 6 ، 7 ، …،ن،……. } مجموعة الأعداد الطبيعية
↕ ↕ ↕ ↕ ↕ ↕ ↕ ↕
ع = { 2 ، 4 ، 6 ، 8 ، 10 ، 12 ، 14 ،…،2ن،….. } مجموعة الأعداد الزوجية
أي قابلنا العدد 1 من المجموعة الأولى بالعدد 2 من المجموعة الثانية، والعدد 2 من المجموعة الأولى بالعدد 4 من المجموعة الثانية، وهكذا ……. ومن ثم فإننا نجد أن هاتين المجموعتين “متساويتان” من الناحية العددية في نهاية المطاف، رغم عدم صحة هذا التعبير (أي التساوي بين المجموعتين) من منظور رياضي حديث. بمعنى أن هناك تقابلاً بين المجموعتين (كل عنصر من المجموعة الأولى يقابله عنصر واحد من المجموعة الثانية والعكس صحيح أيضاً). وهذا يناقض كون مجموعة الأعداد الطبيعية “ضعف” مجموعة الأعداد الزوجية (أو الثانية “نصف” الأولى) إن جاز التعبير رياضياً. كذلك من الممكن أن نتابع عملية المقابلة هذه، ومن أجل ذلك لنأخذ المجموعة ع الواردة آنفاً ولنقابلها بمجموعة أخرى ص على النحو التالي:
ع = {2، 4 ، 6 ، 8، 10، 12 ، 14 ، …،2ن،……. }
↕ ↕ ↕ ↕ ↕ ↕ ↕ ↕
ﺺ= {4 ، 8 ، 12 ، 16 ، 20 ، 24 ، 28 ،…،4ن،…..}
وذلك بمقابلة كل عدد من المجموعة ع بضعفه، فنحصل على المجموعة ﺺ. نلاحظ أن هاتين المجموعتين ع وص “متساويتان” أيضاً إن جاز التعبير رياضياً. كما يمكن الاستمرار في هذه العملية (أي مقابلة كل عدد من المجموعة التي نحصل عليها بضعفه فنحصل على مجموعة أخرى) عدداً غير منته من المرات، وفي كل مرة نحصل على مجموعة جديدة “تساوي” السابقة عددياً. وإذا توخينا الدقة واستخدمنا المصطلحات الرياضية، فإننا نقول إن هذه المجموعات متكافئة (كمياً)، أو إن لها القدرة (القوة) Power ذاتها وليست متساوية(4). وهذا يناقض “كون” المجموعة الأولى ” أوسع” من الثانية كون المجموعة الأولى تحوي المجموعة الثانية تماماً. أي هو يناقض الحقيقة القائلة بأن الكل (مجموعة الأعداد الطبيعية) أكبر من أي أحد أجزائه (مجموعة الأعداد الزوجية).
ومن المعروف أن الأعداد – ببساطة – منتهية أو غير منتهية. فأي عدد، ومهما بلغ من الكبر، فإنه عدد منته من وجهة النظر الرياضية. في حين أن مجموعة الأعداد الطبيعية (أي عدد الأعداد الطبيعية) غير منتهية، لأنه مهما توغلنا في هذه الأعداد فإن ثمة دوماً أعداداً أكبر. هذا ونسمي كل مجموعة يمكن الانتهاء من عدِّ عناصرها (ولونظرياً) مجموعة منتهية، وفي خلاف ذلك نقول عن المجموعة إنها غير منتهية. فمجموعة سكان الكرة الأرضية مجموعة منتهية، ومجموعة حبات الرمل في شاطئ ما مجموعة منتهية (عدد حبات الرمل المقدرة في فدان على شاطئ البحر هو: 2.000.000.000.000.000 حبة. في حين تكون مجموعة نقاط قطعة مستقيمة غير منتهية.
