د. محمود باكير
نشر هذا المقال في مجلة المعرفة – وزارة الثقافة السورية، العدد٥١٣،حزيران ٢٠٠٦
ينظر كثير من الناس إلى الرياضيات على أنها علم يُعنى بالأعداد وبالأشكال الهندسية والمعادلات التي تكون عند بعضهم صماء لا ُتوحي بشيء. أو أنها نوع من الحسابات والعمليات الرياضية التي لا معنى لها ولا صدى إنسانياً على الرغم من فائدتها في تقدُّم العلوم الأخرى. لأنّه من المعروف أنَّ للرياضيات تطبيقاتٍ عديدةً في العلوم المختلفة مثل الهندسة والفيزياء والبيولوجيا والاقتصاد وغير ذلك. وكثيراً ما تشكِّل هذه التطبيقات العمود الفقري لتلك العلوم. وهذه الحقيقة غنية عن البيان للقاصي والداني. بيد أنَّ علاقة الرياضيات بالعلوم الإنسانية قد تكون خفية أو حتى في بدايتها قياساً بعلاقتها بالعلوم التطبيقية التي مضى عليها حين من الدهر.
لذلك يشك بعضهم في أنّه يمكن الاستفادةُ منها في مجال الإنسانيات أو في مقاربة كل ما هو إنساني، أو له علاقة عضوية بالإنسان. ويتأتّى هذا الموقف عند الكثيرين من طبيعة الرياضيات الشكلية ( الصورية ). وهذه نظرة سطحية للرياضيات، على الرغم من أنها تحمل نوعاً من الصحة، أو أكثر دقة هي نظرة ذرية (ميكروسكوبية ) – إن جاز التعبير – بمعنى أنها تفتقر إلى النظرة الشمولية عن بعد، ولا تدخل في أعماق المفاهيم والأنظمة الرياضية ولا في دوافعها الإنسانية. وغايتنا في هذه الدراسة إيقاظ الإحساس عند دارسي العلوم الرياضية أولاً والآخرين ثانياً أن للرياضيات تأثيرات إنسانية عميقة في النفس البشرية، وأن لها امتدادات إنسانية. وباختصار فإنَّ الرياضيات ليست مجموعة من الرموز فحسب، بل إنها تنطوي على معان إنسانية ذات مغزى كبير وعلى “عقلية” خاصة بها. وهذا هو منطلق هذه الدراسة. ومن هذه العقلية سنعمل على اشتقاق الآليات التي تعمل على تعزيز واحدة من أهم القضايا التي تشغل بال رجال الدين والمربين والمفكرين والفلاسفة على اختلاف مشاربهم، وهو موضوع الأخلاق. وأكثر دقة هو أثر الرياضيات في النمو الأخلاقي عند الرياضيين، ولا أقول عند دارسي الرياضيات للفرق الكبير بين هذين الصنفين من البشر. وهذا لا ينكر أن دارس الرياضيات يمكن أن يصيبه بعض “الغيث”، ويعتمد هذا على مدى مقاربته للفكر الرياضي التي تجانب نمطية بعض الفروع الرياضية.
ومن المعروف أن منابع الأخلاق ثلاثة: فطرية وإيمانية وفكرية. وستتحدث هذه الدراسة عن المنبع الفكري وتحديداً الرياضي.
إن علاقة الرياضيات – من حيث هي علم – مع الأخلاق غير مباشرة من خلال المنطق، وذلك للعلاقة الوثيقة القائمة بين الرياضيات والمنطق من جهة أولى، وعلاقة المنطق بالأخلاق من جهة ثانية. ولتوضيح ما قصدناه فإنه من المعروف أن العلوم المعيارية ثلاثة: الأخلاق وعلم الجمال والمنطق، حيث تتميز التصورات العقلية بأنَّ لها “قيمة”. وتطلق هذه الكلمة على نحو خاص على الصفة التي تجعل أشياء معينة تستحق التقدير. وتصنف قيم الحياة إلى ثلاث أنواع رئيسية: قيم الأخلاق، والجمال، والحقيقة. وهذه القيم ترتبط بمعان ثلاثةٍ هي: الخير والجمال والحق. وهذه المعاني الثلاثة مواضيع لثلاثة علوم يطلق عليها اسم ” العلوم المعيارية “، وذلك للتعبير عن طابعها الخاص وعلاقتها بالقيمة، وهي: الأخلاق التي تتخذ لها من الخير موضوعاً، وعلم الجمال، وموضوعه الجمال، والمنطق وموضوعه الحقيقة (1).
