“الإدراك” معضلة إنسانية… ما هو الحل المتاح؟

د. محمود باكير

(نشر هذا المقال في مجلة الدوحة-قطر , العدد 123, يناير 2018 ,

الصفحات 79-80) 

       ثمة قول معروف “إن الأشياء توجد حالما تُدرك”, ولكن المشكلة الأهم, الأكثر حيوية, تكمن في: كيف يتحقق ذلك؟ أي في طريقة الإدراك. أو أكثر دقة, في إدراك “طبيعة” الإدراك العقلي عند الإنسان. أي باختصار, في إدراك الإدراك. وهذه المسألة من المسائل الفريدة التي تخدم نفسها بنفسها. لذلك ليس من السهولة على الإنسان أن يعرف إن كان نفسه يدرك, أو لا يدرك.

لذلك ينصح عديد من الباحثين بأنه يجب أن لا يكون العقل شديد الثقة بقواه الخاصة. ومن هؤلاء فيلسوف العلم الفرنسي رولان أومنيس Roland Omnes حينما يقول في كتابه “فلسفة الكوانتم”: “حين يكون العقل شديد الثقة بقواه الخاصة, قد يخدع نفسه ويقع في الخطأ. ويصل إلى الفكرة الصائبة فقط عن طريق ضربة حظ”. وشدة الثقة هذه تولّد نوعاً من القناعات الراسخة عند بعضهم. وتكمن خطورتها في أن شدة الاقتناع بأمر ما لا تشي بصحته. لذلك يقول عالم البيولوجيا البريطاني بيتر ميداور P.B. Medawar (الحاصل على جائزة نوبل في الفيزيولوجيا 1960), في كتابه: “نصيحة إلى كل عالم شاب”: “إن شدة الاقتناع بصحة فرضية ما ليس له علاقة فيما إذا كانت هذه الفرضية صحيحة أم خاطئة”. أي أن مسألة “الإدراك” عند الإنسان على درجة كبيرة من الحساسية, و التعقيد, كيفما قاربناها, وليس من السهولة وضع روائز واضحة لها. وخاصة أنها أضحت على قدر كبير من الأهمية في حياتنا المعاصرة نتيجة الضخ الإعلامي الكبير, وطغيان كم هائل من البيانات والمعلومات التي تزاحم بعضها بعضا. وما يبرز أهميتها هو أن “تعلّم أشياء كثيرة لا يعلّم الفهم”, وفق ما يقول هرقليطس. لذلك فالحكمة تكمن في التركيز على ماهية “الإدراك” بدلاً من البحث عن مزيد من المعلومات.

     وواحدة من أهم الحوادث, وأكثرها إيلاماً, التي يمكن تناولها من كتب التراث, حول مسألة الإدراك, وإن كانت توردها تلك الكتب في سياق مختلف تماماً, ليس له علاقة بالإدراك, هي محنة الإمام مالك بن أنس صاحب المذهب المالكي (93 – 179ه /711 – 795 م) في عهد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عندما أفتى بحكم الإكراه على الطلاق. فقد أفتى مالك بعدم جواز طلاق المرأة التي يحلف عليها زوجها كرهاً, وخارج إرادته. وقال الحافظ يوسف بن عبد البر(368– 463 هجري) في كتابه “الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء…” من أنه: “ذكر أحمد بن حنبل أن مالكاً لا يجيز طلاق المكره, فضُرب في ذلك”. والحجة أن المُكره ليس له إرادة, والإرادة أساس التكليف. والفتوى, من وجهة نظر المنصور, قدحاً للعباسيين, لأنهم يأخذون البيعة بالإكراه, وهذا غير جائز شرعاً. و تذكر عديد من المصادر بأن أبو جعفر المنصور جلده, ومنعه من الإفتاء, ونهاه عن التحدث بعدم طلاق المكره. ويبدو أن السبب في ذلك أن المنصور “أدرك”, بطريقته الخاصة, “العلاقة” التي تربط بين السياقين, على الرغم من اختلاف طبيعتيهما. فقد خاف أن يقيس الناس عليها بيعة الخليفة, ومن ثم إبطال هذه البيعة. وفي الحالتين ثمة “بنية” جنينية, من نوع خاص, تنضح بأن ما يُؤخذ خارج إرادة الإنسان, في أي سياق, لا يعد جائزاً شرعاً. فالمهم طبيعة “العلاقة” بغض النظر عن  السياق. وبعضهم يظن بأن الإمام مالك وري (قام بتورية) فتواه, بيد أن التفكير “البنيوي” عند أبي جعفر المنصور فوّت ذلك. ونحن لا نتحدث عن صحة أو خطأ مقاربة المنصور, لأن هذا يتطلب دراسة خاصة عن ذلك, وهي ليست من اهتمامنا, ولكن ما نهدف إليه هو استعراض طريقة “للإدراك” عند بعض الخاصة من الناس. وهذه الطريقة ليست واسعة الانتشار لأسباب عديدة, أهمها عدم امتلاك كثير من الناس القدرة على التفكير المجرّد بعيداً عن السياق الذي ورد فيه الكلام. أي لعدم قدرتهم على انتزاع “المفاهيم” التي ينطوي عليها السياق المعني, والتعامل معها ككائنات مستقلة؛ أو ما يمكن أن نسميه “صَورَنة” (نسبة إلى الصوري) التفكير. وهذا هو بؤرة اهتمامنا بغية الوصول إلى الحل المتاح.