ومنذ القدم اهتم الفلاسفة والرياضيون بدراسة المجموعات غير المنتهية، وقد استوقفهم طويلاً سلوكها. وكان منشأ الصعوبات التي تعترضهم هو أنهم مابرحوا يحاولون تطبيق بعض خواص الأعداد المتناهية على عالم اللانهائيات. فلقد ألفنا الكثير من خواص الأعداد المتناهية، و أضحينا نسلم بصحتها لدرجة أننا كنا نخال أن هذه الخواص صالحة أينما توجهنا في عالم الأعداد. بيد أنه تبين فيما بعد أن أولى الخطوات، التي لابد منها قبل الشروع في فهم طبيعة المجموعات غير المتناهية، هي إدراك أن مايجري في عالم المتناهيات يختلف تماماً عما يجري في عالم اللامتناهيات. فمثلاً أي عدد منته يتغير عندما نضيف إليه العدد واحد، بل من المعروف أننا نحصل على العدد الذي يليه ضمن مجموعة الأعداد الطبيعية. في حين أن الأعداد غير المتناهية لاتتغير عندما نضيف إليها أو نطرح منها العدد واحد، أو حتى إذا أضفنا إليها أو طرحنا منها أي عدد منته آخر مهما بلغ كبر هذا العدد. كذلك لو “نصَّفنا”، إن جاز التعبير، المجموعة غير المنتهية – كما فعلنا آنفاً – فإن “العدد اللانهائي” الدال على عدد عناصــر كل منهمــا يبقى ذاتــه، وهذا يُعَبَّر عنــه رياضيــاً بأن لهمــا العــدد الأساسي cardinal number نفسه أو أن لهما القدرة ذاتها. بل والأكثر من ذلك فإن المجموعة تكون غير منتهية عندما نحذف منها عدداً لا نهائياً من المجموعات غير المنتهية وتبقى مع ذلك غير منتهية.
وأخيراً اعتمد الرياضي الألماني ديدكند (Dedekind)(1831-1916) على هذا في تعريفه للمجموعــة غير المتناهيـة، عندما نشر مقالاً عام 1872 حول ذلك(5). ومفهوم التعريـــف رياضيـــاً يعني انفراد هذه المجموعــة، دون غيرهــــا من المجموعـــات، بهذه الخاصــــة الفريــدة. كــذلك قــــــام المنطقي والفيلسوف الإنكليزي برتراند رسل (B.Russell) (1872-1970) في كتابــه “مقدمــة للفلسفـــــة الرياضيـــــة” (Introduction to Mathematical Philosophy) بتعريف العدد غير المنتهي بقوله : (إنه ذلك الذي لايتصف بجميع خواص الأعداد المتناهية. أي بصيغة أخرى هو ذلك العدد غير المنتهي) وكأن لسان حاله يقول: ليس كمثله شيء. وفي هذا اعتراف ضمني بعجز هؤلاء في معرفة ماهية المجموعات غير المنتهية بدقة. فلقد وصف ديدكند تلك المجموعات، ذات الطينة المختلفة، والتي كانت مصدراً للإرباك و عدم الفهم، بأنها غير المتناهية. وأما تعريف برتراند رسل فكان نفياً للمجموعات المتناهية. وهذا القصور في التعريف – إن جاز التعبير – ذاتي المنشأ، ولامناص لتفاديه. وبصياغة أخرى فإن مفهوم اللامنتهي وعلاقته بالمنتهي، يختلف تماماً عن بعض المصطلحات مثل “اللاوجود” و “اللاشعور” وعلاقتهما مع “الوجود” و “الشعور”. فهذه المفاهيم الأخيرة لاتحمل بذاتها أي دلالة منطقية – رياضية، وهي ليست أكثر من عملية نفي، دون تحديد ماهية عملية النفي هذه. وهي ربما ليست أكثر من عكس لفظي لكلمات محدودة. إن التمييز بين المتناهي واللامتناهي استغرق وقتاً طويلاً من الرياضيين. وما ورد من أفكار قديمة حول ذلك في الأدبيات الرياضية والفلسفية كانت مجرد بذور للتفكير الرياضي الحديث. لذلك يقول برتراند رسل في كتابه (أصول الرياضيات، المجلد 3، ص 159) في كلمة للفلاسفة: (فمعظمهم فيما يبدو يفترضون أن التمييز بين المتناهي واللامتناهي من المعاني الواضحة مباشرة، ويفكرون في الموضوع كما لو أنهم كانوا في غير حاجة إلى تعاريف دقيقة. ولكن الواقع يدل على أن التمييز بين المتناهي واللامتناهي ليس بأي شكل يسيراً، ولم يكشف عنه الستار إلا بواسطة الرياضيين المحدثين).