إن مسألة الأخلاق شغلت حيزاً كبيراً في الديانات السماوية وتبوأت موقع الصدارة في تعاليمها، كما حازت على اهتمام المذاهب الفلسفية على اختلافها. والأخلاق نوعان: أخلاق عامة أو نظرية، وأخلاق خاصة أو عملية. وتعد الأخلاق النظرية موضوع نظرٍ فلسفي، أو بصيغة أخرى يعد علم الأخلاق فرعاً من فروع الفلسفة، ويعرِّفها بعضهم بأنها ” نظرية عقلية في الخير والشر”(2). وتعد الأخلاق العملية نوعاً من واجبات المرء نحو نفسه أو غيره أووطنه أودينه. وهي في هذا الجانب لا تبحث عن المبادئ التي تقوم عليها هذه الأعمال ولا قيمتها. ويعد الفلاسفة الأخلاق النظرية أهم جزء من الأخلاق. وما ننشده الآن هو ليس بحثاً نظرياً في علم الأخلاق، أو بحثاً تربوياً في كيفية اكتساب الأخلاق أودراسة عن موقع الأخلاق في الديانات السماوية. كما أننا لن نتحدث عن تأثير الرياضيات في العادات الأخلاقية، أي عن تأثير الرياضيات في الأخلاق العربية أو الأخلاق اليونانية أو غير ذلك من أخلاق الشعوب. بل سينصبّ اهتمامنا على ما تقدِّمه الرياضيات من تغذية النبع الفكري للأخلاق من خلال ما تطرحه من مفاهيم أو أنظمة منهجية ورؤى. لأنَّ ثمّة نبعاً آخر للأخلاق – كما أشرنا – وهو النبع الإيماني. لذلك تُقسَم المذاهب الأخلاقية إلى قسمين رئيسيين: مذاهب دينية ومذاهب فلسفية. والأخلاق الدينية تبني الواجب على إرادة الله. وهذا خارج عن إطار هذه الدراسة.
هذا ومن المعروف أنَّ جل ما يقوم به الإنسان من نشاطات في الحياة هو نوع من المحاكاة. فالغناء محاكاة للطيور، والرقص محاكاة للحيوان، والفن محاكاة للطبيعة، وكثير من النظريات الفيزيائية محاكاة للطبيعة، والذكاء الصنعي محاكاة لذكاء الإنسان، والفلسفات محاكاة للشرائع السماوية، والفيلسوف يحاكي الأنبياء. بل إن بعضهم يذهب إلى ( أن الفلسفة هي التشبّه بالله قدر الطاقة الإنسانية) وفق ما يقوله أفلاطون . (ت347 ق.م). وبإيجاز فإن (المسألة كلها تبدأ بالإدراك الحسي. والحواس الخارجية هي الأساس الأول لكل المعارف الإنسانية ومصدرها …) (3). فلا وجود للتفكير المجرد بالمعنى المطلق والدقيق لهذه الكلمة. وإلا كنا كمن يسعى إلى الحصول على “مُجَفَّف” الماء.
إن جذور المفاهيم الرياضية مستمدة من الطبيعة، مهما بدت هذه المفاهيم على درجة كبيرة من التجريد أو التعميم أو التعقيد. أي أن الكائنات الرياضية هي محاكاة للأشياء في الطبيعة. والأنظمة الرياضية المبنية على نحو منطقي باستخدام جملة من اللامعرفات ( كلمات أولية ) المنطلقة من جملة من الموضوعات ( المسلمات أو اللامبرهنات )، محاكاة لطريقة الخالق. فالرياضي يسعى إلى أن يقيم نظاماً منطقياً متسقاً ( منسجماً) لا يولد تناقضات، وهو بذلك يحاكي الخالق في صنعه للكون. وفي هذا المعنى يقول الفيزيائي ديراك: ( إن الأفكار التي اختارتها الرياضيات تكون الطبيعة قد اختارتها سلفاً). مع الاعتراف بأن طبيعة المحاكاة الرياضية تختلف عن غيرها في كثير من المجالات، فمحاكاتها تخضع للتجريد، نظراً إلى أن الرياضيات مفاهيم مجردة. لذلك في هذا المنظور نستطيع فهم قول الرياضي البريطاني هاردي (1947-1877)(HARDY): ( أعتقد أن الحقيقة الرياضية قائمة خارج أنفسنا ، و وظيفتنا أن نكشفها أو أن نلحظها، وما النظريات التي نبرهن عليها والتي نتكلم عنها ببلاغة كأنها “مخلوقاتنا” سوى نتاج ملاحظاتنا). ولما كان الرياضيون يحاكون الذات الإلهية في معظم ما يصنعونه، ودافعهم في ذلك بلوغ الكمال، الذي يستحيل بلوغه، فإن طبيعة هذا العمل السامي يمنحهم السّمو والرفعةَ اللذين يغذيان الجانب الأخلاقي عندهم.
