د. محمود باكير
(نشر هذا المقال كافتتاحية لمجلة جامعة القلمون)
إن عمليتي التعليم والتعلّم معروفتان لكل من عمل في مجال التربية على اختلاف مراحلها. وقد اكتسبت عملية التعليم, على نحوٍ خاص, ومن يقوم بها, مكانة متميزة عبر التاريخ. وما أفضى إلى هذه المكانة أن المتعلمين كانوا قلة في العصور السالفة, إضافة إلى افتقار الوسائل التعليمية الأخرى, وقلة الكتب, أو ربما انعدامها, وندرة وسائل الكتابة. لذلك كان المعلّم أساسياً جداً, بل ومحورياً في هذه العملية, وكان كل شيء يدور حوله. ومع تطور العلم وصولاً إلى يومنا هذا, أضحى اهتمام المؤسسات التعليمية في الدول المتقدمة في الفترة الأخيرة منصباً على التعلّم في المقام الأول. وهذا أدّى إلى تغيير في طبيعة وظيفة المعلّم, وليس إلغاءً أو إضعافاً لدوره الذي كان ومازال ضرورياً.
فقد غدا من أحد أهم مهامه تعليم الطالب كيف يعلّم نفسه. فقد كانت الأدوار سابقاً موزعة بين فاعل (المعلّم) يعطي كل شيء, ومنفعل (الطالب) يتلقى كل شيء. وأما الآن فقد تغير الحال حيث بقي المعلّم فاعلاً, ولكن “طبيعة” فعله تغيرت, والطالب أصبح فاعلاً أيضاً و”طبيعة” فعله تغيرت. ويعزى ذلك, ببساطة, إلى أن العلم كان محدوداً جداً, ومن الممكن أن يتقن المعلّم جزءاً كبيراً منه. أما الآن, ومع تطور العلم, وتوسعه أفقياً وشاقولياً, فلم يعد ذلك ممكناً. وأصبح ما يعطيه المعلّم (من خلال التعليم) النذر القليل, وعلى الطالب أن يكمل طريقه المعرفي بنفسه (من خلال التعلّم). والأهم من ذلك أن أصبح إيقاع التطور العلمي سريعاً جداً, على خلاف ما كان سائداً قبل عصرنا هذا. لذلك وجب على الطالب إتقان عملية التعلم كي يستطيع مواكبة هذا التطور. ومن غير المعقول أن يعود الدارس كل عقد من الزمن- إن لم يكن أقل من ذلك- إلى مقاعد الدراسة كي يحدّث معارفه من خلال التعليم. لهذا أضحى ضرورياً الآن التعلم مدى الحياة Life-long Learning, وليس التعليم مدى الحياة. وهذا التوزيع الجديد ليس صيحة جديدة في عالَم التربية سرعان ما تتلاشى مع بزوغ صيحة جديدة, بل أصبح ضرورة فرضتها طبيعة العلم الحديث. هذا ومن الجدير بالذكر أن اكتساب القدرة على التعلّم عند الطالب يجب الشروع بها باكراً ومنذ بدء رحلته مع التعليم, ومع بلوغ المرحلة الجامعية تبرز وتتبلور على نحو واضح. ولهذا يجب علينا لزاماً أن نعيد النظر فيما نعلّم وكيف نعلّم, وانتقاء الوسائل الكفيلة لبناء تلك القدرة, إن لم يكن بعضنا قد قام بذلك مسبقاً.