يقول رسل في كتابه (مقدمة للفلسفة الرياضية، ص86): (لا يمكن القول بصفة مؤكدة إنه يوجد في الواقع أي مجموعات لانهائية في العالم. الفرض بوجود مثل تلك المجموعات هو ما نسميه “بديهية اللانهائية”) (انظر ص144). ورسل يستخدم كلمة بديهية axiom بمعنى فرضية، وهذا المعنى المستخدم هو عين المفهوم الحديث لهذه الكلمة في الفكر الرياضي الحديث ولم يستخدم المعنى القديم لها والذي كان يعني أنها الحقيقة الواضحة أو أنها جزء من العقل.
وباختصار فإننا كي نستطيع فهم اللامتناهي علينا أن نتحرر أو نخرج من جاذبية المنتهي، لأن هذا الأخير له ما يمكن أن نطلق عليه “غلاف جوي” محيط به ونحن مشدودون إليه ولا نستطيع مغادرته بسهولة، بل وواقعون تحت تأثيره، ليس بفعل الإلفة فقط، بل بفعل أنه ليس من السهولة التفكير خارج إطاره. وربما لتحقيق هذا يتطلب قدراً من التفكير الصوري formal thinking. وهذا الأخير يتطلب مكابدة ذهنية حتى لمجرد ملامسته. (شرح ذلك اعتماداً على الشفاهية والكتابية.) ومن الجدير بالذكر أن اللامنتهي ليس شيئاً كبيراً كما قد يظن بعضهم، بل هو شيء غير ذلك تماماً، كما قد يذهب الظن إلى أن المجموعة غير المنتهية تحوي كل شيء. فقد ورد في “معجم المصطلحات العلمية للكندي والفارابي والخوارزمي وابن سينا والغزالي” صنفه د.فايز الداية (ص230): (النهاية: وهي غاية ما يصير الشيء ذو الكمية إلى حيث لا يوجد وراءه شيء منه. وما لا نهاية: هو كم ذو أجزاء كثيرة، بحيث لا يوجد شيء خارج عنه، وهو من نوعه، وبحيث ألا ينقضي). بيد أنّ هذا الكلام غير صحيح إطلاقاً. فمثلاً ليس من الضروري أن تحوي أي مجموعة غير منتهية من الأعداد الطبيعية العدد 13. فمثلاً، على سبيل الذكر لا الحصر، مجموعة مضاعفات العدد 2لا تحوي العدد 13. كذلك الحال مضاعفات العدد 3 أو مضاعفات العدد 4…….. كل هذه المجموعات لا تحوي العدد 13 باستثناء مجموعة مضاعفات العدد 13نفسه.
كذلك ليس من الضروري أن تكون المجموعة غير المنتهية “كبيرة”، بل من الممكن أن تكون صغيرة. فإذا كان لدينا مجموعة عبارة عن قطعة مستقيمة طولها واحدة الأطوال ( 1 سنتمتر مثلاً)، وقسمناها إلى جزئين، ثم تابعنا عملية القسمة تلك دون توقف فإننا نحصل على عدد غير منته من القطع المستقيمة. هذا وتستخدم المجموعات غير المنتهية في العديد من المجالات في الاختصاصات العلمية ومن ضمنها الهندسة. ويستخدمهـــا هؤلاء إلى حد ما برضــا وسرور لأنها فعالـة، ولكنهم يعدونهــا صندوقــاً أسوداً وفـق تعبير براين كليغ Brain Clegg. نستخدمها ولا نعرف شيئاً عنها كما هو الحال في استخدامنا للحاسوب.