ومن وجهة نظر بعضهم يذهب الرياضيون بعيداً في محاكاتهم. فهم لا يحاكون الطبيعة فحسب، بل يحاكون كل ما يقال لهم على طريقتهم الخاصة. وفي هذا المعنى يقول الشاعر والفيلسوف الألماني غوته (1832-1749)(J.W.V.Goethe) (إنّ الرياضيين مثل الفرنسيين: أي شيء تقوله لهم، يترجمونه إلى لغتهم، وبعد ذلك يُصبح هذا الشيء أمراً مختلفاً تماماً!).
إنّ بين الرياضيات والأخلاق النظرية تشابهاً كبيراً، فالأخلاق الفلسفية ليست (لائحة تضم عدداً يكبر أو يصغر من النصائح والأوامر والتعاليم. بل إنها في الواقع منظومة أو بناء منطقي ينطوي أولاً على عقيدة نظرية تبحث في الإنسان والعالم ، كما تنطوي من جهة ثانية على مبدأ أساسي يُستمد منه الحكم على مختلف أنماط السلوك في مختلف ظروف الحياة ). (4) وهذا هو حال الرياضيات البحتة التي تُعدّ – ببساطة – مؤلفة من أنظمة منطقية. ويتألف كل نظام من جملة من المسلمات ( مبادئ أساسية) يبنى عليها جملة من النتائج. وإذا عرّفنا الرياضيات البحتة وفق ما يقوله الرياضي هاردي: ( إنها دراسة كيف يجب أن يفكر الناس كي يحصلوا على نتائج صحيحة، وهي لا تأخذ في الحسبان الضعف الإنساني )، وقارناه بتعريف الأخلاق وهي: ( علم معياري يضع المعايير التي ينبغي مراعاتها والتي بإزائها تقاس قيم الأفعال الإنسانية ) (5). نجد أن الرياضيات البحتة تدرس كيف يجب أن يفكر الإنسان للحصول على نتائجَ صحيحة ٍ، والأخلاق تضع المعايير التي يجب مراعاتها كي يتصرف الإنسان على نحو صحيح. ولما كان ثمة علاقة بين العقلية والسلوك (6). فإن هذا يوضح العلاقة بين الرياضيات والأخلاق .
كما أنّ للأخلاق وجهين: الأخلاق النظرية والأخلاق التطبيقية، (مهمة الأولى تحديد القانون الأعلى للأخلاق، والثانية تبحث عن كيفية تطبيق ذلك القانون بعد إصداره على الحالات والملابسات المهمة التي تعرض لنا في الحياة … فما عليك إلا أن تطبّق القانون الأخلاقي العام على العلاقات العائلية المختلفة لتحصل على مجموعة الأخلاق العائلية ، كما أنك إذا طبقته على العلاقات السياسية المختلفة حصلت على مجموعة الأخلاق المدنية وهكذا ..). (7) فالأخلاق النظرية تقابل الرياضيات البحتة، والأخلاق التطبيقية تقابل الرياضيات التطبيقية . لأنّ المهام الموزعة بين الأخلاق النظرية والتطبيقية تشبه إلى حد كبير المهام الموزعة بين الرياضيات البحتة والتطبيقية ، آخذين بعين الاعتبار طبيعة كل علم منهما . وكما أن الأخلاق النظرية موزعة على مذاهب (أنظمة ) أخلاقية مختلفة فإن الرياضيات البحتة موزعة على أنظمة (مذاهب) منطقية مختلفة، مثل نظرية المجموعات، ونظرية الأعداد، والهندسة الإقليدية، والهندسات اللاإقليدية. ويسعى كل فيلسوف ( صاحب مذهب أخلاقي)إلى أن تكون نظريته متسقة ( منسجمة ) الأجزاء بحيث لا ينقض بعضها بعضاً. وهذا هو عين ما يشغل بال الرياضيين الذين يضعون الأنظمة الرياضية المنطقية المختلفة. لأنه من المعروف أن الأنظمة المنطقية المبنية على الطريقة الموضوعاتية (على جملة من الموضوعات أو المسلمات) أضحت الآن أساس الرياضيات البحتة. وهذا هو ما تمليه الضرورة المنطقية وحتى الفطرة، لأنه لا يمكن قيام أي نظام دون قانون. (لأنه دون قانون لا يعرف