     ويورد ابن أبي أصيبعة في كتابه “عيون الأنباء في معرفة طبقات الأطباء” (أشهر كتب التراث في هذا المجال) قصة طريفة عن بائع شيح (نوع من النبات يستخدم للوقود) من بلاد الشام أصبح طبيباً حاذقاً في القرن الخامس الهجري. وهو جرجس يوحنا أبوالفرج اليبرودي (وفاته 427هجري) من أنه: “كان بدمشق فاصد يقال له أبو الخير، ولم يكن من المهرة، فكان من أمره أن فصد شاباً فوقعت الفصدة في الشريان فتحير وتبلد، وطلب قطع الدم فلم يقدر على ذلك، فاجتمع الناس عليه، وفي أثناء ذلك اطلع صبي عليه فقال يا عماه افصده في اليد الأخرى، فاستراح إلى كلامه وفصده من يده الأخرى فقال شد الفصد الأول، فشده ووضع لازوقاً كان عنده عليه، وشده فوقف جرية الدم، ثم مسك الفصدة الأخرى فوقف الدم وانقطع الجميع، ووجد الصبي يسوق دابة عليها حمل شيح فتشبث به وقال من أين لك ما أمرتني به؟ قال أنا أرى أبي في وقت سقي الكرم، إذا انفتح شق من النهر، وخرج الماء منه بحدة لا يقدر على إمساكه دون أن يفتح فتحاً آخر، ينقص به الماء الأول الواصل إلى ذلك الشق، ثم يسده بعد ذلك، قال فمنعه الجرائحي من بيع الشيح واقتطعه، وعلمه الطب فكان منه اليبرودي من مشاهير الأطباء الفضلاء”. و السؤال: ما هي الميّزة العقلية التي اتسم بها هذا الفلاح البسيط اليبرودي (نسبة إلى يبرود من ريف دمشق) كي يستطيع إنقاذ حياة إنسان, وهو ليس طبيباً؟ أي كيف استطاع أن “يُدرك” الحل بهذه السرعة؟ وهذا ما جعله, فيما بعد, من أشهر أطباء دمشق في عصره. فقد امتلك نوعاً خاصاً من التفكير ساعده على إدراك طبيعة المشكلة, ومن ثم إيجاد الحل الإسعافي للمصاب. فقد ربط الحالتين ببعضهما صورياً, من خلال أن لهما “بنية” جنينية ذاتها. أي أن تفكيره كان مفاهيمياً, لأنه يتبع المفاهيم بعيداً عن السياق.