هذا وإن الأعداد المنتهية مألوفة على الرغم من أنها تعد مفاهيم مجردة. واستيعاب هذه المفاهيم لايتطلب مكابدة ذهنية كبيرة، لأن العدد خمسة، مثلاً، هو ماتشترك به كل المجموعات المؤلفة من خمسة عناصر. وهذا التجريد للخماسي(6) يقود إلى تشكيل مفهوم العدد خمسة. ورغم أن هذا العدد بعينه غير موجود في عالم الحسيات، لأنه لايعدو أكثر من مفهوم مجرد، إلاَّ أن هناك نوعاً من الإلفة تولدت بيننا وبينه، وهي التي تنمّّي شعور عدم الاضطراب حينما نتحدث عنه. وقد آلت هذه الإلفة إلى صداقة شخصية عند بعض الرياضيين. فقد كان الرياضي الهندي رامانوجان (S.Ramanujan)(1887-1920) يردّد دوماً بأن كل عدد يبدو له وكأنه صديق شخصي. لذلك فلاضير إذا قلنا إن هذا النوع من الأعداد (المنتهية) ظاهرة للعيان. وعلى النقيض من ذلك فإنه من الصعب بمكان أن نستوعب بدقة مفهوم اللانهائي، أو أن نتصور مانعنيه بالضبط بالمجموعات غير المنتهية. لذلك قد نستطيع أن نقول إنها أعداد باطنة. يقول …… في كتابه “العدد” (ومن الجدير بالذكر أن للحيوانات إحساس فطري بالعدد، وهذا يعني أنهم يعرفون من الخبرة، دون تحليل وعلى نحو مباشر، الفرق بين عدد من الأشياء وعدد أصغر منه…. وقد بيّن البحث أن الحيوانات – الدجاج مثلاً – يمكن أن تدرّب للتمييز بين ما نسميه أعداد فردية وأعداد زوجية من قطع الطعام) (ص17 كتاب العدد). لذلك فإن الاهتمام باللامتناهي يدل على إنسانية الإنسان. وكلما ارتقى الإنسان فكرياً زاد اهتمامه بهذه المسائل، لأنه يشعر بحاجتها، خاصة إذا كان ينشد حياة فكرية خصبة.
ومن الجدير بالذكر أن “جلال” هذه المجموعات (غير المنتهية) يتأَتَّى من الدهشة الدائمة التي تخامر كل من تفكر فيها عن كثب. فهي تفيض بسحر ذهني يأسر الألباب. فثمة في الرياضيات ظواهر مدهشة أخرى، كشريط موبيس(Mobius Strip) وزجاجة كلاين (Klein bottle)(7) وغير ذلك، إلاَّ أن تلك الدهشة سرعان ماتزول بعد دراستها عن قرب، على خلاف ما هو قائم في المجموعات غير المنتهية.
لنحاول الآن فهم اللامنتهي من منظور “الجماليات السيكولوجية” (وهو نوع مستقل من فروع المعرفة النفسية)، ولفهم ذلك لابد من الوقوف عند مفهوم الجشطلتGestalt (وهي كلمة ألمانية ليس لها مقابل دقيق في اللغة الإنكليزية) وبعضهم يترجمها على أنها الشكل Form أو الهيئة Shape أو البنية Structure، وبعضهم يترجمها إلى العربية بـ “الصيغة الكلية”، والمصطلح يعني أن “الكل يختلف عن مجموع الأجزاء” أو”ليس مجرد تجميع للأجزاء “. (ويتمسك علماء الجشطلت في ضوء ذلك بأن الظواهر ……… صـ159، التفضيل الجمالي، والجشطلت الجيد Good Gestalt (صـ159+160)……
لذلك يجب أن ننظر إلى المجموعة غير المنتهية من منظور الجشطلت الجيد، وهي ليست مجرد مجموعة من الأعداد، أي ليست مجرد تجميع للأجزاء (الأعداد) المنتهية، بل إنها مختلفة تماماً عن مجموع الأجزاء. وهذا الإدراك يعتمد على الخبرة الداخلية للمتلفي، وذلك لأننا نتحدث عن الجمال المتعلق بالجانب العقلي أو المعرفي.
الخالق واللامنتهي
لابد من الإشارة في البدء إلى أن الغاية من هذه الدراسة هي التبسيط وليس التناظر، أو بالأحرى لتكون مدخلاً لتبسيط فكرة فهم الخالق بلغة رياضية يمكن استيعابها. أي للتأكيد على أننا لن نستطيع إطلاقاً فهم كنه الذات الإلهية، كما هو الحال في أشياء أخرى يصعب فهمها منها اللامتناهي. أي أن هذا ليس تقابلاً بين الذات الإلهية والأعداد غير المتناهية، أي أن اللاتناهي ليس تعبيراً عن الله، بل هو طريقة مقاربة لفهم أن الله مختلف عنا تماماً. وذلك لأن الخالق قد تنَّزه عن التمثيل، (سبحان الله عما يصفون). ولكن فهم “فكرة” الخالق عصية على الفهم البشري، لأسباب ذاتية نابعة من قصور العقل البشري وعجزه في بعض الأحايين، إضافة إلى الأسباب الموضوعية النابعة من طبيعة الفكرة ذاتها، فهي غير معهودة في حياتنا اليومية. والإنسان يحاول دائماً أن يقارن الشيء الذي ينشد معرفته بنموذج حسي معروف لديه. يقول أبو منصور الماتريدي في كتابه “التوحيد” : (والأصل في حرف التوحيد أن ابتداءه تشبيه وانتهاءه توحيد. دفعت إلى ذلك الضرورة، إذ بالمدرك المفهوم يستدرك ما قصرت الافهام عن ادراك ماعن الأوهام… وكذا وصف الله تعالى بالمدرك من خلقه للدلالة والعبارة فقيل عالم وقادر ونحو ذلك. إذ في الإمساك عن ذلك تعطيل وفي تحقيق المعنى الموجود في خلقه تشبيه) (زركان و فخر الدين الرازي، ص 219).
