د. محمود باكير
(هذا البحث مستل من كتاب أصدرته جامعة دمشق بعنوان ” محطات في تاريخ الرياضيات” عام 2019 عن مديرية الأدب العلمي لصاحب المدونة)
ثمة ” روح ” كامنة تسود في كل عصر من العصور, وتعبّر عن نفسها وفقاً لطبيعة السياق. أي أنها تتلون وفقاً لماهية الحقل المعرفي الذي تظهر فيه. لهذا نرى أن الباحثين, في كل حقل معرفي, يعبّرون عنها على نحو مختلف, إن كان بأسلوب مباشر, أو غير مباشر. وهذه ” الروح “, كما تبدو, تعبّر عن النضوج الإنساني, والفكري, الذي وصل إليه الإنسان في حقبة زمنية ما, أو في بيئة معينة. أي أن جوهر المعرفة الإنسانية كثيراً ما يكون ذاته, ولكنه يتمظهر بأشكال مختلفة.
والسؤال الآن: ما علاقة تاريخ الرياضيات بذلك؟ وهل الرياضيات معنية أيضاً بهذه ” الروح “؟ هذا هو عين ما ننشده من هذه الدراسة, حيث سنبيّن أن مقاربة تاريخ الرياضيات يجب أن تكون من خلال البحث عن موقع الرياضيات في المشهد المعرفي الكلي لشعب من الشعوب, وبلورة علاقتها مع مكونات هذا المشهد من حيث التأثير المتبادل.
هذا وثمة مقاربات مختلفة لتأريخ العلوم يشير إليها الباحث المعروف في تاريخ العلوم عند العرب رشدي راشد في مقدمة كتابه ” دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها “(1). أي أنه ليس ثمة طريقة وحيدة لدراسة ذلك. وما نسعى إليه الآن هو محاولة تقديم مقاربة مفارِقة تماماً لما يطرحه رشدي راشد من طرق مختلفة. علماً أن تعدد المقاربات أمر طبيعي في بعض الحقول المعرفية, ومنها الرياضيات ذاتها, فكيف الحال في تاريخ الرياضيات الذي ينطوي على معان عديدة ذات بعد إنساني, واجتماعي. فمثلاً, من المعروف, أنه يمكن دراسة التبولوجيا بعدة طرق مختلفة, وفقاً لاختلاف المنطلقات. أي أنه يمكن بناء التبولوجيا, ببساطة, وفقاً للمفردات غير المعرّفة ( الكلمات الأولية ) terms undefined , إن كانت المجموعة المفتوحة, أو اللصاقة ( الغلاقة ), أو المجموعة المغلقة. علماً أنه في المحصلة يمكن الحصول على النتائج ذاتها, بغض النظر عن ماهية المقاربة. لكن كل طريقة تظهر ملمحاً من ملامح الرياضيات أكثر من غيره.
وإذا عبّرنا عن تلك ” الروح ” التي أشرنا إليها آنفاً, بصياغة أخرى, وذلك من خلال توسّل بعض الأدوات الرياضية, فنجد أن ثمة ” بنية ” من نوع خاص تطفو في فترة زمنية معينة, يلتقطها هؤلاء أصحاب التفكير المجرد ( المفاهيمي ), ثم يعبّرون عنها بمفردات اختصاصاتهم, فتتحول إلى ابتكارات متميزة. وحديثنا عن ” البنية ” هو عن الموازاة بين صورة كلية, وصورة كلية أخرى من سياق مختلف, وليس بين وقائع معينة. أي أن الموازاة بين الأفكار, وليس بين الوقائع. لذلك يمكن أن نعبّر عن هذا – مجازاً – بأن لهما ” البنية ” ذاتها. ونحن هنا نستخدم التفكير البنيوي ( بالمعنى الاصطلاحي الرياضي ) في إماطة اللثام عن ” العلاقات ” الموجودة بين عديد من المعارف, وصولاً إلى علاقة الرياضيات بثقافة المجتمع الذي نشأت فيه. وهذا لا يعني أننا نعمل على توحيد المعارف البشرية, فهذا مستحيل أصلاً لاختلاف سياقاتها. بل إن جلّ ما نحاول القيام به هو اكتشاف تلك المعارف المتشابهة, التي تنطوي على الفكرة ذاتها, وخاصة ما لها علاقة بتاريخ الرياضيات. وقد يكون بعضها ناشئ عن تأثير الرياضيات, أو أن الرياضيات ناشئة عن تأثيرها؛ لذلك يعبّر عديد من الرياضيين عن ذلك بقولهم: ” بأن رياضيات أي عصر مؤشر على ثقافته “. أي أن ثمة علاقة كبيرة, إن لم نقل عضوية, بين ولادة أي فرع من فروع الرياضيات ونشأته, وبين المؤثرات المعرفية المختلفة ( ثقافية, أو اجتماعية, أو غير ذلك ) التي كانت سائدة في الحقبة الزمنية المعنية. أي أن الرياضيات, بلغة أخرى, وباختصار شديد, هي ” منتج ثقافي ” كما أصبح يقول بعضهم, ولم تعد محايدة ثقافياً. وهذا يدفعنا للاعتقاد بأن علاقة الرياضيات بالمجتمع, وبالحياة الإنسانية بمختلف أبعادها, أكثر مما يبدو, وأكبر مما نتوقع.
وعلى الرغم من أن ماهية الوجود الرياضي ذهنية الطابع ( ليست حسية ), بيد أنه لا بد من وجود دوافع للاهتمام بها, ولماذا لم تنشأ في بيئة أخرى؟ وهذا يشير, عموماً, إلى أن ولادة المفاهيم الرياضية لم تكن مجرد طفرة عقلية, أو ترفاً فكرياً لا طائل منه. بل لا بد من وجود دوافع معينة تدفعها إلى البلورة, ثم الخروج إلى حيز الواقع. وقد يكون بعض تلك الأسباب معروفة, وبعضها الآخر ليس كذلك, كونها تمتد إلى أعماق النفس الإنسانية, أو حتى إلى ” روح ” المجتمع الذي ظهرت فيه هذه المفاهيم.