الناس ما يفعلون .. حتى القراصنة ورجال العصابات لهم قانونهم الخاص الذي لا يستطيعون العيش دونه ) (8). أي أنه لا يمكن قيام قانون في الحياة مهما قلَّ شأنه أو مهما كانت طبيعته، بغير مسلمات، أو ما يسمى أحياناً الثوابت. والكلام نفسه ينطبق على جملة الموضوعات في أي نظام رياضي. أي أنّ الموضوعات ضرورة في الرياضيات لا غنى عنها، كما هو الحال في أنّ الضرورة هي التي فرضت القانون. بيد أنّه في الحالة الثانية القانون ليس إلا تنظيماً بين أفراد الدولة أو شريحة معينة من البشر، وقد يُعلّم الانضباط لا أكثر. في حين أنَّ جملة الموضوعات في الرياضيات لما تتمتع به من جمال منطقي خاص تُعلّم تذوّق الحقيقة، فضلاً عن أنها تحمل نوعاً من الاختيار، وفضلاً عمّا تولّده من انضباط حقِ مبني على العقل. أو بصيغة أخرى يعدُّ النظام الموضوعاتي نوعاً من ” الولاء” الطوعي ، وضدَّه صحيح أيضاً. أي أنّ الولاء بكل أنواعه – أو أكثر دقة روح الولاء – هو أحد أشكال النظام الموضوعاتي. وهذه الروح التي يكتسبها الرياضي من خلال عمله الدائم في الأنظمة الرياضية المنطقية تطبع شخصيته بالولاء إلى منظومة القيم الأخلاقية. بل وربما الرياضي أكثر قرباً من غيره إلى الالتزام بهذه القيم. وإذا تبنّينا أن الأخلاق – كما يعرّفها بعضهم – “نظرية عقلية في الخير والشر “فإن الرياضيات، أو أكثر دقة فإن أنظمة الرياضيات المنطقية، هي نظرية عقلية في الصح والخطأ. لأننا في هذا الإطار، وانطلاقاً من جملة موضوعات النظام، نستطيع تمييز القضايا الصحيحة من الخاطئة باستثناء بعض الحالات النادرة جداً المعروفة – في الرياضيات – بالقضايا غير القابلة للبت. ومن هذا التقابل تستمد الرياضيات قدرتها على تعزيز هذه النظرية في الخير والشر. وهذا لا يعني برمجة الإنسان من خلال محاكاة نظام الموضوعات في الرياضيات. ولكن الرياضيات تُنمّي عند مستخدميها القدرة على المحاكمة المنطقية بعدِّها – وفق تعريف برتراندرسل – قضايا من النمط A يقتضي B. وهذا ليس تناسياً أو إغفالاً لمشاعر الإنسان وأحاسيسه، ولكن ما نود توضيحه هو أن توهج جذوة النظام الموضوعاتي في ذهنية الرياضي ( وعند بعض الدارسين ) يمكن أن تكون أداة في تنمية الجانب الأخلاقي المبني على الأسس الفكرية.
إن الرياضيات تتمتع بقوة دافعة عند دارسها نحو اكتساب روح الخضوع للنظام، التي تقتضي تهذيب النفس، وتعويدها على التحكم في أهوائها، والميل إلى الاعتدال، وإثراء مكونات الأخلاق. وهذا يتأتى من خلال تعوّد الرياضي على الأنظمة الرياضية والالتزام الصارم بها. وهذا التأثير النفسي غير المباشر لبعض الظواهر في نواح معينة ملحوظ في كثير من نواحي الحياة. فالملتحقون بالجيش يبدؤون حياتهم العسكرية بتعلُّم المشية العسكرية وأداء التحية وغير ذلك، وهذا يهدف إلى ترويض هؤلاء وتطويعهم لتنفيذ كل ما يطلب إليهم لا لاستخدامه في الحرب. كما أن بعضهم يعتقد أن ثمة ميلاً عند المهتمين باللغة نحو الشعور بالمسؤولية. ومن المعروف في علم التربية أنه بالنظام وحده يمكن تعلم الطفل الاعتدال في رغباته، والحد من شهواته، وتحديد مواضيع نشاطه (9). وإذا توقفنا قليلاً عند نوع من البشر يطلقون العنان لأهوائهم وما يصيب