وكنا قد عرَّفنا العدد غير المنتهي بأنه نفي للمنتهي، كذلك فإن الخالق هو ماليس من المخلوقات أي أننا نعرف ما ليس الله. كما أننا لاندرك الأعداد غير المنتهية كما ندرك الأعداد المنتهية، كذلك فإننا لانستطيع إدراك الخالق على نحو إدراكنا للمخلوقات.
ولتوضيح الصورة أكثر لنتوقف قليلاً عند قول برتراند رسل (ص229، مجلد 3، أصول الرياضيات) عن تعريف اللامتناهي من أنه: (ذلك الذي لا يمكن بلوغه بالاستنباط الرياضي بادئين من 1، ……..). كذلك الذات الإلهية هي “ذلك” الذي لا يمكن بلوغه إذا تصورنا أنه يمكن العودة إلى الوراء في عملية الخلق والبدء منها. وإن الأعداد اللامتناهية لا يمكن التعبير عنها كالأعداد المتناهية بطريقة النظام العشري (وهو نظام العد المستخدم في حياتنا العادية لأن هناك أنظمة أخرى للعد). كذلك الخالق لا يمكن التعبير عنه باللغة المستخدمة في التعبير عن المخلوقات. واللامتناهي ليس شيئاً كبيراً كما قد يظن بعضهم، بل هو شيء غير ذلك تماماً. وربما الشيء الوحيد الذي نعرفه هو أننا لا نعرف ما هو الله.
ومن الأخطاء التي يقع فيها بعضهم النظر إلى الذات الإلهية بالمنظار البشري، كما كان يُنظر إلى المجموعات غير المنتهية بالمنظار المنتهي. والخالق ليس له نظير في عالم المحسوسات، كذلك المجموعات غير المنتهية. وصفات الخالق ليست وجودية، وهذا هو الشيء بعينه في المجموعات غير المنتهية. والخالق انفرد بصفاته وتصرفاته وأفعاله وبطبيعة قدرته، كذلك المجموعات غير المنتهية بالعديد من الصفات دون غيرها. يقول عباس محمود العقاد في كتابه (حقائق الإسلام وأباطيل خصومه) : (العقيدة في الإله رأس العقائد الدينية بجملتها وتفصيلها). كذلك فإن المجموعات غير المنتهية تدخل في أساسيات العلوم الرياضية، التي لايمكن الاستغناء عنها رغم أننا نعيش في عالم منته. وقد حاول بعضهم تجنب استخدام مفهوم اللامنتهي، إلاَّ أن الرياضيات التي تولدت عن ذلك كانت غير مجدية وذات نطاق ضيق. وإن عدم إحاطتنا بالمجموعات غير المنتهية لاتقتضي بالضرورة إلى عدم التسليم بوجودها. وهذا مايؤكده كتاب (العلم في منظوره الجديد)(8) : (وهكذا ففي النظرة الجديدة نجد أن أصل الكون وبنيته وجماله تفضي جميعاً إلى النتيجة نفسها، وهي أن الله موجود). ولو أخذنا معنى الآية الكريمة التي نحن بصددها: (وهو الأول والآخر والظاهر والباطن) على نحو حرفي وساذج ومباشر فسنجد أنها تنطوي على تناقض لما تضمَّنته من أضداد. كذلك الأمر بالنسبة للمجموعات غير المنتهية إذا حاولنا فهمها بعقلية بدائية بسيطة سنجد أنها حافلة بالمتناقضات. كما أن الأول والآخر في الآية الكريمة تفيدان ترتيب الوجود، وحصر الموجودات. كذلك الأعداد غير المنتهية إذا إنطلقنا من الصفر في أحــــد الاتجاهين المتعاكسيـن، نحو الأعداد الموجبة}1،2،3،4،……..{ أو نحو الأعداد السالبة }-1،-2،-3،-4،……..