     ووفق (موسوعة الفلسفة العربية) نجد في مادة (تناه – لا تناه)  أنه :”وهكذا نلاحظ بصفة عامة أن التجريبيين يميلون إلى مفهوم النهائي، بينما يميل العقليون إلى مفهوم اللانهائي…وفي ميدان نظريات السياسة  قد نجد أن أصحاب الميل إلى المفهوم النهائي يميلون إلى النظريات الاستبدادية وأشباهها، وأصحاب الميل إلى المفهوم اللانهائي يفضلون النظريات ذات الطابع الديمقراطي”. وللوقوف على أسباب ذلك, و”إدراك” كنه العلاقة بين أمرين يبدوان مختلفين, نشير إلى أن سبب هذا هو أن التجريبيين يبحثون عن نتائج ملموسة للتحقق منها؛ و المنتهي, رياضياً, شيء “ملموس” ذهنياً, بمعنى أنه يمكن الوصول إليه, ولو نظرياً, لذلك ينزعون إليه. فكلاهما ينطوي على “البنية” ذاتها. أي أن “العلاقة” التي تحكم هذين السياقين ذاتها. في حين نجد أن العقليين يبحثون عن كل ما هو مثالي؛ وهذا لا يمكن بلوغه, لأنه لا يوجد شيء إلاّ وهناك شيء آخر أفضل منه. وهذا عين الفكرة الكامنة وراء اللامنتهي في الرياضيات, وهي أنه لا يوجد عدد إلاّ وثمة عدد آخر أكبر منه. والربط بين النظريات الاستبدادية والمنتهي, أو الربط بين النظريات ذات الطابع الديمقراطي واللامنتهي, يشير إلى أن كل منهما يحكمه “البنية” ذاتها. أو بصورة مكافئة, “العلاقة” ذاتها. وغير ذلك كثير من الأمثلة المفارقة لبعضها. فالمسألة برمتها تتعلق بالإدراك وطرقه.

     والسؤال: كيف استطاع بعضنا الربط بين ظاهرتين مختلفتين في الطبيعة, ومن سياقين مختلفين تماماً, ولا يبدو أن ثمة أي علاقة ظاهرة بينهما, وخاصة تحت وطأة كم هائل من التفاصيل المتعلقة في كل سياق, والتي تستحوذ على الاهتمام فتصرف الأنظار عن جوهر الظاهرة.

     وهذا النوع من الإدراك عند بعض الناس مؤشر على القدرة على التفكير المجرد, وهو نوع من “التفكير البنيوي” بالمعنى الاصطلاحي للكلمة. ونعني بذلك, ببساطة, أنه عندما يفكر الإنسان “بفكرة” الموضوع الذي نحن بصدده فيخطر في باله موضوع آخر يشاطره الفكرة (البنية) ذاتها. وبدون أن يشعر يجرّد فكرة الموضوع من سياقه, وهذا يقوده إلى الفكرة نفسها في سياق آخر مختلف. أي أن كلا السياقين تحكمهما “العلاقة” ذاتها.

     و ضعف الإدراك ينطوي على التباس معرفي عند الإنسان؛ لأن الإدراك هو “القدرة” على رؤية ما تكون عليه الأشياء. وكثيراً ما يستبطن هذا الضعف خلطاً بين أمور مفارقة لبعضها. ومن أكثر الأمور التباساً, بين العامة أو الخاصة من الناس, على سبيل الذكر لا الحصر,هو الخلط بين القرآن والمصحف؛ وبين الرقم والعدد؛ وبين اللفظ ومدلوله, وغير ذلك كثير.

