د. محمود باكير
(نشر هذا المقال كافتتاحية لمجلة جامعة القلمون العدد 31 – 2011/2012)
يميز ابن خلدون في مقدمته العلوم العقلية عن العلوم النقلية, ويرى أن العلوم العقلية تتضمن العلم الطبيعي, وعلم المنطق, والعلم الإلهي, وعلم التعاليم (الرياضيات بلغة ذلك العصر). وأن العلوم النقلية تشمل العلوم الأخرى, مثل علم الحديث, وعلم الفرائض, وعلم التفسير, وعلوم اللغة, وغير ذلك. ولكن الذي ساد في مجتمعنا العربي, منذ عدة قرون إلى يومنا هذا, أن أصبحت معظم علومنا ذات طبيعة نقلية, بمعنى أن “ذهنية النقل” أصبحت قوام العملية التعليمية برمتها, وضعف نتيجةً لذلك دور العقل في مسيرتنا العلمية.
وهذا أفضى إلى أحد أشكال الركود العقلي, والذي يعد أشد خطراً, وأكثر ضرراً, على الأمة من الركود الاقتصادي, هذا عدا عن العقم الفكري المصاحب لذلك. لهذا انطبع تعليمنا في المجتمعات العربية منذ أمدٍ بعيد بتلقين الطالب وحشوه بالمعلومات, والاعتماد على الذاكرة, دون سواها, من خلال الحفظ الاستنساخي. لذلك أصبح هَمُّ الطالب منصباً على الحفظ بعيداً عن الفهم والإدراك والتساؤل والبحث, فاقداً بذلك أي تفاعل إيجابي يمنحه فسحةً للتفكير وانتاج المعرفة, وبهذا يُحرَم من النشوة العقلية المرافقة عادة لعملية الفهم. لذلك يكثر في مدارسنا استخدام عبارة “التسميع”, وهو الاستظهار الأعمى بعيداً عن أي إدراك لمعنى الموضوعات التي يرددها الطالب. هذا ومن المفيد الإشارة إلى أن التذكر يعد أبسط العمليات العقلية من وجهة نظر تصنيف بلوم Bloom’s Taxonomy. ومن المعروف أن الإغريق القدماء كانوا يفصلون بين التعليم والتدريب, وأن التعليم للأحرار, والتدريب للعبيد. ويبدو أنهم كانوا ينظرون للعلم على أنه فسحة من التفكير وحرية عقلية يعيشها الإنسان المتعلم, في حين أن التدريب محدود, ويقتصر على إجراءات روتينية معينة, ولا مساحة للحرية العقلية فيه. وهذا هو شأن النقل الذي لا حرية فيه, ويصلح مقدمةً للاستعباد, في حين أن إعمال العقل مساحته لا حدود لها. وهذا ما وعته جامعة القلمون منذ نشأتها وتعمل جاهدةً على أن تكون رائدة في محاربة الطريقة التقليدية في التعليم. وفي الختام, يكفي النقل عيباً القول المأثور: “العلم المستقر جهل مستقر”, فكيف إذا اقتصر العلم على النقل.