والأكثر من ذلك فمن الملاحظ أنه حتى قبول بعض المبادئ الرياضية قديماً كان يخضع, عند بعض الشعوب, لاعتبارات ليست علمية. فكانت الأفضلية عند هؤلاء للاعتبارات الاجتماعية, وليست العقلية, كما في حالة الحضارة الصينية القديمة, وموقفها من أحد قوانين الفكر, وهو ” قانون عدم التناقض “. ولمزيد من الإيضاح نشير إلى أنه كان يُعتقد بأن موقف المتلقي من الرياضيات, أو من قوانين الفكر الثلاثة ( القوانين الأساسية للمنطق ) المعروفة هو ذاته في جميع أرجاء المعمورة, وعند كل الشعوب قاطبة, بغض النظر عن طبيعة ذهنية هذه الشعوب, أو لغاتها الأم. أي كان يُعتقد, على نطاق كبير, أن أنماط الفكر الإنساني هي واحدة؛ بمعنى أن الجميع يفكرون, ويستنتجون, ويستقرئون, وفق طرائق منطقية واحدة, وأن ” ذائقتهم المنطقية ” ذاتها. وهذا ما أثبت علم نفس الثقافة بطلانه(2). حيث أضحى من المعروف أن الممارسات الاجتماعية يمكن أن تؤثّر في طرق التفكير عند الإنسان. يقول ريتشارد نيسبت: ” وليس لنا أن نتوقع ممن ينبني وجودهم الاجتماعي على التناغم أن يطوروا تراثاً للمواجهة أو الجدل “(3). لأنه عندما تسود في أي مجتمع فكرة اندماج أفراد المجتمع ليكوّنوا نسيجاً واحداً متناغماً فإن ” الحلول الوسط ” بين الآراء المتصارعة والمتناقضة يكون لها دوماً الأولية, بل وهي الملاذ الذي يلجأ إليه جميع أفراد ذلك المجتمع منعاً للتصادم والاختلاف. ومثال ذلك المجتمع الصيني, حيث: “…أن 95 في المائة من الصينيين هم من جماعة عرقية واحدة المعروفة باسم ” الهان “…وهكذا عاش الصينيون لا يشهدون إلاّ اختلافاً ضئيلاً في الرأي, ويرون الشقاق مظنة عقاب يحل من أعلى أو يأتي على أيدي رفاق الحياة… ومن هنا دافعهم لاكتشاف الطريق الوسطى “(4). أي أنه نتيجة لطبيعة المجتمع الصيني من حيث التركيب العرقي, وهامش الحرية المحدود الذي كان يتمتع به أفراد ذلك المجتمع قديماً, أفضى كل ذلك إلى عدم حاجتهم إلى قواعد, وقوانين إدارة الجدل, بما في ذلك مبدأ عدم التناقض. ويضيف نيسبت: ” وعلى الرغم مما حققه الصينيون من تقدم كبير وموضوعي في مجالي الجبر والحساب لكنهم حققوا إنجازاً ضعيفاً في الهندسة بسبب أن البراهين تعتمد على المنطق الصوري, خاصة فكرة عدم التناقض “(5). وإذا توقفنا قليلاً عند الحضارة الإغريقية, التي تميزت بالحرية الشخصية, وموقعهم الجغرافي على طرق التجارة في العالم القديم, واختلاطهم الكبير مع الغرباء, فرض عليهم التعامل مع المتناقضات. فقد: ” اعتادوا دائماً مواجهة مواقف حيث يرون شخصاً يؤكد أن ” أ ” هي الحجة بينما ينزع آخر إلى القول إنه ” ليس أ ” هي الحجة. وهكذا عايشوا تناقضاً وافداً بين آراء الغرباء. وتناقضاً محلياً يعبّر عنه المواطنون من خلال آرائهم داخل الجمعية العامة وفي الساحات العامة. وطبيعي أن يؤدي هذا بالضرورة إلى تطور إجراءات معرفية من بينها المنطق الصوري للتعامل مع مظاهر وأسباب التنافر “(6). وهذا ما دفع أرسطو إلى صياغة قوانين الفكر الثلاث.
وباختصار فإن هذه القوانين عبارة عن عادة ثقافية, على الرغم من الإجماع على تسميتها ” قوانين “, وكثيرون منا يسلّمون بصحتها. علماً أن بعض الرياضيين ( أتباع المدرسية الحدسية في فلسفة الرياضيات ), مثلاً, يرفضون ” القانون الثالث المرفوع “, وكل ما يبنى عليه من نتائج رياضية.
فضلاً عن ذلك, وبغية دراسة حالة كثير من المجتمعات البشرية التي لم تقدم شيئاً ذا قيمة للعلوم الرياضية, فقد شرعتالدراسات الحديثة بالاهتمام فيما أضحى يسمى ” الرياضيات الإثنية ” ethno mathematics ( التي يعدّها بعضهم جزءاً من تاريخ الرياضيات ). ويتجه هذا الحقل المعرفي نحو دراسة الطريقة التي يمثل فيها اللغز الشعبي ( الأحجيات ) الفكر الرياضي البسيط في ذلك المجتمع. أي كيف تفكر بعض المجتمعات العرقية ( خاصة تلك التي لم تنتج معرفة رياضية ) بالأفكار الرياضية, لكن بلغة غير رياضية, من خلال الألغاز المتداولة لديها. أي أن طيف العلوم التي بدأت تتحرى عن هذا النوع من العلاقات أضحى واسعاً وعميقاً؛ لأنه بدأ يتضح أن هذا النوع من الدراسات يساعد على فهم الخلفيات الثقافية للشعوب, وليس فقط بهدف البحث عما أنتجته بعض الشعوب من معارف رياضية. لأن هذه المعارف, بالنسبة إلى هؤلاء, مجرد وسيلة وليست هدفاً. وهذا يؤكد أيضاً على علاقة الرياضيات بالثقافة السائدة في مجتمع معين.
و” للرياضيات الإثنية ” تعاريف عديدة لم تستقر حتى الآن بسبب حداثة عهدها. وهي, ببساطة, دراسة العلاقة بين الرياضيات من جهة, وبين الثقافة السائدة, بمعناها الواسع, من جهة أخرى عند عرق معين. والمعنى الواسع للثقافة هو: مجموعة الأفكار, والمعتقدات, والقيم, والعادات والتقاليد, والاتجاهات فـي مجتمع ما.
ومن فوائد ذلك أنها تساهم في عملية فهم الرياضيات, وفي فهم الثقافة في الوقت ذاته.أي أنها طريق ذو اتجاهين, تغذي فهمنا للثقافة التي كانت سائدة, وكيف تغذت الرياضيات على تلك الثقافة, وكيف عبّرت عنها.