أهم معوقات الإدراك

     ومن أكثر ما يفاقم مشكلة الإدراك عند الإنسان “المنظومة اللغوية” التي يستعملها, بغض النظر عن ماهية هذه المنظومة. لأن المشكلة عندها نابعة من تأثير اللغة الكبير في تفكيرنا, إذا سلّمنا بصحة ما يسمى “فرضية الحتمية اللغوية”  Linguistic Determinism, التي أشار إليها الفيلسوف الألماني ولهالم همبولدت W. von Humboldt  (1767-1835) في القرن التاسع عشر الميلادي, والتي أعيد طرحها من جديد في النصف الأول من القرن العشرين, من قبل عالم اللغات والأنثروبولوجي (عالم الإناسة) الأمريكي (الألماني الأصل) إدوار سابير E. Sapir  (1884-1939 ) من: “إن الناس تُبع في تفكيرهم و إحساسهم و مشاعرهم و نظرتهم إلى الكون, للعادات التي اكتسبوها من خلال ممارستهم للغة قومهم”. وعلى الرغم من معارضة بعض اللغويين لهذه الفرضية, بيد أن  ثمة إقراراً عاماً عند هؤلاء يفيد بأن اللغة تلعب, أحياناً, دوراً في صوغ الفكر. ولا غرابة في قول بعضهم: “إن اللغة تصنعنا أكثر مما نصنعها”. لهذا يكون, أحياناً, تفكير بعضنا ضحية لذلك. وربما هذا ما دفع فلاسفة العقل, ومنهم جون ر. سيرل في كتابه “العقل- مدخل موجز”, عندما يتحدثون عن الإدراك, إلى القول إن: “اللغة المشتركة تفترض عالماً مشتركاً”. لهذا كي يصل المعنى المقصود من الجملة اللغوية لا بد من توفر عوالم مشتركة, بين القائل والمتلقي. وهذا, كما يبدو, هو مصدر سوء التفاهم الذي يشيع بين الناس دون أن يشعروا به. فضلاً عن ذلك فإن اللغوي السويسري فرديناند دو سوسور Ferdinand de Saussure  (1857 – 1913) يؤكد على دور المنظومة اللغوية في إضفاء المعنى, حيث يشدّد على أن الكلمات لا تعتمد على الواقع في اكتساب معانيها, ثم يضيف :”ليس المتكلم هو الذي يضفي المعنى مباشرة على أقواله, بل المنظومة اللغوية ككل”.

     لذلك فإن منشأ المشكلة ذاتي, وليس موضوعياً, لأنه يظهر في التواصل اللغوي عند كثير من الناس. وخاصة عند أولئك الملتصقين بلغاتهم؛ أي الذين تصنعهم لغتهم بدلاً من أن يصنعوها. فهؤلاء يعتقدون أن المعارف تنتهي عند تخوم معاني الكلمات. لذلك يصعب عليهم النظر إلى ما وراء تلك المعاني. أي النظر إلى العوالم الكامنة وراء هذه الكلمات, التي يتشارك بها بعضهم. ونحن لا نتحدث عن معاني الكلمات, وما طرأ عليها من تطور تاريخي, فهذا أمر بسيط ومعروف, ويدخل ضمن تطور الدلالة اللغوية للكلمات, بل نتحدث عن المفاهيم الأكثر عمقاً من ذلك, التي تؤثر على نحو ما بتفكير الإنسان. فلو كان التفكير الإنساني يستقيم من خلال معاني الكلمات فقط, وينتهي عند تخومها, لما كان هناك أصلاً علم المنطق عند الإغريق. لأن المنطق ولد بسبب عيوب اللغة, وعدم استقامة التفكير من خلال امتطاء مفرداتها, والاقتصار على ما تحمله من شحنات معنوية. لذلك كان المنطق تجريداً من نوع خاص من رحم اللغة, وليس تجريداً للغة. فكثير من الناس يرزح تحت وطأة المفهوم اللغوي للكلمات, ولا يستطيع مغادرة ظلها؛ بل إن بعضهم تطيب عيشته في كنف هذا الظل, ويستمدون منه غفوتهم العقلية. وهذا كثير ما يسبب لهؤلاء نوعاً من سوء التفاهم مع غيرهم. ويكفي, للبساطة, الإشارة إلى أن حياتنا زاخرة “باللغات” المختلفة بعيداً عن لغتنا المحكية, حتى وإن كنا لا نشعر بها أحياناً. فالأزياء لغة, والطهي لغة, ونظام المرور لغة,…وفق ما يقول الأنثروبولوجيون. وهذا يؤكد ما يشير إليه بعض اللسانيين من أنه: “تعتبر أشكال الحياة الاجتماعية والثقافية كلها خاضعة لمنظومات من العلاقات اللغوية, أو الموازية للغة”. وهذه “اللغات” الموازية إذا أعطاها الإنسان انتباهاً, “كلغة”, فإنها تساعده على التفكير, في مجالات عديدة, بطريقة مختلفة, بسبب تحرره من تأثير أحادية اللغة المحكية؛ لأنها تخفف من تسلط معاني الكلمات, وتدفعه نحو اكتساب القدرة على التجريد (التفكير الصوري). وهذا لا ينتقص من قيمة اللغة, أي لغة, في حياة الإنسان, فهي من أهم أساسيات حياته دون منازع, وبها يعمل, ويتواصل مع غيره. والمعنى اللغوي ضروري جداً للكلمات, ولا يمكن الاستغناء عنه, ولكن يجب أن لا تسيطر اللغة, “كنظام”, على تفكيرنا, وأن تسلبنا لياقتنا العقلية.