{. وقد يكون معنى الباطن يوحي بالعدد اللانهائي لأن العدد الطبيعي (المنتهي)، عدد نشعر به لذلك فهو ظاهر، في حين أن اللامنتهي لانشعر به ولانعرفه، لذلك فهو عدد باطن. ولو كان المقصود هنا بالباطن أنه غير مرئي بالمعنى الحرفي للكلمة، لكان معنى الظاهر هو : المرئي. ولكن الله تعالى غير ذلك لأننا لانشاهده. والدراسات الحديثة بدأت تشير إلى أن الاهتمام باللامتناهي له دوافع عديدة منها: نفسية، وفلسفية، ودينية. ووفق موسوعة الفلسفة العربية (الصادرة عن معهد الإنماء العربي – بيروت) في مادة (تناه – لا تناه) نجد أنه، (من الملاحظ أن التجريبيين يميلون إلى مفهوم النهائي، في حين يميل العقليون إلى مفهوم اللانهائي. وفي ميدان نظريات السياسة نجد أن أصحاب الميل إلى المفهوم النهائي يميلون إلى النظريات الاستبدادية وأشباهها، وأصحاب الميل إلى المفهوم اللانهائي يفضلون النظريات ذات الطابع الديمقراطي).
يقول براين كليغ في كتابه “A Brief History of Infinity” : (على الرغم من أنه لا يوجد علم أكثر تجريداً من الرياضيات، ولكن عندما تأتي إلى اللانهاية فقد تبين أنه من الصعب إبقاء الاعتبارات الروحية خارج المعادلة). ويبدو أن الاهتمام باللاتناهي هو من حب معرفة الذات الإلهية، لأن هذه المعرفة تعمق الحب. يقول إريك فروم Er (1900 – 1980) في كتابه “The Art of Loving” (فمن لا يعرف شيئاً لا يحب أحداً……. ومن يفهم فإنه يحب ويلاحظ ويرى…… وكلما ازدادت المعرفة بشيء عظم الحب). ويكفي الإشارة إلى أن النظرية الرياضية للانهاية تكاد تبدأ بالرياضي جورج كانتور ( ) الذي كان مهتماً بعلم اللاهوت وفي المفهوم اللاهوتي للأبدية منذ صغره. ومن ثم فإننا لا نستطيع فصل الدوافع الدينية عن الدوافع الرياضية في مسألة الاهتمام باللامتناهي، وخاصة إذا عرفنا أن معظم الرياضيين تاريخياً كانوا فلاسفة أو من المهتمين في الفلسفة.
وقديماً قال أفلاطون: (إن الزمان ليس محاكاة للأبد، لأنه مخلوق والأبد غير مخلوق). فإذا أسقطنا هذا القول على المستوى العددي، حيث الزمن عدد منته، والأبد لانهائي، فإننا نجد بالتناظر أن الأعداد المنتهية ليست محاكاة للأعداد غير المنتهية. لأن الأعداد المنتهية مخلوقة، وفق مايقوله الرياضي كرونيكر، والأعداد غير المنتهية مستمرة بوجودها وهي تحاكي الأبدية. وقد ورد في شرح (أبدي وأبدية) في دائرة المعارف الكتابية – دار الثقافة (القاهرة) : (أن الحياة الأبدية في العقيدة المسيحية ليست مجرد استمرار الحياة إلى مالانهاية، ولكنها تعني أيضاً نوعية الحياة. إنها تعني أن المؤمن صار له نصيب في حياة الله إلى الأبد، فإنها لو كانت تعني مجرد الاستمرار لكانت ثقلاً لايحتمل، ولكنها تصبح عظيمة القدر عندما تعني “حياة الله”، وهذا هو معنى “الحياة الأبدية” وبالتالي فهي لانهاية لها أيضاً). وكتب ستيفن تشارنوك Charnok Steven في كتابهExistence and Attribute Of God” ” فيما يتعلق بأبدية الله : (إن الزمن في تتابع مستمر ….. ويجب أن يكون مفهومنا عن الأبدية مختلفاً عن مفهومنا للزمان، حيث أن طبيعة الزمن تتكون من أجزاء متتابعة، وطبيعة الأبدية هي استمرار غير محدود وغير متغير. لقد بدأ الزمن بتأسيس العالم، ولكن الله قبل الزمن، لم تكن له بداية في الزمن. قبل بداية الخليقة وبداية الزمن كان هناك الأزل….. فكما أن الخالق يختلف عن المخلوقات ، فإن الأبدية تختلف عن الزمن). ويبدو أن مفهوم الله غير محدود بالزمن أصعب من مفهوم أنه غير محدود بحيّز.