بعض المؤشرات
يقول الرياضي البريطاني المعاصر جون ماكليش John McLeish, في كتابه ” العدد.. من الحضارات القديمة حتى عصر الكومبيوتر “, وهو يتحدث عن المعرفة الرياضية, بغض النظر عن طبيعتها, من أنها: ” ليست شيئاً مستقلاً وقائماً بذاته, بل هي جزء من مجموع التفاعلات البشرية “(7). أي أن المعرفة الرياضية ليست معزولة عن محيطها, ولا تأتي من العدم, بل لا بد من وجود محرضات ” ثقافية ” لولادتها. ويضيف ماكليش وهو يتحدث عن ” الأنظمة العددية ” التي سيتطرق لها في كتابه المذكور: ” سوف يفصّل هذا الكتاب بعض تلك الأنظمة مبيناً العلاقة بينها وبين الثقافة التي ترعرعت فيها “(8). ثم يتابع قوله: ” ففيما كان العرب يتبوأون مركز الصدارة في النهضة العلمية بين القرنين السابع والخامس عشر, كانت أوربا متخلفة جداً في علم الرياضيات, والسبب في ذلك هو التراث المشؤوم الذي خلفه اليونانيون. فبتعاملهم مع الأعداد وكأنها كائنات شبه مقدسة تكمن في أساس عملية الخَلق نفسها, فإنهم أبعدوها عن المعاملات والتحليلات اليومية, وأحاطوها بهالة من الدين والفلسفة”(9). وما يشي به هذا القول هو أن موقف الأوربيين, في تلك الحقبة الزمنية, من الأعداد, كان تحت تأثير عوامل مختلفة بعيدة عن الدوافع الرياضية, وهي عوامل ثقافية كانت سائدة, ولها علاقة بالفيثاغورية, وموقفها من الأعداد. لذلك كان تراث فيثاغورث ( توفي 503 ق.م ) عقبة كأداء في تطور الرياضيات في أوربا. فمن المعروف أنه كان صاحب مدرسة في الفلسفة تعتقد بأن الأعداد تتضمن حقيقة طبيعة الأشياء, وتعزى إليها بعض الصفات الباطنية. وقد ورد في المعجم الفلسفي: ” إن مذهب فيثاغورث يرد الأشياء إلى العد, فجوهرها جميعا أعداد وأرقام، والظواهر كلها تعبر عن قيم ونسب رياضية “(10). ويقول يوسف كرم أثناء حديثه عن الفيثاغوريين, ودورهم في علم الفلك: ” فمضوا يصورون العالم كما شاءت لهم غير حافلين بالواقع, كأنما كانت مهمتهم تكوين العالم لا تمثيله وتفسيره ” فقالوا مثلاً إن العدد الكامل هو العشرة لأنه مؤلف من الأعداد جميعاً وحاصل على خصائصها جميعاً, فيلزم أن الأجرام السماوية المتحركة عشرة ( لأن العالم كامل وحاصل على خصائص الكامل ). ولكن لما كان المعروف المنظور منها تسعة فقط فقد وضعوا أرضاً غير منظورة مقابلة لأرضنا إلى أسفل ليكملوا العدد عشرة “(11). لذلك انصب اهتمام أتباع هذه المدرسة على المغزى الباطني لبعض الأعداد, وليس على خواصها الرياضية. ومن هذه الأعداد التي استحوذت على الاهتمام, على سبيل الذكر لا الحصر, 6 و 28 , حيث أطلقوا عليها صفة ” الكامل ” ( التام ) perfect numbers , لأن أياً منها يساوي حاصل جمع قواسمه ( باستثناء العدد نفسه ). ولذلك, فإن هذه الأعداد تستبطن – من وجهة نظرهم – سحراً خاصاً.
واستمرت هذه النزعة في أوربا عدة قرون. فقد ذكر القديس أوغستاين Augustine ( وهو أول كبير قساوسة كانتربري في إنكلترا, وتوفي عام 604 م ) أنه على الرغم من أن الله خلق الكون كله مرة واحدة لكنه فضّل بأن يستغرق ذلك ستة أيام, لأن ” كمال هذا الانجاز العظيم ” قد اقترن بالعدد ستة الكامل. وفي التعليق على الكتاب المقدس ( العهد القديم ), المنشور باللغة الإنكليزية, أشير إلى أن ” كمال الكون ” قد تمثل بالعدد الكامل 28, وهو عدد الأيام التي يستغرقها القمر في دورته حول الأرض. وكذلك ذكر عالم اللاهوت ألكوين Alcuin أن الأجناس البشرية تنحدر من ثمانية أعراق, وهي التي كانت على متن سفينة نوح, وهذا ” الخلق الثاني ” للبشرية بعد الطوفان أقل كمالاً من الخلق الأول ( آدم وحواء ), لأنه يتألف من العدد 8 غير الكامل.
وهذه الروح أفضت إلى ابتعاد الناس عن الرياضيات, لعدة قرون, بسب ما تثيره, من وجهة نظرهم, من مشاكل في العقيدة. يشير ألفين توفلر Alvin Toffler في كتابه ” تحوّل السلطة “(12) إلى أنه كان يُنْظَر في العصور القديمة إلى أولئك القادرين على إجراء أبسط العمليات الحسابية على أنهم أشخاص خطرين. ويضيف: ” وهناك نص يعزى إلى القديس أوغسطين يؤكد على أن من واجب المسيحيين أن يبتعدوا عن الذين يعرفون الجمع والطرح: فهؤلاء, بالتأكيد ” قد عقدوا حلفاً مع الشيطان “, لحجب النور عن العقل, وإبقاء الإنسان سجيناً في أحزمة جهنم “(13). ثم يضيف: ” ولقد احتاج الأمر إلى انتظار ألف سنة, حتى يظهر أوائل ” معلمي الحساب ” الذين يهيؤون طلابهم للمهن التجارية “(14). وفي ظل هذه الثقافة التي كانت سائدة في مرحلة زمنية معينة من الصعب على الإنسان أن يرتاح لتعلّم الرياضيات. بل والأكثر من ذلك فإن الرياضيات نفسها لا يمكن أن تتطور في حضن هذه الثقافات.
وإذا حذونا حذو المفكر المغربي محمد عابد الجابري ( 1936- 2010 ) في تصنيفه للعلوم وضروب المعرفة في الثقافة العربية الإسلامية إلى ثلاث مجموعات: علوم البيان, وعلوم العرفان, وعلوم البرهان. حيث تتضمن علوم البيان النحو والفقه والبلاغة… ويؤسسها نظام معرفي واحد يعتمد قياس الغائب على الشاهد كمنهاج في إنتاج المعرفة. و” العرفان ” نظام معرفي ومنهج في اكتساب المعرفة, ورؤية العالم, عن طريق الإلهام والكشف, وأيضاً موقف منه(15). وعلوم البرهان تتضمن المنطق والرياضيات, والطبيعيات ( بفروعها المختلفة )…ويؤسسها نظام معرفي واحد يقوم على الملاحظة التجريبية والاستنتاج العقلي كمنهج؛ وقد دعاها الجابري ” المعقول العقلي “, ويعني بذلك المعرفة العقلية المؤسسة على مقدمات عقلية(16). ويشير الجابري إلى: ” أن الحاجة إلى مقاومة السلاح العرفاني الباطني من طرف الدولة هي التي كانت وراء ترجمة علم المنطق وعلوم البرهان “(17). وهذا يشير إلى أن ثمة دوافع ليست علمية, بل أحياناً سياسية, وراء الاهتمام بالرياضيات, وبتنشيطها, لتوظيفها في حقل معين. هذا بغض النظر عن فشلهم في هذا التوظيف, لعدم فهمهم بطبيعة الرياضيات.