     وضعف “الإدراك” هذا ليس مؤشراً على أي نوع من أنواع القصور العقلي عند بعض الناس, إذا سلّمنا بما يقوله الفيلسوف والرياضي الفرنسي رينيه ديكارت Rene Descartes (1596- 1650) من: “إن القسمة الوحيدة العادلة بين البشر هي توزيع العقل بينهم”. أي أن المسألة برمتها تتعلق بمالك هذا العقل, وليس بواهبه. ولكن المشكلة تكمن في طريقة استثماره.

     هذا وقد ولّد المنطق الصوري بهدف التخلص من عبودية المفهوم اللغوي للكلمات, فكان ذلك ثورة ذهنية للتخفيف من هذا التعسف. ومن أكثر من يعاني من هذا الاستبداد المعرفي بعض اللغويين الذين يعيشون في منظومات مغلقة, لا يستطيعون مغادرتها, ولا يدخلها “الهواء” الفكري أبداً. بل حتى إن بعضهم قد لا يرغب في ذلك بعد أن استساغ هذا النوع من الحياة, على الرغم من قلة خصوبتها.    

      ولهذا لا بد من ولادة “التفكير البنيوي” لتنقية “الإدراك” من أدرانه المختلفة, وللتخلص من عيوب “الحتمية اللغوية”, وغيرها, على الرغم من صعوبة مخاض هذه الولادة.

الحل المتاح                 

     في البدء لا بد من الإشارة إلى أنه ليس هناك, كما يبدو, حل منشود, بل حل متاح. والحل لا بد أن يكون ذا طبيعة صورية بالمعنى الاصطلاحي؛ ولذلك لا ينفع معه اللجوء إلى مزيد من المعارف, لأن المزيد منها يفضي إلى تراكمها, وهذا يقود إلى تعقيد المسألة. يقول رولان أومنيس في كتابه “فلسفة الكوانتم”: “صفوة القول إنه كلما صارت معارفنا أكثر وأكثر, بدا أن ما نفهمه أقل وأقل”.لذلك فإن الرياضيات, وفق طبيعتها الصورية, خير من يقوم بهذه المهمة, إن لم نقل الوحيدة التي يمكن أن تضطلع بذلك. وقد يكون أحد الحلول المرشحة بقوة, والمتاحة حتى الآن, هو الاستفادة من “التفكير البنيوي” في الرياضيات. وهذا يتطلب معرفة به, على الرغم من وعورته, لكن الموضوع يستأهل ذلك كونه يتعلق بأهم مكونات الحياة, وهو “الإدراك”. لأن “البنيوية” الرياضية, باختصار شديد, طريقة للإدراك العقلي. ونحن هنا لا نتحدث عن “البنيوية” في النقد الأدبي على الرغم من أن هذه الأخيرة مستقاة, بفكرها, ومفرداتها, من البنيوية الرياضية, بعد أن قام آباؤها المؤسسون بطمس جذورها الرياضية.

     إن الرياضيات يمكن أن تكون منهجاً للتفكير, ونرشحها الآن لأن تكون طريقة للإدراك, بغض النظر عن العلاقة بين هذين الأمرين (التفكير والإدراك). وهذا تعبير عن قول الرياضي البريطاني المعاصر إيان ستيوارت Ian Stewart من أن: “الرياضيات أكثر طريقة فعالة وموثوقة نعرفها حتى الآن من أجل فهم ما نراه حولنا”. أي إنها طريقة للإدراك, و إن لم يسمها ستيوارت كذلك.     