هؤلاء من صراع داخلي كما يشرح ماسلو: ( ما يرد أن يفعله قد يضر به ، وحتى لو فعله فقد لا يستسيغه، وحتى لو استساغه فقد يستنكره في الوقت ذاته، بحيث تصبح المتعة ذاتها مسمومة أو قد تتلاشى بسرعة … وتبعاً لذلك يتحتم عليه أن يرتاب في حوافزه وملذاته التي تضلله وأن يخافها. وهكذا يتورط في صراع وانفصام وحيرة. وباختصار يتورط في حرب أهلية) (10). وهذا الشخص – من منظور الرياضيات – يقع في جملة من التناقضات مع موضوعات الحياة السوية. فإذا كانت مهمة الأخلاق – وفق ما يقوله بعضهم – أن تمنع الفرد من دخول المناطق المحرمة عليه، فإن هذا عين ما يمليه النظام الموضوعاتي في الرياضيات عند الالتزام به. ولما كان العقل أحد منابع الأخلاق ( فضلاً عن الدين والوجدان ) فإنه (بقدر ما تتقدم الحياة العقلية للناس، وبقدر ما تزداد اتساعاً وتعقيداً، تتسع دائرة نشاطهم الخلقي) (11). والرياضيات واحد من أهم العلوم التي يمكن أن تنهض بهذه المهمة، وتعزّز الدعائم العقلية للأخلاق. وفي هذا الجانب يمكن لدارس الرياضيات – إن أحسن الصنع – أن يجني بعض الآثار الجانبية من تلك الدراسة، وإن لم يرتق إلى مصاف الرياضيين. ومن المفيد التذكير بأن ثمة فرقاً جوهرياً بين التدريب والتعليم من وجهة نظر علم التربية. وما نقوم به غالباً في تدريس الرياضيات في بلدنا هو نوع من التدريب، إذ يحفظ الطالب تقنيات معينة تعلّمه النمطية وتسلبه روح التفكير والنقد والإبداع. فالتدريب عمل لا روح فيه ولا إبداع، ويتطلب نشاطاً عقلياً في حده الأدنى. لذلك من المستبعد أن يحمل في طياته أي أثر أخلاقي، الذي يظهر في حده الأقصى عند الرياضيين الفلاسفة.
ولمزيد من توضيح العلاقة بين النظام الموضوعاتي والأخلاق عند الإنسان يكفي أن نشير إلى العلاقة القائمة بين النظام الموضوعاتي والعقلية، لما للعقلية من علاقة بالسلوك. فعقلية الإنسان – أي إنسان – ( التي هي محط اهتمام علم النفس ) هي بمنزلة نظام موضوعاتي بسيط وكامن يغلفه الغموض. لذلك من الممكن أن نطلق عليها نظام قبل منطقي كونه جنينياً لم يزل في حالته الخام. كما أنها نظام موضوعاتي فردي على الرغم من مشاطرة الآخرين في بعض نواحيها. والنظام الموضوعاتي بمثابة ” عقلية ” من نوع خاص ذات منهجية مبلورة، وهو حالة أكثر تصنيعاً من عقلية الإنسان. وفي ذلك تكمن سر قوته في عديد من المجالات المختلفة. وقد تكون عقلية الإنسان – فضلاً عن ذلك – مبنية على أسس فاسدة منطقياً على خلاف ما هو قائم في النظام الموضوعاتي.
إن النظام الموضوعاتي وطرق البرهان الاستنتاجي هو الصورة المثلى لما يجب أن يكون عليه تفكير الإنسان . وهذا النظام ليس مصطنعاً كما قد يخال بعضهم، بل إنه الصورة العقلية – أو أكثر دقة هو الصورة المجردة – للنظم الموضوعاتية في الحياة.
هذا ويمكن أن نجد مثالاً بسيطاً يتضمن في ثناياه النظام الموضوعاتي والنظام الأخلاقي في أبسط صورهما على الرغم مما يحمله من تكثيف. وهو ما ورد في الأثر: (اتق الله وافعل ما شئت ). والموضوعة ( المسلَّمة ) هنا ” تقوى الله ” ثم افعل ما تشاء من أعمال يمكن القيام بها شرط تقوى الله وعدم تعارضها مع ذلك. وهذا نظام منطقي موضوعاتي بسيط مبني على موضوعة واحدة فقط .