وعموماً, فإن رياضيات أي مرحلة تاريخية في حياة البشرية كثيراً ما تكون مؤشراً على اهتمامات هؤلاء المعرفية في مجالات أخرى ليس لها علاقة مباشرة بالرياضيات. لذلك فإن دراسة تاريخ الرياضيات أضحت تستدعي استحضار فلسفة الرياضيات, وعلم اللسانيات, وعلم النفس, وعلم الاجتماع, والتاريخ, وغير ذلك من الحقول المعرفية. وآخرها سوسيولوجيا الرياضيات, أو علم اجتماع الرياضيات ( Sociology of Mathematics ). وهذا العلم, الذي بدأ يشق طريقه بين العلوم منذ الأربعينيات من القرن العشرين, يهتم بدراسة تأثير النظم الاجتماعية المختلفة على جذور المفاهيم الرياضية, وعلى نموها. إضافة إلى تأثير هذه النظم على الطرق الرياضية, وعلى دور الرياضيات كجزء من البنية الاجتماعية, والاقتصادية, في الحقبة المدروسة. كما يدرس هذا العلم كيفية تأثير الأنظمة السياسية ( رأسمالية وغيرها ), وعلى نحو مختلف, على طريقة اكتساب المعارف الرياضية.
وباختصار فإن هناك عديداً من الأمثلة التي تشير إلى ارتباط الرياضيات بالثقافة السائدة في فترة زمنية معينة, وكان لها تأثير كبير على تطورها, وأحياناً شكّلت هذه الثقافة نقاط انعطاف في تاريخها. وللتوضيح سنتوقف عند بعضها بمزيد من التفاصيل.
البرهان الهندسي والخطاب
من الأمثلة التي توضح علاقة الرياضيات بالشأن الثقافي بمعناه الواسع, ما أورده الفيزيائي ومؤرخ العلم البريطاني آلان كرومر Alan Cromer ( 1935 – 2005 ) عن دور المنطق, والجدل, وإدارته, وقوانينه, عند الإغريق, والانتقال من المنطق إلى العلم, حيث يقول: ” العلم من هذه الزاوية امتداد للخطابة. اخترعته اليونان القديمة, واليونان القديمة دون سواها, لأن المؤسسة الإغريقية الممثلة في الجمعية العامة أولت مهارة الجدل مكانة عظمى…البرهان الهندسي هو…أقصى صورة خطابية “(18). ونلاحظ كيف أن كرومر قد ربط الخطاب الرسمي في المحافل العامة بالبرهان الهندسي, وأن هذا ” البرهان ” يعد أقصى صورة خطابية. بمعنى أنه أعلى سقف للخطابات, وصورته الناصعة, التي يطمح الجميع الوصول إليها من خلال محاكاتها. وهذا نابع من أن الخطاب المنطقي, والرصين, بغض النظر عن نوعه, والهدف منه, هو وجه آخر للبرهان الهندسي, لما يتسم به كل منهما بالترابط المنطقي, والاتساق, والوصول إلى نتائج مقنعة انطلاقاً من جملة من المقدمات ( الفرضيات ). أي أن الخطاب يكون مقنعاً كلما اقتربت طبيعته الصورية ( المجردة ) من طبيعة هذا البرهان.
وتعود فكرة ” البرهان الرياضي “, وفق ما يشير إليه الرياضي البريطاني – الأمريكي كيث ديفلين Keith Devlin ( الأستاذ في جامعة ستانفورد Stanford الأميركية ) في دراسته المنشورة في مجلة ” الشهرية الرياضية الأميركية ” ( التي تصدر عن الجمعية الرياضية الأميركية ) إلى تالس الملطي Thales of Miletus (19). فهو صاحب الفضل الذي أدخل مفهومي ” المبرهنة ” Theorem, والبرهان Proof في القرن السادس قبل الميلاد في الرياضيات. ومن حينها بدأت ” البراهين ” تقوم بدورها الحيوي في عمارة البناء الرياضي. ويكفي الإشارة إلى أهمية البرهان الرياضي في حياتنا المعاصرة هو أن فكرة البرنامج الحاسوبي هي محاكاة للبرهان الرياضي؛ لذلك تعد طرق البرهان في الرياضيات من أساسيات علوم الحاسوب التي لا يمكن لأي دارس الاستغناء عنها.
وما يؤكد على علاقة البرهان الهندسي بالخطاب عند الإغريق هو ما ورد في الدراسات المعمّقة الحديثة التي جرت حول مسائل ” الشفاهية ” Orality و” الكتابية ” Literacy , والفرق بينهما(20). يقول والترج. أونج: ” كانت دراسة الخطابة السائدة في كل الثقافات الغربية حتى ذلك الوقت قد بدأت بوصفها أساس التعليم والثقافة اليونانية القديمة. ففي اليونان القديمة, كانت دراسة ” الفلسفة “, كما مثلها سقراط, وأفلاطون, وأرسطو, برغم نتائجها الغنية فيما بعد عنصراً ثانوياً نسبياً في الثقافة اليونانية ككل, لا ينافس الخطابة مطلقاً سواء في عدد ممارسيها أو في آثارها الاجتماعية الفورية “(21). ويضيف أونج عن أهمية الخطابة وأهدافها بقوله: ” إن الهدف من أنواع الخطاب كلها, هو البرهنة, بصورة أو بأخرى, على مسألة من المسائل أو تفنيدها ضد خصم ما “(22). أي أن ديدن هؤلاء كان ” البرهنة ” بصورة أو بأخرى؛ ومن هنا انبثقت ” فكرة ” أهمية وجود ” البرهان ” عموماً, ومدى الحاجة إليه في عديد من المجالات. وهذا ما دفع الإغريق, أو على الأقل أوحى لهم, بتطوير ” البرهان الهندسي “, لأن البيئة الفكرية للهندسة هي الوسط الصالح لاستزراع ذلك, إن لم نقل إنه الوسط الوحيد في حينه. لهذا ظهر صدى أهمية ” البرهنة ” تلك في علم الهندسة. وطبعاً هذا لم يحل دون ظهور ” البرهان ” في العلوم الأخرى, كالبرهان التاريخي, والبرهان الفلسفي,…ولكن يبقى البرهان الرياضي سيد البراهين كلها دون استثناء, لما يتمتع به من نضوج فكري قلّ نظيره, وحجة مقنعة, ومنطق سليم ضمن سياق صوري.
أي أن روح ” البرهان الرياضي ” تدين بولادتها للخطابات في المحافل الإغريقية القديمة. ومن ثم فإن الطبيعة الثقافية القديمة للشعب الإغريقي المتمثلة في الجدل, والمناقشات العامة الجادة والرصينة, أوحت بفكرة البرهان الرياضي, أو على الأقل ساعدت على ولادته. وما يؤكد على أهمية الجدل عند الإغريق القدماء هو ما أشار إليه هوميروس من: ” أن الإنسان إنما تحدده قدرته على الجدل بالقدر نفسه الذي تحدده فيه براعته القتالية كمحارب “(23).