     ويجب الإقرار بأن الحل الذي تقدمه الرياضيات ليس سهلاً, لأن مشكلة الإدراك, أساساً, مسألة وعرة ذهنياً. ولكن من الواضح, مما تقدم, أن الرياضيات يمكن أن تقوم بدور كبير في توضيح أبعاد المشكلة, وفي إيحاء بعض إرهاصات الحل. وتنبع قوة الحل الرياضي من اعتمادها على التجريد, وإهمال كل ما ليس له قيمة, وهذا ديدن الرياضيات. بيد أن هذا لا يتحقق إذا لم تُدرّس الرياضيات على نحو تربوي صحيح. أما إذا كانت تعتمد على التلقين, والحفظ, وأنها مجرد “إجراءات”, و”حسابات” عددية, لا معنى إنساني لها, فإنه ليس لها علاقة مع الإدراك الذي نتحدث عنه.

     وقد يكون من أوائل من أشار إلى ذلك, ولو على نحو خام و بسيط, أرخميدس (أعظم عقلية رياضية عرفها التاريخ, ولد 287 ق.م) عندما قال: “أسمُ فوق نفسك واستوعب العالم”. وقد جذب هذا القول علماء الرياضيات الكبار كثيراً من خلال وضعهم إياه على ميدالية فيلدز Fields Medal (وهي نظير جائزة نوبل في مجال الرياضيات) بنصه الإغريقي وبترجمته الإنكليزية. والقول يعني تجرّد من نفسك وعندها “ستدرك” كنه العالم. وليس من المستبعد أن يكون الرياضي الأمريكي (الهنغاري الأصل) جان فن نيومان  John von Neumann  (1903- 1957) قد متح قوله المعروف من أنه: “إذا كان الناس لا يقتنعون بأن الرياضيات بسيطة, فإن السبب الوحيد لذلك هو أنهم لا يدركون كم هي الحياة معقدة”. وهذا التعقيد يكمن في صعوبة “إدراك” عديد من العلاقات الإنسانية على نحو صحيح. ومن هنا تبدأ هذه المشكلة. والرياضيات قدمت حلاُ يناسبها, وقد لا يناسب بعض الناس. وهو التركيز على “العلاقات” بين الناس, وليس على طبيعتهم. ويبدو أن معظم الناس تركز على الطبيعة, وليس على العلاقة, لأن أولويتها المتعة, وليس الفائدة التي تظهر في العلاقة. وهذا يذكّرنا بتركيز معظمنا على متعة الطعام, وليس على فائدته. لذلك قد يكون قول أرخميدس جزءاً من الحل, وليس كل الحل, بتركيزه على قدرة التجرّد من النفس. وهذه القدرة مقدمة أساسية لا بد منها لاكتساب “التفكير البنيوي”. وهذا يتطلب دأباً, و مكابدة ذهنية كبيرة تذكرنا بقول أقليدس (عاش في القرن الثالث قبل الميلاد, ومؤلف أشهر كتاب في الهندسة), عندما طلب منه ملك مصر أن يعلمه الهندسة في دروس قليلة سهلة, فكان رده الشهير من أنه: “لا يوجد طريق ملكي للرياضيات”.

العودة إلى الجذور

     يجب الإقرار بأنه كي نفهم أي مشكلة لا بد من العودة إلى جذورها, والتحري عن أسبابها الكامنة تحت التفاصيل, كي نستطيع إيجاد حل لها؛ لأن هذا يساعدنا في عملية الإدراك, مع أن النفس تعافها, وفق ما يقوله ابن النديم في كتابه “الفهرست” من أن: “النفوس تشرئب إلى النتائج دون المقدمات”.  

     وقد بينت هذه الأطروحة, بعد أن استخدمنا الرياضيات طريقة للإدراك, أن بعض ظواهر الحياة يصعب بلورتها, أو حتى فهمها, بعيداً عن الفكر الرياضي, نتيجة تداخل العلاقات بينها, أو كمون بعض تلك العلاقات فيها, وعدم وجود ما يشي بها. وهذا ما أشار له الرياضي البريطاني المعاصر كيث ديفلين  Keith Divlen  من أن: “الرياضيات تجعل غير المرئي مرئياً”. وهذا ينبع من كونها علماً صورياً Formal Science, يختلف تماماً, في ماهيته, عن بقية العلوم الأخرى المسماة بالعلوم الإخبارية Informative Sciences, التي تكون كامل حمولتها المعرفية أخباراً لا غير.