الصبر والرياضيات
مما لا شك فيه أن المثابرة والتصميم والأناة صفات يتسم بها كل من يعمل في الحقل العلمي بغض النظرعن طبيعة اختصاصه . ولولا انفراد هؤلاء بصفات تميزوا بها من غيرهم من البشر لما تحققت كلُّ هذه الإنجازات الهائلة في مختلف العلوم . بيد أن الرياضيين يتميزون من غيرهم بالقدرة الفائقة على الصبر . بل إن بعضهم كان أمثولة في تاريخ البشرية على مخزونه اللامحدود من هذه القدرة. ويكفي أن نعرف، على سبيل الذكر لاالحصر، أن الرياضي الأمريكي “فريدريك نلسون كول” (F.N.Cole) أمضى ما يقارب خمسة آلاف ساعة عمل (وهذا يعادل سنتين ونصف عمل) من إجازاته الأسبوعية في تحليل عدد إلى عامليه الأوليين(12). والرياضي الإنكليزي هيوود (P.J.Heawood) أمضى ستين عاماً من عمره وهو يحاول حل مسألة الألوان الأربعة دون جدوى. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى. ويعزى سبب ذلك – كما أظن – إلى أن الإنسان الرياضي وبما يتمتع به من حياة فكرية خصبة يستطيع أن يكون صبوراً أكثر من غيره لأنه في حالة الشدة يستطيع أن ينسحب بنفسه إلى داخله. وفي هذا “الداخل ” يجد مرتعاً فكرياً خصباً يستطيع أن يمارس فيه نشاطه. وعلى الرغم من أن هذا الارتداد إلى الداخل يعدّه بعضهم شكلاً من أشكال الانكفاء، إلا أنه انكفاء حسنٌ، ويكون ملاذاً إلى حين يحقق به ذاته. وعلاقة الصبر بالأخلاق غنية عن البيان، لأن الصبر أحد العناصر التي تتألف منها الشجاعة(13) . وهذه الأخيرة من الفضائل الأربعة الرئيسية وهي: الحكمة، والعدالة، والشجاعة، والعفة. وعلاقة صبر الرياضي بتعزيز الجانب الأخلاقي عنده تكون من خلال ذهنيته التي تصبو إلى التحري عن الحقيقة والابتعاد عن النفعية. فمن المعروف أنه يصعب على الذهنية النفعية أن تُبدع في مجال الرياضيات. فتاريخ الرياضيات يشير إلى أن الرومان لم يقدموا شيئاً ذا بال في مجال الرياضيات لأنهم دأبوا على تعلم الأشياء ذات الفائدة الآنية والتطبيق المباشر. لذلك كانت مساهمتهم الحضارية غير مواكبة لإنجازاتهم العسكرية باستثناء نظامهم في العد الذي تخلت عنه أوروبا في أول فرصة سانحة لعدم سهولته. في المقابل نجد أن الإغريق قد اعتنوا بالجوانب العلمية بغض النظر عن تطبيقاتها العملية وفي هذا يكمن سر تفوقهم وإبداعهم في الرياضيات . وصاحب الذهنية النفعية ينشد دائماً الفائدة المادية أو القوة أو السيطرة. وهذه الأهداف لا تعزّز الجانب الأخلاقي إن لم نقل ضد ذلك. في حين عندما يكون هدف الرياضي التعطش للحقيقة، فإن هذا يثري الجانب الأخلاقي لسمو هدفه من حيث لا يدري. هذا ومن جهة أخرى فإن مخزون الرياضي اللامحدود من الصبر مستمد مما يجنيه من نشوة عقلية نتيجة إبحاره في دنيا الرياضيات، وخاصة عندما ينتصر على التحديات التي تواجهه ، ويظفر بالنتائج التي كان يصبو إليها. وهذه النشوة هي واحدة من القوى الخفية الكامنة وراء صبر الرياضي أثناء حلِّه أعتى المعضلات الرياضية . واللذة في النظريات النفسانية الكلاسيكية هي حالة انفعالية لطيفة تنتج عن إشباع حاجة لدى الكائن الحي ، واللذة ملازمة للرغبة . وعند الرياضيين رغبة الاكتشاف والتغلب على التحديات التي تعترض مسيرهم هي التي تخلق هذه اللذة . وهي لذة من نوع خاص تسمو على كل الحواس البشرية، لكونها لذة نفسية وعقلية. وهذه النشوة، أو لنقل هذه ” النعمة ” هي زاد الرياضي وثوابه في الابتعاد عن كثير من الملذات الأخرى في الحياة.
التجريد والخلاق
إن واحدة من أهم السمات التي تميز الرياضيات من غيرها من العلوم هي التجريد ، لذلك يذهب بعضهم إلى أن الرياضيات مفاهيم مجردة . والتجريد ببساطة ( عملية ذهنية قوامها فصل إحدى الخاصيات عن شيء ما ، والنظر فيها مستقلة عن سواها ) (14).
لذلك نجد أن الرياضيات أضحت تطور مفاهيم ما وراء التصور الإنساني الفعلي على الرغم من أن جذور تلك المفاهيم مستمدة أصلاً من الواقع. وهي بذلك تنشد ، من ضمن أشياء كثيرة، إعادة بناء العالم الفيزيائي على نحو مثالي. وهذه النزعة ” المثالية “– التي قوامها التجريد – تنسج صورة مثالية وجميلة للواقع. وهذا يزرع في نفوس الرياضيين حب كل ما هو مثالي، وعلى رأس ذلك الأخلاق. والتعامل الدائم مع المجردات يولّد ذهناً خاصاً عند الرياضيين، ويخلق عوالم خاصة بهم. فالرياضي يصنع فردوسه بنفسه وهوما يصعب على الناس العاديين تخيّله أو حتى مقاربته. ومن المعروف أنه كي يستطيع الإنسان الإبداع في الرياضيات عموماً عليه الإعراض عن الواقع الفيزيائي. والقدرة الكبيرة على التجريد عند الرياضيين تجعلهم قادرين – مقارنة بغيرهم – على تذوق الفضيلة. أي أن متعة الرياضي بالمجردات وإحساسه بالجمال الذهني ( الجمال الداخلي الذي تتمتع به بعض فروع الرياضيات ) (15) يسهل عليه المتعة بالفضيلة.