ومن الضروري الإشارة إلى أننا نتحدث هنا عن ” الطبيعة الصورية ” ( المجردة ) لكل من الخطاب والبرهان الرياضي, وليس عن مفرداتهما, أو محتواهما. وإذا أردنا الإيجاز, وأن نستخدم اللغة الرياضية في التعبير عن حالتيهما, فإن لهما ” البنية ” نفسها. وهذا يؤكد على دور ” طبيعة ” البرهان الرياضي في صياغة أي ” منظومة منطقية ” ( بالمعنى المجرد للعبارة ) إن كانت في البرمجة الحاسوبية, أو في الخطابات, أو حتى في الإبداع الأدبي, وفي الرؤى الفلسفية, أو حتى في الحديث العادي إذا أراد صاحبه أن يكون مقنعاً, لما يتسم به هذا البرهان من ترابط,, واتساق منطقي يضبطه إيقاع محدد. لذلك كان أبناء العائلات الغنية في أوربا يُدَرّسون الهندسة الأقليدية لما تتمتع به من درجات عالية من الفكر المنطقي. وفي هذا يقول ديفيد برينان David Brannan وزملاؤه في كتابهم ” الهندسة ” : ” وعلى مدى ألفي سنة خلت, كان أطفال العائلات الثرية القادرون على التعلم يُجْبَرون على تدريب ذهنهم على الفن النبيل المتمثل بالتفكير الرياضي الدقيق, وذلك بدراسة متأنية لترجمات عمل أقليدس “(24). وذلك لما تمنحه لدارسها من ملكة فكرية متميزة, فضلاً عن جمالها الداخلي ( الذهني ). أي أن الوظيفة التربوية للهندسة كانت ملحوظة, منذ القدم, عند بعض الشرائح الاجتماعية في أوربا.
ومن الجدير بالذكر أنه في أيام الإغريق لم يكن معروفاً, من البراهين الرياضية, سوى البرهان الهندسي, لأن الفرع الوحيد في الرياضيات الذي كان مبلوراً, إلى حد ما, في تلك الفترة, هو الهندسة. أما الآن فالكلام ذاته أضحى ينطبق على البرهان الرياضي عموماً, وليس على البرهان الهندسي فقط. لأن للبراهين الرياضية الطرق ذاتها ( المباشر, والمعاكس الإيجابي, والتناقض, والاستقراء الرياضي,…) بغض النظر عن اختلاف أنواعها, أو اختلاف السياق الذي ترد فيه.
إن روعة البرهان الرياضي تتجسد في كونه قائماً على المنطق, وترابط أجزائه, ويتسم محتواه الداخلي بالاتساق, ويفضي إلى نتائج معينة, واضحة, انطلاقاً من مجموعة محددة من المسلمات, أو من الفرضيات. ويكون الخطاب مثالياً, ورائعاً, عندما يحقق كل هذه السمات دفعة واحدة.
وإذا نظرنا إلى الموضوع من منظور الفكر البنيوي في الرياضيات, حيث نركّز فيه على ” العلاقات ” بين المكونات, وليس على طبيعتها, وجرّدنا العلاقة, أو العلاقات, التي يتسم بها البرهان الرياضي, نجد أن الخطاب الرائع يتسم ” بالعلاقات ” ( السمات ) نفسها. أي أن المسألة, ببساطة, هي انزياح لهذه ” السمات ” ( العلاقات بين المكونات ) من السياق الرياضي إلى سياق الكلام ( الخطاب ). أي أن ” معمارية ” الخطاب هي عين ” معمارية ” البرهان الرياضي, بيد أن طبيعة ” الحجارة ” مختلفة في كل منهما.
وما يؤكد على تلك العلاقة, في تلك الفترة الزمنية القديمة, هو أن مسألة البرهان الرياضي لم تكن أصلاً ملحة رياضياً في تلك الفترة الزمنية. بل ولم تتضح أهمية فكرة البرهان الرياضي تماماً إلاّ بعيد اكتشاف ” الطريقة الموضوعاتية ” في الرياضيات axiomatic method ( أو تسمى أحياناً ” الطريقة الفرضية – الاستنتاجية ” ), التي غيّرت من طبيعة الرياضيات, ومن الموقف منها, ومن تعريفها. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن هذه الخطوة تطلبت في حينها ” وثبة عقلية ” من نوع خاص كي ” تجسر ” الهوة بين الخطاب والبرهان الهندسي. وهذا ما كان يمكن أن يتم لولا ما كان يميز الفلسفة الإغريقية من اهتمامها في التجريد.
وقد نذهب بعيداً, أكثر من ذلك, حيث نرجح أن تكون فكرة ” البرهان ” تعبيراً ذاتياً عما أسماه ريتشارد نيسبت ” الفعالية الشخصية ” التي كانت تميز الإغريقي القديم. وتعني هذه: ” الإحساس بأنهم مسؤولون عن حياتهم, وأحرار في العمل حسب اختيارهم. ونجد أن أحد تعريفات السعادة عند الإغريق هو أنها تتألف من قدرة المرء على ممارسة إمكاناته وقدراته لتحقيق التميز والكمال في صورة حياة لا تعرف الضغوط والقيود “(25). ويوضح نيسبت علاقة ” الفعالية الشخصية ” بالذاتية الفردية بقوله: ” واقترن الحس الإغريقي بالفعالية الشخصية بحس قوي بالذاتية الفردية “(26). وفكرة ” البرهان ” التعبير القوي عن هذه الذاتية, لما يحمله من نداء خفي ينشد إثبات الذات.
جبر الخوارزمي وحساب المواريث
ومن الأمثلة الهامة على علاقة الرياضيات بالثقافة السائدة هو ظروف ولادة علم الجبر في مطلع القرن التاسع الميلادي, التي تشير إلى أن الرياضيات ” منتج ثقافي “, وليست محايدة ثقافياً. وهذا ما سنتطرق إليه في هذه الفقرة.
من المعروف أن ” علم المواريث “, أو ” علم الفرائض “, أو ” فقه المواريث ” جزء لا يتجزأ من الفقه الإسلامي. وقد بدئ بتأسيس ” علم الفرائض ” في بداية تأسيس المدارس الفقهية، حيث كان هناك اجتهادات سابقة لذلك لبعض الصحابة, من أبرزهم زيد بن ثابت الأنصاري ( 615-665م ), الذي صاغ أصول التوريث، ونقلت عنه من بعده. إضافة إلى اجتهادات متفرقة من بعض فقهاء الصحابة. ولا يوجد أي دراسات متوفرة حالياً تشير إلى الطريقة الرياضية التي كان يوزع بها الفقهاء هذه التركات. بمعنى أنه ليس من الواضح كيف كان يجري ” حساب التركات ” ( عدد الأسهم الكلي للتركة الذي يتطلب حسابه بعض المعارف الرياضية ) قبل أن يظهر علم الجبر بفضل الخوارزمي في مطلع القرن التاسع للميلاد. وربما كان يجري ذلك, ببساطة, على طريقة الحساب الذهني باستخدام بعض المبادئ الرياضية البسيطة, غير المبلورة. ولكن مع بداية القرن التاسع الميلادي تغير الوضع تماماً عندما قام محمد بن موسى الخوارزمي ( الذي عاش في الفترة الواقعة ما بين العقود الأخيرة من القرن الثامن ومنتصف القرن التاسع للميلاد ) بتأليف كتابه الشهير ” الجبر والمقابلة “, الذي نشره أول مرة حوالي سنة 820 ميلادي. وبدأ بعضهم يطلق على هذه المحطة من تطور الرياضيات, التي كان لها تأثير بيّن في تاريخ الرياضيات, اسم ” رياضيات الخوارزمي “. وسنحاول الآن دراسة علاقة رياضيات الخوارزمي ” بحساب المواريث ” التي لا يمكن أن تنفصم عراها عن مشروع الخوارزمي الرياضي, للعلاقة العضوية بينهما.