سرمدية الذات الإلهية
ومما يعزّز وجهة النظر هذه أننا إذا حاولنا أن نجد لِمَلَك الموت ترجمة أو نظيراً في الإطار الرياضي، فإن الصفر (بالنسبة لعملية الضرب العادية) أدق وأصح ترجمة له. لأن عمر أي إنسان، ودونما استثناء، عدد منته، وملك الموت ينهي (يعدم) حياة جميع بني البشر. كذلك فإن ناتج ضرب الصفر بأي عدد منته سيكون صفراً (معدوماً). في حين أن الذات الإلهية سرمدية (غير منتهية)، ولادور لملك الموت في هذا الإطار، وحاصل ضرب الصفر بأي عدد غير منته يفضي إلى إحدى حالات عدم التعيين، أو بصيغة أخرى ليس له معنى أو غير معرّف. وأية محاولة لإعطاء ذلك معنى رياضياً ستولد ميِّتة لما ستفرزه من أخطاء منطقية، وتناقضات عدة على الصعيد الرياضي برمته. وقد يكون هذا مقاربة لفهم سر أبدية الذات الإلهية. (كل شيء هالك إلاَّ وجهه)(القصص : 88).
وفي الختام لا بد من الإشارة إلى أن هذا لايعد برهاناً رياضياً على وجود الخالق، لأن الرياضيات وكل العلوم الأخرى قاصرة تماماً عن القيام بهذه المهمة. لذلك يقول الفيلسوف كارل ياسبرز (1883-1969) في كتابه (الإيمان الفلسفي) : (إن إلهاً أقيم عليه برهان قاطع ليس الله). هذا ومن المعروف أن هناك تنزيهاً فلسفياً للذات الإلهية عند أرسطو وأفلاطون وغيرهم من الفلاسفة، وقد نستطيع أن نسمي محاولتنا هذه “التنزيه الرياضي” للذات الإلهية، إن جاز التعبير. وصفوة الكلام هو ماجاء في السنة النبوية : (تفكروا في خلق الله ولاتفكروا في الله فإنكم لن تقدروا قدره).
الحواشي :
- (مستقبل الفلسفة في القرن الواحد والعشرين، تحرير: أوليفر ليمان، ترجمة: مصطفى محمود محمد، عالم المعرفة (الكويت)، 2004).
- 2) (ص112، حرره وصححه المستشرق الإنكليزي الفرد جيوم عام 1934).
- نقول عن مجموعة إنها تحوي تماماً مجموعة ع ، أو إن ع محتواة تماماً في س إذا كان كل عنصر من ع ينتمي إلى س، غير أن هناك عناصراً من س لاتنتمي بالضرورة إلى ع.
- نقول عن مجموعتين إنهما متكافئتان (كمياً) إذا وجد تقابل (واحد إلى واحد) بين عناصرهما. والتقابل يعني – ببساطة – قاعدة للربط بين المجموعتين، بحيث إن كل عنصر من المجموعة الأولى يقابله عنصر واحد فقط من الثانية، والعكس صحيح.
- التعريف : نقول عن نظام إنه غير منته إذا كان يكافىء كمياً جزءاً فعلياً من نفسه، وفي خلاف ذلك نقول إنه منته. ويصاغ هذا التعريف حالياً بلغة نظرية المجموعات : المجموعة غير المنتهية هي التي يوجد تقابل (واحد إلى واحد) بينها وبين مجموعة جزئية تماماً منها.
- الخماسي : المنسوب إلى الخمسة. كذلك هو مارُكِّب من خمسة.
- شريط موبيس عبارة عن سطح أحادي الوجه، ليس له وجه أو خلف (قفا)، وزجاجة كلاين عبارة عن سطح مغلق ليس له داخل أو خارج.
تأليف : روبرت م. أغروس وجورج ن.ستانسيو، ترجمة كمال خلايلي، سلسلة عالم المعرفة الكويتية، العدد 134.