هذا ولا بد من الإشارة إلى أن وجهة النظر هذه ( الربط بين الرياضيات والأخلاق ) قد أسُست على قاعدة النظرة الجديدة للإنسان في علم النفس المعاصر، إذ تتجه هذه النظرة نحو أولوية العقل. وبصياغة أخرى فإن هذا منسجم مع النظرة العلمية الجديدة التي بدأت مع النظرية النسبية وميكانيك الكم اللتين برهنتا على محورية العقل(16). فقد أشار كثير من علماء النفس بعد الحرب العالمية الثانية إلى أن إلغاء دور العقل في سلوك الإنسان وإخضاع العقل للغريزة في طريقة التحليل النفسي قد أفضتا إلى تجريد الإنسان من إنسانيته (17). لذلك يُعدُّ علم النفس في النظرة الجديدة العقل والعزيمة أسمى ملكات الإنسان، وهما يميزان الإنسان من الحيوان. (والعقل والإرادة لا يسيطران على الجسم فحسب، بل يسيطران أيضاً على الانفعالات ويبطلانها عند الضرورة. وبإخضاع الانفعالات للعقل يصبح الوئام والسعادة في متناول الإنسان) (18). (والنظرة القديمة للعلم تعتبر أن العقل البشري لا يستطيع أن يختار بحرية لأن المادة لا تتصرف إلا بضرورة ميكانيكية. وهذا هو السبب في نزوع النظرة القديمة إلى تفسير تصرفات الإنسان بلغة الغريزة) (19). وباختصار فإن هذه الدراسة تأتي ضمن هذا الإطار، أي أننا ننطلق هنا من أن الإنسان قوة واعية وما تقوم به الرياضيات هي أنها تصنع ما يمكن تسميته ” سلطة أخلاقية” ذات دعائم عقلية، أي أن الأخلاق التي تولدها الرياضيات قائمة على سلطان العقل لا الخوف.
وأخيراً لا بد من التنويه أن هذه الدراسة ليست أول إشارة إلى علاقة الرياضيات بالأخلاق فقد ذكرها الحسن بن الهيثم ( ت 432 هـ ) في مقالته ” ثمرة الحكمة “(20). ذكر فيها أثر الرياضيات في تهذيب الأخلاق: “ولا يشكّن أحد في فضيلة هذا العلم وعظيم فوائده، ومنافعه، فإنه علم به يلطف تصور الإنسان، و يجيد فهمه، و يصفو ذهنه، ويمضي ذكاؤه، و تتهذب أخلاقه، بنفي الأشياء التي لا حقائق لها و إثبات الأشياء الحقيقة). كما أشار ابن خلدون808-732) هـ) في ” مقدمته ” إلى العلاقة بين الحساب والصدق: ( من أخذ نفسه بتعلم الحساب أول أمره أنه يغلب عليها الصدق لما في الحساب من صحة المباني ومناقشة النفس فيصير له ذلك خلقاً ويتعود الصدق و يلازمه مذهباً ) (21). بيد أن هذه كانت مجرد تلميحات إلى العلاقة بين الرياضيات و الأخلاق بلا دخول في التفاصيل أو في الآليات التي تجعل من الرياضيات عاملاً معزّزاً للأخلاق. أي أن هذه الإشارات لم تكن أكثر من ومضة خاطفة مبنية على الحدس.
هذا و من المرجح أن يكون سبب تأثير الرياضيات في التكوين الأخلاقي هو ما تحمله في طياتها من معان فلسفية عميقة. و لاسيّما عند أولئك الرياضيين الذين جمعوا بين الرياضيات و الفلسفة، و هؤلاء ليسوا قلة. حتى إن بعضهم ذهب بعيداً في مسعاه حينما غلّب الجانب الفلسفي على الجانب الرياضي عندما كان يستشعر ثمة تعارضاً بين الجانبين . و ربما كان تفاعل الرياضيات بالأخلاق أكثر وقعاً و تأثيراً عند هؤلاء الرياضيين من غيرهم لأن الرياضيات اختلطت عندهم بمعتقداتهم . فضلاً عن ذلك نجد لدى الرياضيين تعطشاً نحو العدالة و نزعة نحو الحرية المنضبطة و توقاً نحو الكمال .