يتألف كتاب ” الجبر والمقابلة ” للخوارزمي من كتابين ( قسمين ), متساويين تقريباً في الحجم. حيث يدرس الكتاب الأول منه نظرية المعادلات, والحسابات الجبرية, وحل المسائل المختلفة باستخدام نظرية المعادلات. والكتاب الثاني المُعَنون ” كتاب الوصايا ” يعالج مسائل الإرث والوصايا, وفق ما نص عليه الفقه الإسلامي, من خلال تطبيق الحساب الجبري على هذه المسائل الفقهية. ووفق ما يشير إليه الدكتور رشدي راشد في كتابه ” رياضيات الخوارزمي..تأسيس علم الجبر ” فإن هذا العمل العلمي الذي قام به الخوارزمي: ” كان عملاً تأسيسياً لمادة علمية استمرت تتطور من بعده, عُرِفت تحت عنوان ” حساب الفرائض “؛ فقد حوّل الخوارزمي في الكتاب الثاني هذا, وبفضل الجبر, ما لم يكن سوى حسابات فقهية, إلى مادة في الرياضيات التطبيقية تحمل اسماً ما زالت تحتفظ به حتى عصرنا “(27). ويقصد رشدي راشد بهذه المادة ما أصبح يسمى ” الجبر”. أي أن هذا العلم الجديد في الرياضيات ولد استجابة للتحديات العلمية التي كان يقدمها ” علم المواريث “؛ فضلاً عن أسباب علمية أخرى ساعدت على ذلك ليس هذا المجال لشرحها(28).
وقد كان رشدي راشد يسأل ( في الثمانينيات من القرن العشرين ) في كتابه ” تاريخ الرياضيات العربية بين الجبر والحساب ” : ” ويبقى السؤال التالي دون جواب: لماذا يبدو علم الجبر بالغ النضج بطرائقه رغم أنه مولود جديد ؟”(29). أي لماذا ولد الجبر كبيراً؟ ولم يجب رشدي راشد على هذا السؤال الحيوي في حينه. ومن المرجح أن يكون السبب الرئيس في ذلك هو أن هذا العلم ( الجبر ) وُلِد من رحم علم ناضج قائم بذاته, وليس مجرد تحريض منه, ونعني بذلك ” فقه المواريث “. بمعنى آخر, لأن علم الجبر ولد وهو يمتلك قوامه الأساسي الذي ورثه من ” فقه المواريث “. وتعدّ هذه النشأة, على هذا النحو, فريدة من نوعها في تاريخ الرياضيات. وما يعزّز ذلك ما يقوله رشدي راشد بعد شرح طويل حول علاقة علم الخوارزمي ” بفقه المعاملات ” ( الشرع والحقوق ): ” بهذا المعنى يمكن القول إن أبحاث الفقهاء كانت إحدى نقاط انطلاق هذا الرياضي “(30). وقد استفاض رشدي راشد في كتابه ” رياضيات الخوارزمي ” بربط ولادة علم الجبر مع ” الحسابات الشرعية “, ولكن دون أن يحدد تماماً سبب نضوج الجبر, مع أنه صاحب السؤال الأساسي الذي طرحه في الثمانينيات من القرن المنصرم(31). ومن أهم ما يورده رشدي راشد من أسباب حول ذلك قوله: ” كان مجال الحقوق من بين أشد مجالات البحث نشاطاً في القرن الثامن. فالمجتمع الجديد والدولة الجديدة, اللذان يرتكزان على أساس تعاليم القرآن والحديث النبوي, تطلبا بالضرورة تصوراً للحقوق وللقواعد الشرعية, يختلف عن القواعد الحقوقية الموروثة عن بيزنطة وعن بلاد فارس…فلقد شهد القرن الثامن ولادة ثلاث من المدارس الفقهية الأربع التقليدية, التي تسيطر على الشرع الإسلامي حتى عصرنا الراهن “(32). أي أن علم الجبر أتى ” تعبيراً رياضياً ” عن روح القرن الثامن للميلاد المتجسدة في مجال الحقوق. وهذا يؤكد, مرة أخرى, على: ” أن رياضيات أي عصر مؤشر على ثقافته “؛ لأن ما قام به الخوارزمي من عمل تأسيسي ” لعلم الفرائض ” هو الترجمة الرياضية عن مجال الحقوق الذي كان في عصره في بؤرة اهتمام فقهاء الشرع الإسلامي. وغني عن البيان أهمية هؤلاء الفقهاء في تلك المرحلة التاريخية. حتى أن دورهم تجاوز دائرة التشريع والفقه, ليصبحوا المحرك الأساسي الذي صاغ العقل العربي, وذلك إذا سلمنا بما يقوله محمد عابد الجابري في رباعيته حول ” نقد العقل العربي “(33) التي يشير في متنها, وفي مواضع عديدة, إلى أهمية الفقه في تكوين العقل العربي. والرياضيات لم تخرج عن دائرة هذا التأثير, ولكن تأثرها كان مختلفاً عن العلوم الأخرى.
وما يؤكد على العلاقة العضوية بين الجبر وعلم المواريث هو أن خلفية الخوارزمي العلمية كانت متينة الصلة بالعلوم الفقهية. وهذا ما يشير إليه راشد عن الخوارزمي بقوله: ” ونرى, من خلال كتابه في الجبر, أنه كان ذا تكوين جدي في العلوم الفقهية بحسب تقليد المدرسة الحنفية, أي مدرسة أبي حنيفة نفسه وأبي يوسف والشيباني, وكان يعرف بشكل خاص الحساب الفقهي الذي ابتكروه. ولقد حصّل الخوارزمي كل هذا التكوين العلمي قبل صياغته لكتابه الجبري, أي قبل خلافة المأمون ( 813- 833 م ), كما تشير مقدمة ذلك الكتاب “(34). بيد أن الخوارزمي ذاته لم يفصح, على نحو واضح وصريح, عن منابع مشروعه الرياضي, أو عن مفرداته, على الرغم من أن مشروعه هذا ك ان تقاطعاً بين الرياضيات والفقه الإسلامي, إن لم نقل: إن إيقاعه كان فقهياً خالصاً. وموقف الخوارزمي هذا بعدم الإفصاح ليس مستغرباً لأي دارس لتاريخ الرياضيات. لأن الأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى من تاريخ الرياضيات. ومن الشائع أن نجد أن معظم الرياضيين يضنون جداً بالتعبير عن بذور أفكارهم الرياضية, ولا يفصحون عن مظانها, أو مكامن وحيها. وهذا ما دفع رشدي راشد إلى محاولة إماطة اللثام عن تلك المظان التي شرحها في كتابه ” رياضيات الخوارزمي..تأسيس علم الجبر “. وعملية إماطة اللثام هذه كانت ضرورية لأن كل ما يشير إليه الخوارزمي عن علاقة هذين العلمين ( الجبر وحساب المواريث ) في كتابه ” الجبر والمقابلة ” هو الإشارة إلى سبب تأليفه هذا الكتاب حينما يقول: ” ألّفت من حساب الجبر والمقابلة كتاباً مختصراً, جعلته حاضراً للطيف الحساب وجليله لما يلزم الناس من الحاجة إليه في مواريثهم ووصاياهم وفي مقاسماتهم وأحكامهم وتجاراتهم “(35). بيد أنه لم يوضح من أين استقى منابعه, التي ساعدت على ولادته ناضجاً. كما أن ما أورده الخوارزمي يوضح اتجاهاً واحداً من الاتجاهين القائمين بين هذين العلمين ( الجبر وعلم المواريث )؛ أي يتحدث عن تأثير الجبر في المواريث, دون التطرق إلى الاتجاه المعاكس, الواصل بين علم المواريث والجبر. فالأول يهم دارس الرياضيات أثناء بحثه عن تطبيقاتها, في حين أن الثاني يهم دارس تاريخ الرياضيات. وهذا ما حاولنا التركيز عليه.
وقد استمر تأثير كتاب الخوارزمي ” الجبر والمقابلة ” في تطور الجبر والرياضيات حتى القرن السادس عشر الميلادي؛ لأن الرياضيات بدأت بعدها تدخل مراحل جديدة. في حين أن ما قام به الخوارزمي في حساب المواريث لم يزل حاضراً إلى يومنا هذا في ” علم الفرائض ” الذي بلوره علم الجبر. لذلك فإن دراسة “علم الفرائض ” حالياً تتطلب جهداً كبيراً, من الدارس المعاصر, بسبب أن مفاهيمه, ولغته, وطرائقه الرياضية, لم تزل من وحي الخوارزمي ذاته, وكأن الزمن توقف عند تخوم كتاب ” الجبر والمقابلة “. وجزء كبير من هذه اللغة لم يعد يصادفه الدارس سوى في هذا العلم حصراً, وهذا هو سبب صعوبته على الناس العاديين, وبقائه حكراً على الفرضيين ( العاملين بعلم الفرائض ). ولتوضيح ما نعنيه نستعرض بعض مصطلحاته المتداولة إلى يومنا هذا في الملحق الذي يتبع هذه الدراسة.
وفي الختام نشير إلى أن دراسة تاريخ الرياضيات قد تكون منجماً للعديد من الأفكار المهمة التي تساعد على فهم تاريخ الشعوب التي أنتجت هذه المعارف الرياضية, وعقليتها, وليس مجرد دراسة تاريخ الرياضيات ( كحقل معرفي ) بمعزل عن المؤثرات الخارجية الأخرى.
الحواشي
1- ” دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها “, د. رشدي راشد, مركز دراسات الوحدة العربية ( بيروت ), ط1, 2011.
2- لمزيد من المعلومات انظر: ” جغرافية الفكر..كيف يفكر الغربيون والآسيويون على نحو مختلف…ولماذا؟ “, ريتشارد إي . نيسبت , ترجمة: شوقي جلال, عالم المعرفة ( الكويت ) 312, فبراير ( شباط ) 2005.
3- المرجع السابق, الصفحة 54.
4- المرجع السابق, الصفحة 49.
5- المرجع السابق, الصفحة 45.
6- المرجع السابق, الصفحة 49.
7- ” العدد من الحضارات القديمة حتى عصر الكومبيوتر “, جون ماكليش, ترجمة: د. خضر الأحمد ود. موفق دعبول, عالم المعرفة ( الكويت ), 1999, الصفحة 10.
8- المرجع السابق, الصفحة 15.
9- المرجع السابق, الصفة 15.
10- “المعجم الفلسفي “, تصدير إبراهيم بيومي مدكور – القاهرة، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية: مجمع اللغة العربية, 1403 هـ / 1983 م, الصفحة 142.
11- ” تاريخ الفلسفة اليونانية “, يوسف كرم, مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة ( مصر ), الصفحة 25.
12- ” تحوّل السلطة “, ألفين توفلر, ترجمة: حافظ الجمالي وأسعد صقر, منشورات اتحاد الكتاب العرب – دمشق, الجزء الأول, 1991, الصفحة 177.
13- المرجع السابق, الصفحة 177.
14- المرجع السابق, الصفحة 178.
15- ” تكوين العقل العربي “, محمد عابد الجابري, مركز دراسات الوحدة العربية ( بيروت ), الطبعة التاسعة 2006, الصفحة 333 و 334.
16 – ” بنية العقل العربي “, محمد عابد الجابري, مركز دراسات الوحدة العربية, الطبعة السابعة 2004, الصفحات 252, 253.
17 – ” العقل الأخلاقي العربي “, محمد عابد الجابري, مركز دراسات الوحدة العربية ( بيروت ), 2001, الصفحة 58.
18 – ” جغرافية الفكر “, الصفحة 54.
19 – Amer. Math. Monthly, Vol. 104, 1997, No. 7, ” The Logical Structure of Computer – Aided Mathematical Reasoning “, by Keith Devlin.
20 – انظر: ” الشفاهية والكتابية “، والترج أو نج، ترجمة: حسن البنا عز الدين، عالم المعرفة (182)، الكويت.
21 – المرجع السابق, الصفحة 204.
22 – المرجع السابق, الصفحة 206.
23 – ” جغرافية الفكر “, الصفحة 27.
24 – ” الهندسة “، David A. Brannan & others, ترجمة: مها النبهان, و محمود باكير، المركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر ( دمشق )، 2001.
25 – ” جغرافية الفكر “, الصفحة 26.
26 – المرجع السابق, الصفحة 26.
27 – ” رياضيات الخوارزمي..تأسيس علم الجبر “, رشدي راشد, ترجمة: نقولا فارس, مركز دراسات الوحدة العربية ( بيروت ), 2010, الصفحة 54.
28 – لمزيد من المعلومات حول ذلك انظر المرجع السابق.
29 – ” تاريخ الرياضيات العربية بين الجبر والحساب “, رشدي راشد, ترجمة: حسين زين الدين, مركز دراسات الوحدة العربية ( بيروت ), الطبعة 1, 1989, الصفحة 21.
30 – ” رياضيات الخوارزمي “, الصفحة 14.