هذا و من الجدير بالذكر أن هذه الدراسة لا تنفي وجود بعض الرياضيين – و إن كانوا قلة – عَدِمُوا بعض النواحي الأخلاقية. و قد يعزى سبب ذلك عند هؤلاء إلى عدم توحد شخصية الواحد منهم مع علمه. أي ببساطة فإن لهذا الإنسان شخصيتين: شخصية يعمل فيها في علمه و مهنته، و أخرى يعيش فيها حياته الخاصة؛ و الصلة بين هاتين الشخصيتين شبه منقطعة. وهذا هو حال الطبيب الناصح لمرضاه، المتغافل عن نصح نفسه حين مرضه . و يجب أن لا يفهم من هذه الدراسة أن الرياضي سيؤول – نتيجة للرياضيات – إلى مصاف الأنبياء، بل إنه إنسان أثمرت فيه النزعة الأخلاقية، و تبلورت عنده أكثر من غيره . لأن الإنسان لا يستطيع أن يغادر إنسانيته أو أن ينسلخ منها، و لكنه يستطيع أن يرتقي في سلّم السمو. بل و الأكثر من ذلك فإنه لابد من الاعتراف بأن بعض دارسي الرياضيات قد لا يتمتعون حتى بالتفكير المنطقي.
و هذه الدراسة تنفي تقسيم بعضهم للثقافة في العصر الحديث إلى نوعين: ثقافة العلم و ثقافة الأدب و أعتقد أن ثمة تداخلاً كبيراً بين هاتين الثقافتين – في حال وجودهما منفصلتين – لما تؤثره ثقافة العلم في ثقافة الأدب وليس الضد.
الحواشي:
(1)- انظر ” المنطق و فلسفة العلوم ” ، بول موى ، ت :فؤاد حسن زكريا ، مكتبة دار العروبة للنشر و التوزيع ( الكويت ) ،1401 هـ/1981 م ، الصفحة 21 .
(2)- انظر ” الأخلاق النظرية ” ، عبد الرحمن بدوي ، وكالة المطبوعات ( الكويت ) ، طـ2 ، 1976 ، الصفحة 8 .
(3)- ” العلم في منظوره الجديد ” ، روبرت م . أغروس ، جورج ن . ستانسيو ، ت : كمال خلايلي ، عالم المعرفة ( الكويت ) 134 ، ص 30 .
(4)- ” المذاهب الأخلاقية ” ، د . عادل العوا ، ج1 ، الجامعة السورية ، 1958 ، الصفحة 11 .
(5)- ” الأخلاق النظرية ” ، الصفحة 11 .
(6)- انظر ” مفهوم العقلية ” د . علي وطفة ،مجلة التعريب ( المركز العربي للتعريب و الترجمة و التأليف و النشر بدمشق ) العدد 22 ، 2001 ، الصفحة 209 .
(7)- ” التربية الأخلاقية ” ، اميل دوركايم ، ت : السيد محمد بدوي ، مكتبة مصر ، الصفحة 25 .
(8)- مجلة المعرفة ، وزارة الثقافة ( دمشق ) العدد 444 ، لعام 2000 ، الصفحة 17 .
(9)- انظر ” التربية الأخلاقية ” ، الصفحة 44 .
(10)- ” العلم في منظوره الجديد ” الصفحة 93 .
(11)- ” التربية الأخلاقية ” ، الصفحة 44 .
(12)- و هو تحليل العدد 267 – 1 ( العدد 2 مضروباً بنفسه 67 مرة ثم مطروحاً من الناتج العدد 1 ) .
(13)- انظر ” الأخلاق النظرية ” ، الصفحة 178 .
(14)- ” المعجم الأدبي ” جبور عبد النور ، دار العلم للملايين ، لبنان 1979 .
(15)- نخص منها الجبر المجرد و التبولوجيا و المنطق و نظرية القياس و غير ذلك .
(16)- لمزيد من المعلومات انظر ” العلم في منظوره الجديد ” .
(17)- لمزيد من المعلومات انظر ” العلم في منظوره الجديد ” ، الصفحة 85 .
(18)- ” العلم في منظوره الجديد ” ، الصفحة 93 .
(19)- ” العلم في منظوره الجديد ” ، الصفحة 25 .
(20)- انظر مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق ، مج 73 ، ج 2 ، الصفحة 261 و ما بعدها .
(21)- ” المقدمة ” ، ابن خلدون ، دار الكتاب اللبناني ( بيروت ) ، 1962 ، الصفحة 898 .