31 – انظر الصفحة 72 وما بعدها من ” رياضيات الخوارزمي “.
32 – ” رياضيات الخوارزمي “, الصفحة 73.
33 – للجابري أربعة كتب في نقد العقل العربي, هي: تكوين العقل العربي, وبنية العقل العربي, والعقل السياسي العربي, والعقل الأخلاقي العربي.
34 – ” رياضيات الخوارزمي “, الصفحات 48 و49.
35 – المرجع السابق, الصفحة 166.
لمزيد من المعلومات حول يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف انظر: أبو الفرج محمد بن أبي يعقوب بن النديم, ” الفهرست “؛ يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف, وكتاب ” الخراج “. ولمزيد من المعلومات حول حياة وأعمال محمد بن الحسن الشيباني انظر: أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي, ” تاريخ بغداد ” (القاهرة: مكتبة الخانجي, 1931), مج 2, الصفحة 172 – 182.
الملحق
سنقدم بعض المفاهيم الرياضية البسيطة الواردة في علم الفرائض من باب الاطلاع, والتي لم تزل تستخدم إلى يومنا هذا.
ومن أهم مكونات علم الفرائض ” الحساب “, ويعني في اصطلاح الفرضيين: تأصيل مسائل الفرائض, وتصحيحها، وقسمة التركات. و” التأصيل “, اصطلاحاً, عند الفقهاء والفرضيين, معرفة أصل المسألة؛ ويُقصد به الحصول على أقل عدد, يمكن استخراج سهام كل وارث منه بدون كسر, فإنه لا يقبل في حل المسائل الفرضية إلا بعدد صحيح. وأصول المسائل هي الأعداد: اثنان, وثلاثة, وأربعة, وستة, وثمانية, واثنا عشر, وأربعة وعشرون ( انظر, مثلاً, الرحبية في علم الفرائض, شرح سبط المارديني, حاشية العلامة البقري, تحقيق: د. مصطفى ديب البغا, الصفحة 21).
والعلوم الفقهية تحدّد من هم الورثة في كل حالة إرث, وما هي نسبة كل منهم وفق الشرع, دون تحديد لأي منهم مقدار حصته من ” الكل “. أي دون تعيين ” عدد الأسهم ” من هذا الكل لكل منهم. وهذه هي مهمة علم حساب المواريث الذي يعتمد على الجبر في ذلك. لأن المسألة انتقلت من الجانب الفقهي إلى الجانب الرياضي.
و” الفرائض ” جمع فريضة, بمعنى مفروضة, أي مقدّرة, لما فيها من السهام المتعددة, أي معرفة ما يخص كل وارث من التركة. وعلم الحساب هو الموصل لمعرفة ما يخص كل ذي حق حقه من التركة, وموضوعه التركات.
وثمة مفاهيم ( رياضية في محتواها ) أخرى مرتبطة بتوزيع التركات, منها ما يسمى: ” النسب الأربع “. وهذه النسب هي :المماثلة، والمداخلة، والمباينة، والموافقة. وهي نوع من أنواع الحساب. وتعد من أهم مباحث الحساب التي يحتاجها الفرضي في حساب الفرائض؛ حيث تتوقف معرفة التأصيل والتصحيح عليها .و” المماثة “, بين عددين, اصطلاحاً, تساويهما. و” المداخلة ” بينهما, اصطلاحاً, هي انقسام أكبر العددين على أصغرهما بلا كسر. و” المباينة ” بينهما, اصطلاحاً, ألاّ يتفق العددان بجزء من الأجزاء, بل يختلفان. و” الموافقة ” بينهما, اصطلاحاً, أن يتفق العددان في القسمة على عدد آخر ( غير الواحد ), ولا ينقسم الأكبر على الأصغر إلاّ بكسر.
كما أن ثمة بعض العناوين الفرعية الهامة ( التي تنطوي على معان رياضية ) التي لها علاقة مع هذا الحساب, منها:
– ” وجه انحصار النسب بين الأعداد بالنسب الأربع: “
وجه ذلك: أن كل عددين فرضًا لا يخلو: إما أن يتساويا في المقدار أو لا، فإن تساويا فالنسبة بينهما ) مماثلة(. وإن اختلفا فلا يخلو : إما أن يكون بينهما اتفاق في جزء من الأجزاء أو لا؛ فإن لم يكن بينهما اتفاق فالنسبة بينهما )مباينة(. وإن كان بينهما اتفاق فلا يخلو: إما أن ينقسم الأكبر على الأصغر أو لا؛ فإن انقسم الأكبر على الأصغر فالنسبة بينهما )مداخلة(. وإن لم ينقسم الأكبر على الأصغر فهو )موافقة(.
– ” فائدة النسب الأربع “:
للنسب الأربع فائدة في تأصيل المسائل, وتصحيحها, وقسمة التركات. كما أنه يُحتاج إليها في بعض أبواب المواريث.
– ما تستعمل فيه ” النسب الأربع: “
تستعمل جميع النسب الأربع في النظر بين الرؤوس مع بعضها، وبين المسائل مع بعضها، وبين مقامات الفروض. وتستعمل الموافقة, والمباينة, خاصة في النظر بين الرؤوس والسهام وبين المسائل والسهام. ( لمزيد من المعلومات انظر, مثلاً, ” تسهيل حساب الفرائض “, د. سعد بن تركي الخثلان, المكتبة التدمرية (الرياض), 2012 ).
– كيفية استخدام ” النسب الأربع “:
وإذا استعرضنا بعض الطرق التي لم تزل تستخدم حتى الآن في علم المواريث, والموجودة في أي مرجع يتناول هذه المسائل, نجد ما يلي :
أولًا : كيفية استخدام النسب الأربع لعددين:
1- المماثلة:
إذا كان بين العددين مماثلة فيكتفى بأحدهما.
2- المداخلة:
إذا كان بين العددين مداخلة فيكتفى بالأكبر.
3- الموافقة:
إذا كان بين العددين موافقة فيؤخذ وفق أحدهما ويضرب في العدد الآخر. و” الوفق : “هو حاصل قسمة أحد العددين على محل الاتفاق. مثال ذلك: إذا كان لدينا العددان 6 و 8 نجد أن بينهما موافقة, ومحل الاتفاق بينها هو العدد 2 ( لأن العددين ينقسمان عليه دون باق ). ثم نأخذ أحد العددين ونقسمه على محل الاتفاق لنحصل على ” الوفق “, فيكون: .3=2÷ 6 ثم نضرب ” الوفق ” في العدد الآخر فنحصل على جزء السهم فيكون: 3 x 8 = 24. وإذا كان العددان يتفقان في القسمة على أكثر من عدد فنأخذ الأكبر. ولو أخذنا غيره صح، لكن الأخذ بالأكبر أكثر اختصارًا.
والسؤال الآن الموجه للدارس: كيف يمكن التعبير عن تلك التعاريف, والعمليات الرياضية بالمفاهيم الرياضية العصرية المتداولة؟